القوى الارتكاسية في مواجهة الفلسفة.. | عبدالرحيم زيكوك
عبدالرحيم زيكوك
يبحث الإنسان باستمرار عن أنجع الوسائل لتحقيق الوعي بذاته، وفهم العالم المحيط به، ويفكر دوما عن أفضل السبل للتعايش مع المختلف والتواصل معه، كما يسعى جاهدا لترسيخ قيم إنسانية تعترف بالإنسان، بمطلق الإنسان، ضدا عن الإنسان. الانتصار لقيم الإنسان الذي يأتمر بالعقل، ويجعله نبراسا ينير به الطريق لانتشال الإنسان من الظلمات، ضد الإنسان الذي يضمن الشروط لانتشار الظلام (ولا أرى ظلاما مثل ظلام الوصاية).
في خضم البحث عن الانتصار للقيم الإنسانية التي تصدر عن العقل، يظهر حتما من يعشق استمرار العتمة، فيحاول رشق حامل الأنوار بالحجارة كي يصده/ يلهيه عن مواصلة الطريق.
لم يفكر مؤلفو كتاب “منار التربية الإسلامية” في حجم الضرر، الذي سيترتب عما أقدموا عليه بتصنيفهم العلوم إلى قسمين: علم شرعي: يتعلق بعلم العقيدة، وعلم العبادات، و علم المعاملات؛ وعلم غير شرعي: يتعلق بالعلوم الإنسانية، وعلم الهندسة، وعلم الرياضيات، وعلم الفيزياء. هذا التقسيم بدون شك، سيثير دهشة المتعلم (ة)، وسيدفعه إلى التساؤل، لأن اندهاش الفكر يعبر عن نفسه بالسؤال كما يقول هيدغر. فهو الخارج –المتعلم(ة)- للتو من حصة “علم الرياضيات” أو “علم التاريخ” ويستعد للالتحاق بحصة “علم الفيزياء” أو “علم الاقتصاد”.
إن ذلك لم يغب على مؤلفي الكتاب، إذ برروا له الأمر بأن العلم الذي وصفوه بغير الشرعي نسبي، خاص بالإنسان، عكس علوم الدين التي تبحث في الشريعة. لكن المتعلم(ة) يبدو أنه غير مقتنع بما يُحكى له، فواصل حجاجه بأن الذي يبحث في “العلم الشرعي” بدوره إنسان، وعقله أيضا لن ينتج إلا النسبي، مما يفرض ضرورة الاستعانة بالعلوم الأخرى للوقوف على حقيقة الدين نفسه لكي لا يكون إيمانه(ا) كإيمان العجائز. هنا سيغضب فريق التأليف، ويقطع دابر النقاش حاسما الحكم، محاولا سلب المتعلم(ة) حقه في النقد والتساؤل لما سارعوا إلى استحضار الآية 85 من سورة الإسراء ” وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا”. استدلال في غير محله طبعا، والآية تم نزعها من سياقها “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا “.
هكذا تم النيل من العلوم الدقيقة و الإنسانية، من طرف مؤلفي “منار التربية الإسلامية”، ليرسخوا في نفوس ناشئتنا عدم شرعية العلوم التي هي أساس تقدم الأمم. ونعلم الحمولة الدلالية التي يختزنها وصف “غير شرعي” في ثقافتنا. إذا استبطن المتعلم(ة) هذا الوصف “المشؤوم” سيتوجس خيفة من كافة العلوم، وإن توجس منها، لن يتعلمها وفق الطريقة الصحيحة، ولن يتفوق في دراسته والبحث فيها. الشيء الذي سيؤدي إلى إنتاج جيل يعاني من الإعاقة الفكرية والذهنية.
بعد أن تم “طحن” الأبناء: العلوم الدقيقة و الإنسانية، سيأتي الدور على الأم: الفلسفة، حينما أورد فريق تأليف الكتاب السالف الذكر، فتوى الشهرزوري على شكل نص موجه للناشئة، كمحاولة منهم لاستكمال مشروع التأسيس لشروط تخلفنا الحضاري، وشحذ همم “ناشئة الحجارة”. الحجارة التي تطارد حامل الأنوار. الحجارة هنا تكون رمزية، وقد تصير مادية حينما يتشرب النشء تعاليم عاشق العتمة ومقصد القوى الارتكاسية…
لقد أصدر الشهرزوري “الفقيه المشرقي” المتوفى سنة 643 هـ، فتوى يطلب من خلالها القضاء على الفلسفة طمعا في جنة السلطان، في سياق سياسي يتسم بالانحطاط، فما الذي غرر بمؤلفي الكتاب المدرسي حتى أدرجوا موقفا شاذا يجرم الإحتكام إلى العقل (المنطق و الفلسفة)؟
ربما وجد فريق التأليف أمامه تحولات قيمية، وسياسية، وحقوقية، وتربوية لم ترق له، أو قُل لا تساير مشروع القوى الارتكاسية الداعمة التي أحست بشيء جديد يعتمل في ذهن ونفوس مواطني مغربنا المعاصر، وهو تنامي التفكير الحر، والفكر النقدي حيث بدأت تلوح في الأفق بوادر اليقظة الفكرية بفضل الوعي بأهمية التنوير. وباختصار، ضرورة الفلسفة الحاملة لقيم العقل ضدا على كل الأفكار الرجعية التي تمجد أنماط الاستبداد و الاستعباد والخنوع، والطاعة العمياء، و الجمود، و الاستسلام لسلطة الجاهز…
حينما شعرت القوى الارتكاسية بالخطر الذي يتهدد وجودها السياسي، وسوَس لهم شيطانهم بأن “الفلسفة هي السبب”. فعوض الدعوة مباشرة إلى إلغائها كمادة تنشر مبادئ التفكير النقدي والعقلاني، وجدوا تسويغا ومبررا واهيين اعتبروهما تربويين، يتمثلان في تقرير نص يجعل من الفلسفة أسه السف والانحلال “وأن من تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالبراهين”. مع العلم أن الفلسفة نفسها ليست شيئا آخر غير البحث عن الحقيقة بالبرهان والدليل. بيد أن نشر هذه الفتوى يصد المتعلم عن إعمال العقل، وبالتالي زرع بذور التكفير في مدارسنا بدل التفكير، لنحصد الإرهاب و التطرف في الأخير .
