يعد ضياء العزاوي أحد الفنانين التشكيلين العرب القلائل، الذين وسعوا من أفق اشتغالهم، وارتهنوا لبحث معرفي واشتغال فني آهل، مكنهم مكانة مرموقة وسط الأسماء اللامعة في سماء الفن التشكيلي عالميا؛ فهو على مدار منجز يمتد لخمسة عقود، قدم مشروعا جماليا لا يدين في تميزه إلا لأصالته الخاصة، حيث يمزج بين الفني والمعرفي في فرشاة واحدة. دون الارتهان للمناهج المعطاة سلفا، حيث طوع أسلوب اشتغاله على أكثر من مرحلة، وطور أدواته، حيث اشتغل على الألوان الزيتية، والأكريليك، والفخار، والجبس، والبرونز، إضافة إلى تقنيات مختلفة للطباعة الفنية ..موظفا الخط العربي في بداياته دون أن يتقيد بقيوده في استكناه لمعطاه الدلالي، خاصة في النصوص التي اشتغل على تعبيريتها من خلال استحضار الأجراس الكبرى للشعرية العربية.
في لوحة ضياء، نجد ذلك المناخ الشرقي، بطقسه الحار، وتلك القوى المغلقة بالمطلق التي تبغي التحرر منه. مع الاشتغال على تصاميم قصور ومساجد، في استلهام لمقومات الموروث السردي لألف ليلة وليلة، حيث نطلع على عالم عطر زاخر بالألوان والحكايا، داخل اللوحة / الأيقونة المتشظية مثل قصيدة هايكو.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن ضياء العزاوي هو أحد أكثر معاصريه من التشكيلين العرب، التزاما بكشف مآسي أمتنا العربية؛ فمند بداية السبعينيات اشتغل على القضية الفلسطينية، وساهم في أعماله الصباغية كلوحة ” شهادة على عصرنا” 1972 في التعبير عن المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون، والعمل على إيصال صوتهم إلى محافل وملتقيات دولية. ومع انطلاق حرب الخليج الثانية أنجز مجموعة من الأعمال أطلق عليها ” بلاد السواد” كلوحة روح مجروحة..نبع ألم”.
ولوحة “مرثية لمدينتي المحاصرة” وقد ضم متحف “تايت موديرن” الشهير لوحة ضياء ” صبرا وشاتيلا” إلى مجموعته الدائمة التي تعرض إلى جانب لوحات مجموعة من أعمال كبار الفنانين العالميين “كبابلو بيكاسو” و”سلفادور دالي” و”خوان ميرو” ، وهي اللوحة التي صور فيها معاناة الفلسطينيين، وأرخ من خلالها للمجزرة البشعة التي وقعت عام 1982، وذهب ضحيتها مئات الفلسطينيين العزل، في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت، وهي اللوحة التي تذكرنا بطريقة نثرها بلوحة بيكاسو “غرينكا”، والتي لم تعرض إلا مرة واحدة في العالم العربي، وكان ذلك بمناسبة تكريم الشاعر الكبير محمود درويش.
يبدو التراث حاضرا في أعمال ضياء العزاوي، دون أن يكون موجها لها، أو ذا بعد ماضوي أو حنيني أو قومي، بل يشغله مثل طاقة تحتية لسند اللوحة، التي يطوعها ألوانا لا تكف عن الابتكار والتشكل يوما بعد يوم، ومرحلة بعد مرحلة، وهو ما ينم عن عمق في الرؤية ومهارة في الحفر، وسحر في الطرح، فتجربة هذا الفنان تتقاطع مع كثير من الفنانين العراقيين، ومع مدارس تشكيلية شقت طريقها في بغداد وأثرت في مسار الفن التشكيلي العربي عموما، كمدرسة البعد الواحد، يقول الفنان العراقي محمود صبري عنه:إن لوحات الفنان ضياء العزاوي، تتحدث عن فنه، وليس أقواله أو ما يكتبه عنه النقاد. وباعتقادي أن ما كتب عن ضياء العزاوي من قبل الإعلاميين، لا يكشف البتة جميع جوانب إبداعه”.
فلوحته هي مضمار شاسع وواسع للتأمل، فضاء فسيح للاختلاف، ذلك أن الجمالي ما يشغلها، ويترسب داخل طياتها، ومكوناتها الإستيتقية البكر، حيث نجد فيها الأسطورة جبنا إلى جنب مع رموز الحداثة، علامات من أزمنة وأمكنة متباعدة.. عشتار، بابل.. أرور ..استلهام لأفكار وطروحات كالشهادة من تجربة الإمام الحسين. أيضا نجده يستنبط من موضوعات الزخرفة والندور، وتوظيف البنية التصويرية في المخطوطات، والاستفادة من الأشكال والأنماط التزيينية المبثوثة في المنمنمات والرسومات الخطية الضاربة في عمق التاريخ الفني العربي، موظفا إياها في حس فني متسائل، فهذا الفنان إضافة إلى أنه لم يكن يوما بمعزل عن التراث، بروافده الفنية والتاريخية والثقافية، لم يكن أيضا بعيدا عن القضايا الراهنة، في ارتباطها بهذا الموروث الإنساني، ملتحفا جرأته المعهودة في الوفاء للقضايا العادلة، فكان إنتاجه الإبداعي يصب في هذا المنحى، من خلال مجموعاته الفنية، فهو بهذا فنان ملتزم من حيث الشكل والمعنى.
ومن النقاط المضيئة التي تحسب لمسار هذا الفنان هو اشتغاله على المجاوزة بين الشعر والتشكيل في أعماله، لا على مستوى استحضار أسماء شعرية كبرى والاشتغال عليها تشكيليا كالمتنبي أو الاشتغال على كتب مع شعراء تمزج بين التشكيل والشعر، كالطاهر بنجلون في “النشيد الجسدي ” ومحمد بنيس في “كتاب الحب” واستعادة شعراء آخرين كابن حزم الأندلسي في أعماله، فهو يشتغل على تيمات محددة، بين المعرفة الفنية والأدبية، وهو ما وسع من أفق منجزه وفتحه على اللانهائي.