د. عبد الله الشيخ -ناقد فني
غادرنا الفنان التشكيلي إبراهيم صدوق (مواليد 1948 بالدار البيضاء) في صمت رهيب شبيه بصمت الناسكين المتعبدين. لم تمر سنة 2014 بدون غياب وفقدان، إذ استرسل عنوان الفجيعة واليتم الرمزي مع رحيل الفنان الحداثي فريد بلكاهية. اللافت للانتباه هو أن رحيل مبدعنا إبراهيم صدوق صاحبه سكون غريب داخل المشهد الإبداعي المعاصر بالمغرب، حيث لم تتداوله الأوساط الفنية والإعلامية إلا لماما. هذا هو قدر مبدعنا الذي توزعت حياته الوجودية بين الدار البيضاء وبون، منشغلا أيما انشغال بالفنون التصميمية في أبعادها المحلية والأكاديمية، وكذا بسحر التركيبات المعمارية (غالبا بتقنية الكولاج على القماش) التي تسم المناظر الحضرية، ومشاهد الحياة اليومية، والبنايات السكنية. صنف نقاد الفن بالديار الغربية هذه التجربة في مجال الإبداع التركيبي ذي البعد البنائي على طريقة الفنانين الروس. فكل ما يحيل على المجال المعماري يثير مخيلة هذا المبدع النبيل ويستفز حساسيته الداخلية وفق مقصدية علنية: تقديم مضمون تشكيلي يبرز ذاكرة الأمكنة بكل ألوانها وأنوارها المتجانسة والمتشاكلة عبر معالجة لونية دقيقة ومدروسة تعتمد تقنيات متعددة (صباغة زيتية، صباغة مائية وكولاج).
يغدو الإبداع، إذن، بمثابة زاد رمزي لمسافر استهوته جماليات الأمكنة وعراقة الأزمنة، هو المفتون بحركية الأسواق الشعبية وحياتها الداخلية، وكأنه بصدد مصالحة مع الذات الجماعية في تلقائيتها العذرية. أليس الأمر نوعا من الهروبية (Evasion) لمقاومة قساوة ووحشية الاغتراب الاضطراري، ومواجهة نزعات المحو والنسيان التي تكتسح أزمنتنا المعاصرة. لم يرسم إبراهيم صدوق فضاءات الأسواق الحديثة المحملة بقيم النموذج الرأسمالي المعولم. إنه حريص على العودة إلى الجوهر الخالص الذي يؤطر عالم الأشياء والكائنات المحيطة بنا والمتفاعلة معنا. انفردت مغامرته التشخيصية الجديدة بطابع أسلوبي خاص يتجاوز المسلك الاصطلاحي والمألوف على مستوى الإعداد والإنجاز، مما يعزز البعد الذاكراتي” (mnésique) ذي النفحات والانطباعات الحنينية.
بعيدا عن كل هاجس تربوي يهدف إلى شحذ النظر والحس الجماليين، تعهد الفنان إبراهيم صدوق برسالة المزج بين التشخيص الواقعي ذي النكهة التسجيلية والرصد التعبيري ذي الفسحة التجريدية دون السقوط في واقع الوحشية والتأثرية على الطريقة المدرسية. لوحاته التي عرضها في مختلف المحافل الدولية (دار لودومون بفرنسا، رواق ريجين لوسان بباريس، موزاييك بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بباريس، مهرجان مونبارناس بباريس …) عبارة عن سجلات لونية وتشكيلية في آن معا : سجلات شفافة قائمة على الانسجام بين الوحدات شبه التشخيصية والمساحات المشهدية المتراكبة والحميمية. عرف هذا الفنان كيف يوظف المعادلة الرمزية والتعبيرية في التصوير الصباغي على آثار الفنان السويسري بول كلي الذي اكتشف قوة اللون خلال سفره لتونس، موظفا كل الوحدات الغرافيكية ذات الإيحاء البليغ.