لن نخوض في شرح محتوى نص الشهرزوري، وهو يجرم الفلسفة بصريح العبارة ويحرم الاشتغال بالمنطق. ” وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل” كما قال المتنبي قديما.
ليس ثمة سبب يشفع لمؤلفي المنار في إدراج فتوى الشهرزوري حول موضوع اعتبر اليوم كلاسيكيا. لقد اعتقدنا أن فيلسوفنا ابن رشد قد فصل القول فيه من خلال كتابه “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” ضدا على الدعوات المشرقية القاضية بتعارض العقل و الدين. فما جدوى تناول درس الفلسفة أصلا في مادة التربية الإسلامية؟ وهل سيتم مقاربتها بالموضوعية و الحياد اللازمين؟ أم أن الفرصة سانحة للنيل منها وجلدها؟ ماذا يعني أن يدرس المتعلم(ة) في الجذع المشترك في مادة الفلسفة أن علاقة الفلسفة بالدين اتصالية وتكاملية، وأن فعل الفلسفة ليس أكثر من التأمل في الموجودات لدلالتها على الصانع، ليأتي في السنة الأولى بكالوريا فنصفعه بفتوى فقيه مشرقي همه مغازلة السلطان؟
رُب معترض يعترض بالقول: إن منهاج التربية الإسلامية يقول بأن “التفكير الفلسفي يقوي العقل ويطور التفكير” وأن “لا تعارض بين الفلسفة الراشدة والإيمان الحق”. فسنرد قائلين: هذا جميل جدا ومفيد لشخوص ناشئتنا، لكن الكتاب المدرسي_مدار النقاش_ لا يراعي ذلك، فإذا كان التلميذ هو المستهدف بالكتاب فهو لا يعرف مضمون المنهاج. أما منطوق النصوص الواردة في الكتاب المدرسي فهي لا تنسجم مع روح المنهاج، لذا سيكون الأمر أجمل و أفيد لو تم سحبه من التداول المدرسي وقاية لنفوس ناشئتنا من داء التطرف.
ورُب سائل يستفسر: ما العيب في استدعاء درس الفلسفة في مادة التربية الإسلامية؟ سنجيبه، إن كان ذلك ضروري، فلماذا لم نستحضر كبار فلاسفة الغرب الإسلامي (المغرب والأندلس) كابن طفيل، أو ابن باجة، أو ابن رشد، أو المعاصرين لنا كمحمد عابد الجابري، أو طه عبد الرحمان العارفين بالمجالين معا. أم أنكم تأتمرون بالمشارقة، وتجعلون المكفرين ضالتكم؟
مهما حاولت القوى الارتكاسية، فلن تنجح في الاستفراد بالناشئة، ولن ثتنيهم عن الاجتهاد لاستعادة ابن رشد وقيمه الفكرية العقلانية إلى وطننا، لصناعة حدثنا الحضاري المتمثل في النهضة المؤجلة باستمرار…
لا يسعنا في الأخير سوى التذكير بالقول التالي: الفلسفة تنتعش في ظل الأزمات و التضييق، اعتادت على مثل هذه الترهات التي يعبث بها الفقيه الجاهل لأمور الفكر و المعرفة وأسباب تقدم الأمم ونهضتها… فمن يوجه ضرباته إلى الفلسفة كأنه يوجهها إلى الجبل، الخوف على رأسه و ليس على الجبل… وهي أعمق من أن ينال منها مجترئا، فقد صمدت أمام مختلف الهجومات منذ قرون، بقيت محتفظة على توهجها ولمعانها وقدرتها النقدية و تدميرها للبداهات و الخرافات، و خلخلتها للأفكار المطلقة… لم تنل منها أي سلطة سواء كانت دينية أو سياسية… وبقيت ذهنيتها في نفوس ساكني أرض المغرب منذ ابن رشد و ابن باجة، و ابن طفيل إلى العروي والجابري… اطمئنوا فزحف التنوير آت لا محالة !!!
إذا كان يصح القول أن الذي يدعو إلى القتل مجرم، فالذي يمنع الناشئة من إعمال العقل جاهل.
2017-01-01