الدُّكْتُور بَلِيْغ حَمْدِي إسْمَاعِيْل – كلية التربية، جامعة المنيا، مصر
تظل كلمة التنوير شائكة وشائقة لأولئك المتربصين والمكترثين بكل منتج كلامي أو كتابي يتعلق بالعقل المهموم بتقصي العقيدة أو النصوص التراثية أو حتى الإحداثيات المجتمعية ، وتستحيل الكلمة أعني التنوير مرادفة لكلمة السيطرة أو الاستلاب الذي يسعى إليه الراديكاليون بغير يقين عن طريق المناقشة أو الحوار وإثارة الأسئلة ، ولاشك أن التنوير الفكري الذي صار قرينا طبيعيا ومنطقيا لفكرة التجديد أحدث حراكا عجيبا صوب كل تمييز أو استقطاب أو عنصرية ، الأمر الذي يدفع بقطيع كبير ، أو بالأحرى بفئة كثيرة من العقول لمنع تداول مثل هذه الكلمات المفخخة على شاكلة التنوير والتجديد والاجتهاد والثورة الفكرية ، كونها جميعا تشكل منظومة خطيرة تهدد عروش الأصوليين لا بالمعنى العقائدي فحسب ، بل بمعانيها العامة المتصلة بالثقافة والاجتماع الإنساني .
ورغم إخفاقات التنوير أحيانا بفضل بعض السياسات التي ارتبطت بفترات حكم متسلطة ، وبرغم بعض العثرات المتوالية التي وقع فيها التجديد والاجتهاد إلا أن هناك عقولا لاتزال تتربص برواد التنوير والاستنارة وتخشاها بقدر يفوق خشيتها من المسدسات والبنادق ، والحقيقة أن كلا الفريقين التنويريين والراديكاليين ينطلقون من نقطة واحدة ألا وهي النص القرآني الثابت والقطعي بغير شك أو ظن ، لكن يظل الاختلاف قائما بينهما في المنهج بعد لحظة الانطلاق ؛ فأهل التنوير والاجتهاد يصرون على إعمال العقل في كافة النصوص الدينية البشرية التي أقامها بشر يختلفون في الروافد الثقافية والبيئات الاجتماعية وظروف الطرح الفكري نفسه ، أما الراديكاليون فهم رهن النص البشري الذي سطر باعتباره مرجعية أصيلة لا تقبل فكرة المساس بها بل يدافعون عن نصوص كتبت في فترات تاريخية عصية على التأويل حتى يومنا الراهن وأحيانا نجد أصحاب هذه الكتاب والنصوص مطعون في يقينهم المعرفي .
ولقد أثارت قضية الانتحال التي فجرها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في كتابه المثير في الشعر الجاهلي والمنشور في عام 1926 عدة مسائل لاتزال شائكة منها الشك وترويج الظن في تراثنا الفكري والثقافي ومما روج للكتاب هو إثارته لإعمال العقل أيضا في تراثنا العقائدي ، والتمس الرائد التنويري في كتابه المنهج الديكارتي الذي أعمل الشك في كل النصوص ، وبالرغم من أن طه حسين المجدد دوما بآرائه وأفكاره قد راجع ما خطه في كتابه بعد ذلك وجاء منشورا بعنوان في الأدب الجاهلي وحذف فيه ما حدف إلا أن النسخة الأولى تظل عالقة بالأذهان والعقول والكتب أيضا التي تناولت الكتاب بالنقد والتأويل والعرض .
ولربما توافدت ذكرى كتاب الدكتور طه حسين إلى ذهني وأنا أتابع مكترثا تارة ومشدوها تارة أخرى الثورة الإعلامية بوسائلها ووسائطها التكنولوجية صوب المسألة الجغرافية المتعلقة بجزيرتي تيران وصنافير ، لاسيما وأن المسألة تم تداولها عن طريق قطاع طويل وكثير من غير المتخصصين لا في ترسيم الحدود أو الجيولوجيا أو الجغرافيا الطبيعية الأمر الذي أكسب القضية حضورا قويا على شبكات التواصل الاجتماعي بين مدافع عن الأرض والعرض والوطن والمواطن ، وبين آخر يرى أن الجزيرتين تتبعان الكيان السعودي منذ تاريخها الجغرافي الضارب في القدم نسبيا ، وبين ثالث يؤكد أنه لا يعرف أكثر من الحكومة طبقا للقاعدة التاريخية التي كرس لها الفنان الاستثنائي عادل إمام في مشهد مسرحي ضمن مسرحيته شاهد ماشفش حاجة .
لكن وسط كل التكهنات والمناقشات الرسمية والفضائية وحوارات المصاطب الإلكترونية بين رواد الفيس بوك وتويتر انتهت القضية بنسب الجزيرتين إلى المملكة العربية السعودية لكن الحقيقة أن الشارع المصري وسط انشغاله اليومي المكرور بقضاياه شبه التافهة والمهمة أيضا سيظل منشغلا ومهموما ومتحفزا لفتح هذا الملف الشائك تماما كما يظل كتاب الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي الطبق الأشهى على مائدة الثقافة العربية في القرن العشرين .
وبالنسبة لرأيي في المسألة الأخيرة أعني وأقصد نسب الجزيرتين اللتين لم تخضعا إلى تحليل الشفرة الوراثية فأنا للأسف من أبناء الجيل الذي تعلم الجغرافيا من كتاب الوزارة العقيم والعقيمة آنذاك ، ومن الجيل الذي لم تمكنه وزارته للذهاب إلى معهد للمخطوطات أو لمكتبة الإسكندرية أو للمجمع العلمي طوال سنوات الدراسة المكلومة ، ولسوء الحظ أيضا أنني من هؤلاء المساكين الذين لم تتح لهم فرصة السياحة الداخلية المنظمة والممنهجة والمدروسة لزيارة كل بقاع مصر ضمن خطة نشاط واضحة وصحية لمصر المحروسة ، أنا من هذا الجيل المحروم .
