النكتة في بيروت.. ضحك ونسيان|نسرين حمود
صحيح أن كلاً من التوتر والعدوانية والأنا المنتفخة في الشخصية اللبنانية تحول دون جعل روح النكتة سمة أصيلة في ثقافتنا، أو ربط الظرف بهويّتنا، إلّا أن ما تقدّم لا ينفي أننا ننطلق من واقعنا المأزوم لنبلغ في ملحتنا مبلغاً غير متوقّع، وأننا نغطي عبر مبالغاتنا عجزنا عن حلّ أزماتنا، وأننا نسخر من الشعوب التي نتعايش وإياها سخرية لاذعة…
لا يستقيم تجاذب أطراف الحديث بين جمع لبناني بدون التنكيت في الكلام؛ في جعبتنا نكات تطال العلاقات في ما بيننا، وأخرى لا توفر ساسة البلاد، وثالثة تبالغ في رسم أوضاعنا الاقتصادية، ورابعة تقفز فوق هويّتنا لتلامس الجنسيات التي نتعايش وإياها…
في تشريح نكتنا، تحتل العنصريّة بمفهومها الواسع (الجنسيّة والعرقيّة والجندريّة والمذهبيّة) المساحة الأبرز فيها، إذ لا نجد ضيراً في قولبة سليلي بعض الجنسيات (السورية خصوصاً) لتبيان أفضليتنا عليهم، بدون أن نوفّر الضحك على أنفسنا في فصول أخرى من هذه القصص الشفويّة، علماً بأننا نتخذ هذا الموقف بصورة لاواعية، تلافياً لئلا يفعل آخر كذلك في حقنا، مع الإشارة إلى أن مصطلح الآخر يعني طائفة أخرى أو جنسية أخرى…
تتحوّل تفاصيل يومياتنا، التي تبرز عجزنا عن حَلّ الأزمات المتصلة بالنظام الطائفي الفاسد، إلى نكت هادفة إلى التخفيف من حِدّة الواقع، أو تورية الفشل في إنتاج حال أفضل. مع تكرار هذه النكت وتناقلها، تنتفي قباحة هذا الواقع، فيتحوّل إلى مألوف!
ما تقدّم يتّفق وإشارة الباحث والكاتب أنيس فريحة في كتابه «الضحك عند العرب» الصادر عن مكتبة رأس بيروت (1962)، إلى أن «الفكاهة في بواعثها محاولة لتحويل الألم والكبت إلى نوع من التعبير الذي يخفّف من وطأة البؤس (…)»، معدّداً أشكال الفكاهة بالقصة أو النادرة أو النكتة.
كانت وسائل الإعلام، وخصوصاً شاشات التلفزة، ساهمت في نشر التنكيت في المجتمع، بعد أن بارح المقاهي الشعبية واللقاءات الاجتماعية، التي كانت تحضنه، فزكت بعض الشخصيات المعروفة بإلقاء النكت، حتى تحوّلت الأخيرة إلى وجوه منتظرة جماهيرياً، على الرغم من انحصار مضامين ما تلقيه في إطاري الجنس والعنصرية بأذرعها. تنافست برامج لبنانية بالجملة في كسر «تابوهات» الهواء، لكنها ما لبثت أن تراجعت، لتلعب وسائل التواصل الاجتماعي حالياً أمر نشر النكت، التي تسري من جوّال إلى آخر، على الرغم من أن التنكيت الرقمي، إنْ صح القول، ينسف بعض عناصر النكت الحيّة، كحركات اليدين والعينين والوجه ونبرة الصوت، ويقضي على خصوصية النكت ومحلّيتها…
في هذا الإطار، يعرّف الأستاذ في علم الاجتماع التربوي وعلم النفس الاجتماعي بالجامعة اللبنانية الدكتور طلال عتريسي النكتة بأنها «سرد مبالغ لفكرة أو ظاهرة، ومعبّر عن تناقضات أو أحداث غير متوقّعة، بحيث ينطلق هذا السرد من الواقع ويحلّق نحو مكان غير مألوف، بصيغته المضخمة». يجمع د. عتريسي مضامين النكت في العالم، تحت عناوين السياسة والاقتصاد والشعوب (العنصرية) والجنس، قبل أن يستعيد ابن خلدون لدى الحديث عن أثر المناخ في وصف شعب ما بـ«صاحب نكتة»، كما هي حال المناخ الحار في مصر والسودان، على سبيل المثال، بالإضافة إلى دور قسوة أو طراوة الحياة في هذا المجال.
