الأفق الأنطولوجي في الأعمال الفنية للتشكيلي نور الدين غماري | محمد مقصيدي
محمد مقصيدي
إذا كان العمل الفني يرتهن لشروط الوعي الجمالي وطبيعة الإحساسات بالذات والأشياء، فإن اللوحة الفنية عند نور الدين غماري نجدها تسافر بين الواقع والمتخيل، لتحفر لنا عوالم جديدة تعكس الرؤيا الإستيطيقية لدى خالقها. وإذا كان الخيال والفهم والروح والذوق هي مطاليب ضرورية للفن الجميل كما يقول كانط، فإن هذه العناصر تجتمع داخل الأثر الفني للفنان التشكيلي غماري لتقدم لنا الوجود كصورة، ولا نعني هنا الوجود المادي للواقع، بل الوجود الذي يتشابك فيه الممكن واللاممكن، المادة واللامادة، الذات والموضوع، مشرعا بذلك نوافذ على أسرار الكائن، وفاتحا كوة على الروح باعتبارها التمثل الأعلى للكائن عند هيجل…
في لوحاته يتكرر ذلك السيلان والانسياب للون على شكل نزيف، وكأن غماري يؤكد على جرح العالم، بل يأخذ هذا الامتداد طبيعة جديدة وغير معتادة كسيلان الأزرق عن الأصفر، أو ما يمكن أن نعبر عنه بولادة الحلم من أعماق الشحوب والموت، أو انبعاث الحركة من الجمود… في نفس اللوحة حيث الأصفر المحاط بدائرة، بالكاد يلامس الفضاء خارجها، يتمدد الأزرق خارج الدوائر، إنه الأفق اللانهائي، إنه المرآة لعالم الكون والفساد، إنها إرادة الوعي البشري في مجاوزة ذاته، وآلامها.
الدوائر المفرغة في أعمال هذا الفنان، ليست فراغا، بل هي كما يقول ميرلو بونتي في كتابه المرئي واللامرئي ” ليس فراغ اللاشيء وإنما هو فيض اللاوجود “، الفكرة التي تحيلنا على مقولة ابن عربي أيضا حين يعتبر أن الكون فائض عن اللزوم، مما يجعلنا نتعامل مع الفراغ أو الغياب كمفتاح لما لم تتسع له اللوحة، وكإشارات لما لا يمكن للمعنى أن يقوله.
تتعدد في أعمال الفنان التشكيلي المغربي نور الدين غماري مجموعة من المدارس الفنية التي تلقي بظلالها دون أن تضعه رهين أسوار مرجعية فنية بعينها، وهذا ما يمنحه مساحات شاسعة للتجريب والحرية. إذ تحضر مثلا الكاليغرافيا كخلفية ( جزء فني وعارض من عوارض اللوحة )، أو كجوهر للوحة نفسها. وهذا ما يجعلنا نخوض كمتلقي مغامرة الوقوف وجها لوجه أمام سؤال الهوية والتاريخ والثقافة كطرح أساسي داخل أعماله الفنية كما هو الحال داخل التشكيل المغربي.
وعلى ضوء الحديث عن التاريخ في العمل الفني للفنان التشكيلي غماري، فإن الزمن له حضوره الشاسع في معظم لوحاته، من خلال مفاهيم مصاحبة كالحركة، والظل، هذا الزمن الذي لا يأخذ فقط بعدا فيزيائيا، بل أبعادا نفسية وأنطولوجية.
الفنان التشكيلي نور الدين غماري يخوض إلى جانب تجاربه الفنية المتعددة، تجربة يكاد ينعدم الاهتمام بها في وقتنا الحاضر، وهي تجربة الصباغة التشخيصية، فالفنان يجعل من الشخوص عناصر مكونة أساسية لرؤيته الفنية، مؤكدا بذلك على الطرح القائل بإعادة إنتاج العالم وليس فقط محاكاته، أو كما يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر في مؤلفه أصل العمل الفني: إن العمل الفني يفتتح وجود الموجود على طريقته . ويتم هذا الافتتاح في العمل الفني ، بمعنى الكشف، بمعنى حقيقة الموجود. حقيقة الموجود تضع نفسها في العمل الفني. الفن هو وضع الحقيقة نفسها، التي تحدث بصفتها فنا…
وبهذا يكون الفنان التشكيلي نور الدين غماري قد وضع بصمته كفنان متعدد التجارب في المشروع التشكيلي المغربي، وهو يسلك مساره نحو المستقبل.
التشكيل المغربي الفن التشكيلي محمد مقصيدي نور الدين غماري 2017-05-15