هذا الجيل الذي لم ير معلما للجغرافيا أو للتاريخ يوضح له أن مصر ليست تلك التي في كتاب الدراسات الاجتماعية بل هي حقيقة يمكن تحقيق يقينها من وسائل متعددة ومتنوعة لكن يبدو أن القاعدة كانت وستظل أننا دخلنا المدرسة مرورا بالجامعة بغرض اجتياز الامتحان اللفظة المأخوذة من المحنة والمحن والابتلاء ، لا من أجل تحقيق المعرفة التي تشارف اليقين ، وللأسف أن درس الجغرافيا كان وسيظل أيضا من خلال خريطة صغيرة الحجم صغيرة التفاصيل ضعيفة الألوان بليدة العرض ، فكيف لجيلي أن يحكم بشأن قضية هو في الأصل غير مؤهل لرصدها أو اتخاذ قرار بشأنها .
ومثل هذه المسائل التي ترد إلى أذهاننا من قضايا فكرية أو جغرافية تجبرنا على إعمال العقل في كل معلومة ترد بكتبنا المدرسية وبكل لفظة يتفوه بها أساتذتنا بالمدارس والجامعات ، وشئ مؤسف حقا حينما نستيقظ على حقائق جغرافية نقف أمامها بغير يقين معرفي نلهث هنا وراء مجلس النواب ليخبرنا بمصير الجزيرتين ، ونهرول هناك وراء محترفي شبكات التواصل الاجتماعي الذين يؤكدون بقوة من خلال معلومات وكلمات وعبارات تدغدغ المشاعر والعواطف بأن الجزيرتين مصريتان .
ومثل قضية الانتحال ومسألة جزيرتي تيران وصنافير مثل حديث الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب الذي صرح فيه بأن النقاب ليس فرضا أو سنة ولا ثواب لارتدائه ولا عقاب لتركه ، هذا التصريح الذي يجدد فتح باب النقاش مجددا حول طبيعة الزي الإسلامي أو الديني عموما رغم اعتراف إمام العصر الحديث الشيخ محمد متولي الشعراوي بأن النقاب فضيلة وليس فريضة إلا أن الشأن الذي يعنيني كقارئ أولا قبل كوني كاتبا هو أن التدين لا يقف فقط عند حدود المظهر أو الشكل فحسب فأرقى أنماط التدين هو السلوك القويم والمعاملة الحسنة والقدوة الطيبة والإحسان في القول والفعل والنية أيضا . وأشار فضيلة الإمام إلى أن ارتداء النقاب ليس مكروها أو ممنوعا ، وأشار نصا ” هو أمر مباح ومن لا ترتدى النقاب لا شئ عليها ومن ترتديه لا يمكن لى أن أقول لها أنكى تفعلى أمرًا شرعيًا تثابى عليه.. هو أمر فى دائرة المباح.. هو كما أنك تلبس خاتم أو تخلعه أى أنه من باب الزينة لا يتعلق به أمر أو نهى ولا ثواب أو عقاب ” .
وبمجرد قراءة وتداول هذا التصريح الذي أدلى به القامة المستنير الإمام الأكبر شيخ الأزهر ستقوم ثورة الأصوليين مجددا ، وسيتناولوه في خطبهم وكتبهم للرد عليه ، وعلى الجانب الآخر سنجد قطاعا كبيرا من رجال الدين والسيدات المتبرجات يدافعن عن رأيه ، وتابعه بتصريح آخر يؤكد أن زواج المتعة حرام ومن يفتي بإباحته خائن لفقه السنة ، وبين الشاطئين يظل المواطن الذي كان في يوم من الأيام تلميذا مسكينا يذهب إلى المدرسة يدعي ويظن ويكذب على نفسه وعلى أبويه وأقاربه وبائع الخضروات ومحصل الكهرباء بأنه يذهب يوميا للمدرسة كي يظل مستنيرا لكنه في حقيقة الأمر سيذهب ليحفظ بعض النصوص ويتناولها بشئ من تحليل المفردات والجوانب البلاغية أما القضايا الفقهية فهو بمنأى عنها وعن كنهها ولا عزاء لوزارات التربية والتعليم التي تعاقبت على مصر منذ معرفتها بكلمة وزارة .
باختصار شديد المشكلة في كافة قضايانا السياسية والاجتماعية وربما الاقتصادية أيضا أن المدرسة لم تلبي احتياجاتنا ودوافعنا ورغباتنا المعرفية ، ولم تحظ رغباتنا الفكرية بمن يلبيها فصرنا لا نعرف لليقين سبيلا ، ولم نفظن لحق المعرفة طريقا ، فأصبحنا كما نحن الآن فريسة سهلة القنص لكل وسائل الإعلام وضحية لا تستحق الشفقة لكل معرفة منتقصة وليست نلقصة فحسب ، وربما ما نحن فيه يكون دافعا حقيقيا لوزارتي التعليم العالي والتربية والتعليم للتغير من سياستهما التي تبدو معتادة لا تستهدف إعمال العقل .
وأكرر بغير ملل أن المدرسة ينبغي أن تكون عالما افتراضيا ممثلا لواقع المجتمعين المحلي والعالمي وأن تكون فرصة استثنائية لقنص المعرفة واكتساب أدواتها واكتشاف المستقبل بطرائق علمية ، فهل من مستجيب لنداءات تبدو إنسانية ؟ .