فنان تلويني بامتياز، هو المبدع إبراهيم صدوق الذي عرف على غرار راوول دوفي كيف يصوغ بحثا تشكيليا أكثر إيقاعا وانسابية بروح ابتكارية وشاعرية. لا تخلو، إذن، أعمال الفنان ابراهيم صدوق من الطابع الحلمي لأنها مبنية تماما على منطق التذكر والاستيعاد، بناء على هندسة الأشكال والأحجام المنظورة. إنه يجيد مشهدة أو بالأحرى مسرحة الأشكال المألوفة انطلاقا من تأليف بصري يعتمد على استقراء مشخصن للوحدات الأيقونية، حيث يبدو جليا تشابك الخطوط الملونة الذي يفسح المجال لتداخل الرسم باللون في بلاغة بصرية فاتنة. لم يكن الفنان ابراهيم صدوق من أنصار “الكتابة البيضاء” التي نادى بها المبدع الأمريكي مارك طوبي لنفي الشكل وسبك نسيج عنكبوتي متاهي. إنه على العكس من ذلك مهووس بقضية الفضاء المعماري دون النزوع نحو الفراغ وتمثيل هشاشة الكينونة (أتذكر مقترب النحات والتشكيلي السويسري ألبرتو جياكوميتي). إذا كان الفنان الأمريكي مارك روثكو قد قدم اتجاها تعبيريا تجريديا يعتمد على مساحات لونية متناغمة تفصح عن حوار عميق مع اللامرئي، فإن ابراهيم صدوق طور هذا الاتجاه التعبيري، محتفظا بالمفردات التشخيصية البنائية، ومرتكزا على مساحات لونية إيقاعية تشي بحوار صامت مع المرئي. كان روثكو يعتبر اللون حاملا كافيا لنقل الرسالة عبر مجال لوني تجريدي. على نحو مغاير، يعتبر ابراهيم صدوق الشكل الشذري حاملا كافيا لنقل الرسالة عبر “مجال بنائي شبه تجريدي”.
يا لها من تشكيلة جديدة تحافظ على الأجواء المنظورية العامة بعدما تشبعت بعوالم الانطباعية التجريدية، وبكشوفات التكعيبية التركيبية والتحليلية معا. فخارج دائرة فلاديمير مالفيتش، منظر النزعة المطلقة، رفض الفنان ابراهيم صدوق تقديم عالم بدون أشياء وفي ما وراء الدرجة الصفر للأشكال. إنه يحرص على الاحتفاء التشكيلي بعالم الأشياء والكائنات، منصتا عميقا للجذور وللمعالم الهوياتية (repères identitaires)، وممارسا الحق في الذاكرة الجماعية، ومستوحيا كل السمات المجالية التي تضفي طابعا استثنائيا على فضاءات الهنا والهناك.
تنفرد، إذن، التشكيلة الجديدة التي قدمها الفنان إبراهيم صدوق بتوجهها التركيبي الذي ينزاح عن صرامة وبرودة أجواء الفنان الهولندي بييت موندريان. يا لها من لغة بصرية مستقلة تؤسس نحوها الأيقوني على مبدإ التوازي والانسجام على مستوى تدبير العلاقات الانسيابية بين الخطوط الأفقية والعمودية والوحدات النظامية للأجواء التلوينية العامة.
إبراهيم صدوق من الفنانين المغاربة القلائل الذين كسبوا رهان التوفيق بين التراث والحداثة المتطورة من خلال لغة تصويرية مهووسة بمسعاها المستقل بحثا عن معالم المجال ا لإنساني وآثاره المرجعية. فهو يشتغل على هذه الجغرافيا السرية داخل وخارج الفضاء التشكيلي لكي يصوغ عالما مشهديا ذي تركيبات لونية مذهلة تهد الفنان والمتلقي معا إلى هويتهما المشتركة وقد تحولت إلى صور موشومة، وعلامات دالة، ومفاهيم تصويرية.