الموت : الصديق الصدوق | سعيد بوخليط
سعيد بوخليط
(1)
خلال أسبوع واحد ، وبين حالة الفقد الأولى والثانية، فارق يومين فقط، وصلني أثيريا نبأ رحيل اثنين، أعرفهما تمام المعرفة .ربما الحالة الأولى، كانت أقرب إلى المستساغ والمألوف، مادام صاحبتها اخترقت بسكينة وتؤدة، جل مراحل العمر البيولوجية والمفترضة. أما بخصوص الثانية، فجاء مثل سقطة نيزك هائلة، لأن صاحبها هذه المرة، غادر بغير إشارة، في غفلة وبسرعة. ليس مهما، الكشف عن الحيثيات، لكن المهم من مات قد مات، ومن ليس كذلك فما عليه سوى الترقب. طبعا، قبل الواقعتين الحديثتين، اندثر كثيرون :أقارب، أصدقاء، أحباء، رموز. تراوحت حدة الجرح لدي، حسب كتلة المشاعر التي انتزعها مني، كل واحد من هؤلاء، خلال حياته، وهي ليست على قرار ثابت، تزداد زخما أو تخبو خبوا، تتسع وتنكمش، تبعا لسياقات وضعي السيكولوجي .مثلا، بين الفينة والثانية، قد أحن بقوة إلى أبي الذي رحل على حين غرة فتيا، مقتفيا آثار الآلهة الصينية. يسكن فؤادي وحواسي، بل كُليتي أكثر بكثير مما أسكن نفسي. أشعر بحرقة شديدة جراء الاشتياق، يغمرني انهيار قاتل، أتلاشى دفعة واحدة .ثم أحيانا ثانية، أصير حاملا لذاكرة خرتيت، بلا جغرافية للإرساء، وأظنني بالمطلق ابن نفسي، جئت من نفسي، أغفو عنها،أبتعد حينا، ثم أعود إليها. كم الأسماء الراحلة، التي أتحسس صمتها خلال لحظات صمتي وسكينتي؟ ربما رأيتها رأي العين البصيرة، ضدا على الجميع، أناجيها حتى أبعد نقطة زمانية في الدجى، وحدي وأنا بصدد تقليب مذكرات ما عشته غاية الآن. أتوخى إدمان عشق العزلة، لا أتصالح مع نفسي إلا خلال نفسي. صرت مفرط الحساسية، نحو أبسط تجليات الضجر.العزلة، معانقة للأسئلة الأنطولوجية التي لا محيد عنها ولا فكاك منها. العزلة، تمرن على الموت، بل موت للموت،هي الحياة.في أي شيء تختلف العزلة عن الموت؟بالتأكيد،الواحدة جنس الأخرى.العزلة، ولادات غير مقنّعة،وجود في الوجود وللوجود.الموت نهاية للولادة المقنّعة.نولد،نتوهم و نُوهم ثم نموت في نهاية المطاف.
(2)
حينما تلاقي موتا،معلوما أو مجهولا،حسيا أو أثيريا،يتوقف الزمان الفيزيائي لفترة،ربما صغرت أو كبرت،لكنها أساسا صاغت زمنا مفارقا :كم الأشخاص الذين تغير مجرى وجودهم مطلقا،حين اختبارهم صدمة الموت؟الحياة إقرار،الموت تأمل. الحياة معطى،الموت خلق.الحياة شعور،الموت موقف.الحياة نسيان للتذكر،الموت تذكر بلا نسيان.تذوب تلك المسافات الجليدية بين الإنسان وحقيقته،باعتباره أصلا، كائنا ل :اللا-مكان، اللا-تجذر،الرحيل، الغياب، الاختفاء، المضي، الموت .
(3)
يستحوذ علي الرحيل باستمرار :رحيلي، رحيل من عرفتهم،لاسيما الأقرب إلى قلبي.حتى لو اقتنعت دائما،أني أسكن ذاتي، وذاتي تسكنني،مكتفيا تمام الاكتفاء،بحواراتنا الصامتة،وتجاورنا الشفاف،فإني أيضا أحس بهالة الفقد ووقعه،ولا أقول حجم الفراغ،مادمت لم أشعر يوما أن حياتي ممتلئة بأي كان،أو في حاجة لوجود آخر.يغمرني الحزن،أحن بخشوع مقدس،وانكسار جليل ومهيب،أجلس القرفصاء واضعا رأسي بين يدي،مستعيدا مثل ومضة فيلم تتكرر بلا توقف،تلك اللحظة أو اللحظات التي جمعتني بمن غادر.يصحبني صحبة خيالي رفقة حركاتي وسكناتي،أتخيله بلحمه وشحمه أمامي عابرا الشارع،أكاد أنادي عليه،أحاول تلميع ذاكرتي وتنشيطها،قصد تشظية جل تفاصيلها،كي أعيد تركيب صورته مجملة،على نحو مثالي،متساميا بكينونته.لا أعرف،هي جدلية الحضور والغياب !بحيث يغيب بحضوره،ويحضر بغيابه.
(4)
أحب أن أحيا الموت وحيدا،مجردة بلا طقوس ولاعادات اجتماعية ولا تداول مكرور. مجردا،من الزيف المجتمعي. الموت، لحظة صادقة أكبر من الصدق. الموت، قضية محض فردية. ربما الولادة، مصدرها مزاج ثنائي لرجل وامرأة .أما الموت، فلا تنزاح عن إطار القرار الأحادي والمصير الشخصي. يولد الفرد يخترقه ال”نحن”حتى آخر مشهد من حياته. يموت الفرد، ينتشل ذاته من هذا ال”نحن” منذ أول مشهد.لا أرتاح، بل لا أجد معنى لطقوس ”الحزن”الجماعي :ولائم، تعازي،مشاعر نمطية جافة باللغة،تفقد الموت هالتها الأنطولوجية،وتنحدر بها إلى حالة رأسمالية :ربح وخسارة.أتبين حقا، أتلمس، أتنفس، وأخترق خلوة الميت، مستوعبا حينئذ مبررات رحيله،فقط،عندما أسرقه من الجموع. أجعله وحيدا في وحدته مع وحدتي،كما هي حقا وحدة الولادة ووحدة الحياة التي تكون حقا حياة، ثم وحدة الموت الجديرة بهذا الاسم.
(5)
ذاكرة الموت واهية وهشة جدا،حين المواراة،وتربتك لا زالت خصبة، ولحدك مبللا، بالكاد قد يتذكرك المستمرون في الحياة،كنت ضيفا ثقيلا. بالتالي،الموت مصير فردي بالمطلق،تتخلص فيه الذات من وهم الآخرية كما دأبت حين الحياة.أن تموت،يعني تظفر بذاتك ثانية،تتوحد ب أناك دون وسائط ولا ستائر ولا مرايا مهشمة ولا مسافات ولا مساحيق ولا مسافات ولا مجازات.كم هو غريب ذاك الانقلاب الهستيري من بكائيات التمسح بالنعش،إلى جلسة للتسامر والمرح خلال أمسية ذات اليوم،وإطلاق القهقهات إلى آخر مداها؟.
2017-02-27