السخرية لتجاوز الأزمات
ويميّز د. عتريسي في حديثه إلى «الدوحة» بين روح النكتة الأصيلة، وتأليف أو إلقاء أو نشر النكتة، مفيداً «أن المرح سمة شعوب البلاد الحارة والمسالمة عموماً، حيث يشغل الظرف جزءاً من الثقافة. بالمقابل، من الملاحظ أن التنكيت لا يشكّل أس الثقاقة اللبنانية، الثقافة التي تنطوي على السخرية في جزء بسيط منها حصراً». هو يتذكّر محطات من تاريخنا المعاصر، مُبرزاً كيف كان الناس يحاولون تجاوز أحوالهم الصعبة عبر السخرية، كما في الحرب الأهلية (1975 – 1990) حين كثرت النكت التي تناولت المقاتلين الحزبيين، وخطوط التماس، والسلطة الهشّة… بعدها، شهدت مرحلة الوجود المخابراتي السوري، على ارتفاع وتيرة التنكيت بطابعه العنصري المباشر بهدف تسليط ضوء فاقع على ممارسات السوري من جهة، وإبراز تفوّق لبناني عليه يتّفق مع صفة التشاوف التي تميّز الشخصية من جهة ثانية. في هذا الإطار، يلفت د. عتريسي إلى أن المكوّن العنصري في النكت مشترك في الجنسيات كافة، فعلى غِرار الثنائية اللبنانية- السورية، نعرف أن المصري لا يوفر الهندي من نكته، وكذلك يفعل الفرنسي حين يحكي عن البلجيكي…
تجمعات الإناث مصانع النكات
بدوره، يعرّف الباحث في علم الإنسان والأستاذ الجامعي محب شانه ساز النكتة بـ«الصيغة الكلامية التي تقدّم صورة هادفة إلى كسر الرتابة»؛ انطلاقاً من هذا التعريف، وسرعة انتشار النكتة في السر والعلن، تخضع الأخيرة ذات المضمون السياسي إلى مراقبة السلطة، التي تحرض على ألّا يبارح الوقار مظهرها. ويتابع د. شانه ساز تشريح مضامين النكت عبر إثارة وظيفة الرقابة المجتمعية، التي تطال النكت الجنسية بصورة أكبر بالمقارنة بتلك السياسية. يشرح د. شانه ساز لـ«الدوحة» أن «على الرغم من أن الجرأة مكوّن رئيس في الثقافة اللبنانية وميزة عن محيطنا، وربما محطّ غيرة من الجوار، يبدو التنفيس في مجال النكتة السياسية مكلّفاً، وفي مجال النكتة الجنسية أو كسر «التابو» الجنسي غير محمود العواقب دائماً، ولو أنّه قائم، ممّا يجعل التنكيت على أنفسنا والأقوام الأخرى رائج بصورة أكبر». هو يتجاوز أمر مهارات الأفراد في إعداد النكت ونشرها، المهارات التي تحتاج إلى مجهر يوجه إلى نماذج مُحدّدة، مع متابعتها في يومياتها ورصد خلفياتها ونشأتها، شاكياً من إدارة بحوث علم الإنسان اللبنانية ظهرها لهذه المظاهر المجتمعية، على الرغم من أهميتها! ويرى أن من يبتكر النكتة، عموماً، امرؤ سريع البديهة وذو خيال خصب ومتحرّر من القيود.
يتساءل د. شانه ساز عمّا إذا كان مصدر النكتة قديماً هو التجمّعات النسائية، ومن بينها الحمّامات، حيث تكشف مرتادات هذه الأماكن الشعبية عن أجسادهن وأرواحهن. يشرح فكرته من نقطة مفادها أن الذكور هم أكثر جدية ومحافظة نتيجة الضوابط التي كان يفرضها خروجهم إلى العام عليهم، مقابل الإناث اللواتي لا يواجهن الخارج بمعناه الواسع، ومن ثَمّ هن متفلتات من هذه الضوابط. إذا انطلقنا من مسلّمة أن المرأة هي المشاركة الأبرز في بناء الثقافة (تربي، وتطبخ، وتدجن…)، وأنّها كانت وما تزال مضطهدة، يمكن أن نستنتج أن أصل النكتة معلّق على الإناث، بدون أن ينفي أن ما تقدّم يحتاج إلى بحوث دقيقة.
من جهة ثانية، يربط د. شانه ساز النكتة بوسائل الاتصال، «هي تقرّب الناس من بعضهم البعض، وتقصّر المسافات على المستوى الجماعي، وتبدو فاتحة لأمور تتجاوز مضامينها، إذ هي رسالة، أو إشارة قد تفتح نقاشاً، أو تجعل الناس تنفضّ عن بعضها البعض، لكنّها في كل الأحوال كاريكاتور كلامي موضع سخط ومراقبة من السلطة على اختلافها».
لأننا رعايا كيان مضطرب منذ نشأته، فليس مبالغة الخلاصة إلى أن عناوين نكتنا الراهنة لا تختلف تمام الاختلاف عن تلك العائدة إلى سنوات عشر خلت، إذ لم نجد حتى الساعة ترياقاً أو راق لسمومنا. في انتظار أن يحين هذا الوقت، قد تجدي مشاركة بعض الفكاهة المركّبة من مصادر متفرّقة عبر جوالاتنا.
نسرين حمود 2017-01-02