رشيـد العالــم/ كاتب وباحث. -فرنسا
مِن طبيعَة الخطـَاب الدِّينِي القدِيم والمُعَاصر أنه كانَ وَ مَا يزالُ قائمًا على تمجيدِ الرِّجَال الذِينَ كانَ لهُم دور بارزٌ فِي صِيَاغة الترَاث الإسلامي من عُلمَاء ومَشَايخ وعَارفِـين بالله ومُخلقِـين..، دُون الخَوض في إسهَامَات النسَاء، باعتبَار أنهُنّ كنَّ عَارفـَاتٍ وشَيخَاتٍ مُربِّيَاتٍ جَليلات، وهَذا المأزق التـُّرَاثِي يُرَسِّخ ويُؤكدُ إلى أي حد أمعَن رجَال الدِّين فِي تقدِيس الرَّجل وإعلاءِه مَكـَانـَة تفـُوق المَرأة، فكأنمَا حَرَّم الله عَلى المَرأة الاجتهَاد والعِلمَ والتـَّنوير والترَقي فِي مَدارج الأخلاق والصَّفاء وأجَازه فقط للرِّجَال، هَكذا سَوَّق كثيرٌ مِن رجَال الدِّين الإسلام حَتى صَار الغربُ يصِفُ الإسلام بأنـَهُ دِينُ تزدَرَى فِيه النسَاء ويعَظـَّمُ فِيهِ الرَّجُـل، دينٌ يُعطِي الحُقوق للرِّجَال وينزعُهَا مِن النساء.
فحتى فِي سيَاق الخطـَاب الصُّوفِي المعَاصِر لا نكادُ نجدُ أثرًا أو ذكرًا أو إشَارَة إلى عَارفـَاتٍ بالله بَلغـْنَ فِي مَرَاتِب المُرَاقبَةِ والخشيَة والصَّلاح والوَرَع والتــَّزكـيَة مَا بَلغ إليهِ كبَار شُيُوخ الصُّوفيّـة، بَيْد أن سَيكولـُوجية التـَرَاث الأبويَّـة المُهيمِنـَة عَلى الفِكر التقليدِي، وطبيعَة العَامِل النفسِي والعُرفِي والثقـَافِي للفرد والمَجتمع العَربـِي و الإسلامي قديمًا شـَكل – ومَا يزال – حَاجزًا أمَام الاعتراف بمَقـَام المَرأة ودَورهَـا البَـارز فِي إرسَاء مَفاهِيم تربويَّة وجمَاليَّة وأخلاقيَّـة عَدِيدَة.
شهدَ التـَّاريخ الإسلامي العَدِيد مِن النسَاء اللـَّـوَاتِي ارتـَقـَيْن مَدارج الكمَال والمعرفة الربَانيَّة والفتوحات الرحمانيَّـة، فعَلى سَبيل المِثـَال يَذكـَر الشـُّيُوخ كلَّ شيءٍ عَن الشَّيخ الصوفي حَسَن البصري (642م-728م)، الذي ولد إبَّان خلافة عُمر بن الخطاب فدعَا لهُ قائلا : “اللهم فقهْهُ فِي الدِّين وحَبِّبهُ إلى النـَّاس” إلا أنهُ كـَانَ مُريدًا لعَارفـَةٍ بالله اسمهَا رَابعة العَدوية، التي أرسَت إحدَى أشهَر المَذاهب الصُّوفيَّة ألا وهُو مَذهَب الحُبّ الإلهي، الذِي يَقـُوم فِي جَوهَره عَلى إخلاص القلبِ والقـَالب لله وَحْدَهُ بعيدًا عَن الخَوف مِن النـَّار والطمَع في الجَنـَة.
فرَابعَة العدوية كانـَت مِن بين النسَاء اللـَّوَاتِي توَلـَّوا المَشيَخـَة الصُّوفيّة في الإسلام والتـَم حَولهَا عَددٌ كبيرٌ من الرِّجَال يَطلبُون بَركتهَا ويَستنِيرُونَ بمَقـَامهَا، ويَرتشفـُون مِن مَعين شِعْرهَا الرُّوحِي الذي تأثر به كبَار شعَراء الصُّوفية مِن أمثـَال ( جلال الدين الرومي و فريد الدين العطار النيسابوري والشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي والحلاج..إلخ)
فحَسن البَصري الذِي كانَ ومَا يَزَالُ نمُوذجًا أخلاقيًّا رَفيعـًا فِي التوَاضع والخشيَة والزُّهد، تلقـَى عُلومَهُ وآدابَهُ وأخلاقـَهُ عَبر صُحبَة مُربيتِه العَارفـَة بالله رابعة العدوية بَينمَا يُنسبُ كل شَيءٍ إلى حَسن البصري وقلمَا يُشَار إلى أثر رَابعة العدويّة فِي تصَوُّفه وأخلاقهِ وأدَبه.
وهَذا ذو النون المِصري ( 796م 859م) كانَ يقول عَن فاطمة النيسابورية إحدى العَارفـَات بالله بأنهَا أستاذته التِي تأدَّب على يَدهَا واستمَد من صَلاحِهَا وأحوَالهَــا.
وهذه الوَليَّة العَارفـَة الواصِلـَة شبكة المصريّة، كانت تخصِّصُ سَراديبًا فِي مَنزلهَا لاستقبَال تلامِذتهَا ومُريدِيهَا وتلقـِّنُهُم طرُقَ المُجَاهَدَةِ والمُعَامَلـَة، ومِن أقوَالهَا المَأثـُورَة التِي أورَدَهَا أبو سعيد الأعرابي في (كتـَاب الطـَّبقات) ” تطهَّرُ النـُّفوس بالرِّيَاضَات وإذا طهُرَت استرَاحَت إلى العِبَادة كمَا كانـَت مِنْ قبلُ تتعَنـَّى فِيهَا “
… يـُـتبَع