عزالدين بوركة
ستعرف المكسيك في العقود الأربعة الأولى من القرن الماضي نهضة ثقافية كبرى كان لها انعكاس قوي على الفن التشكيلي بهذا البلد. مما جعل الفن المكسيكي يحظى بمكانة رفيعة عالميا، كان لأسماء بعينها قوة فعل ذلك، ومن أبرز الفنانين المكسيكيين في تلك الفترة: دييغو ريفيرا، فريدا كاهلو، خوسيه كليمنت أروزكو…
شكلت الثورة التشكيلية المكسيكية طفرة من طفرات التشكيل العالمي، حيث أن الفنانين بقوا أوفياء لطقوس ثقافتهم الأصلية في أعمالهم، وعبروا عن فخرهم بهويتهم وحضارتهم العميقة. ورغم تأثرهم بالمدارس الأوروبية من التكعيبية والسريالية، فلم يصف فنانو الثورة المكسيكية أنفسهم بالسرياليين –مثلا- ورغم أن مؤسس هذا التيار، الفرنسي أندري بروتون وصفهم بكونهم الأكثر سريالية في العالم، إلا أن قلة من وصفوا أنفسهم ضمن تلك الخانة الفنية.
فريدا كاهلو (1907-1954) اسم بارز في تلك المرحلة، ابنت المهاجر الألماني، ستصاب في عمر ست سنوات بمرض شلل الأطفال، مما ترك أثارا نفسية عميقة في ذاتها، ستتضح لاحقا في أعمالها، التي تجعل منها تجسدا للآلام النفسية والجسدية التي عاشتها. لن تتوقف المعاناة عند شلل الأطفال الذي ترك آثاره على قدمها، بل إنه وسنة 1925 ستتعرض إلى حادث حافلة كانت تقلّها إلى منزلها وعلى أثر الحادث، اضطرت إلى التمدد على ظهرها من دون حراك لسنة كاملة. عملت والدتها على راحتها طوال تلك السنة، ووضعت لها سريراً متنقلاً ومرآة ضخمة في سقف الغرفة، فكانت وحيدة وجهاً لوجه مع ذاتها طوال النهار، فطلبت ريشة وألواناً وأوراقاً لترسم، وراحت تنقل صورتها يومياً واكتشفت بذلك حبها وولعها بفن الرسم.
فريدا التي لم تدرس الرسم أكاديمياً استطاعت عبر لوحاتها أن تجعل المتلقي يرى الألم واقعياً.. حياً قبيحاً قاتلاً ومعوقاً.. وليس ألماً قدسياً ماوياً مطهراً. ”ما حاجتي لقدماي، إن كنت أملك أجنحة كي أطير ..” هكذا تلخص كاهلو عوالمها التي تنطلق منها لتعبّر عن ذاتها، التي تنقل المعاناة وجسدها داخل قالب واقعي في خليط مع السريالية، رغم أنها لم تصف نفسها يوما داخل هذا التيار الذي شكل ثورة فنية غيّرت الفهم البصري في العالم.
“صورةٌ شخصيةٌ بفستانٍ مخمليٍّ” أولى أعمال هذه الفنانة، التي كانت موجهةً لحبيبِها السابق أليخاندرو أريَس الذي تركَها لاعتقادِه أنَّها لم تكنْ مخلصةً له. في تلك اللوحة نلمح لفستانَ المخمليَّ مع وضعيةِ الوقوفِ يعكسانِ اهتمامَ فريدا بفنِّ عصرِ النهضةِ الايطاليّة. فقد رسمت فريدا لوحتها هذه تيمنا بلوحة الفنانِ المعروفِ بوتشيللي ” فينوس” التي كانت محطَّ إعجابِ أليخاندرو. هذا الأخير الذي عاد إليها إلا أن أهله كانوا رافضين العلاقة بينهما. هذه اللوحة التي فرّقت بنها وبين حبيبها الأول ستجعلها تربط علاقة قوية مع الفنان المكسيكي الشهير، حيثُ أنّها كانت واحدةً من أربعِ لوحاتٍ من اللاتي حملَتهُنّ إلى دييغو ريفيرا، رسّامُ اللوحاتِ الجداريةِ -وزوجُها فيما بعد- لتأخذَ رأيَه. بعد رؤيتِه لجميعِ اللوحات أشادَ كثيراً بهذه اللوحة معلقاً ” ربّما لأنّها الأصل”.
امتازت لوحات فريدا كاهلو بتلك الازدواجية النفسية الجسدية، جاعلة من نفسها الشخصية الرئيسية والوحيدة داخل أعمالها، تارة عبر التشريح الجسدي أو التمازج مع الطبيعة في لوحتها الشهيرة التي جعلت من رأسها بديلا على رأس الغزال، التي رسمتها مصابة بأسهم بارزة تعبيرا على الآلام التي تعاني منها وكأننا بها تريد أن تنزاح عن جسدها الذي عانى من حوادث عديدة جعلتها مقعدة طيلة سنوات عدة.
لن تقف لوحاتها على رسم مآسيها النفسية والجسدية فقط، بل جعلت من لوحتها “فريدتان اثنتان” التي رسمتها بعيد طلاقها من ديغو عام 1939، تعبيرا على خيانة المتكررة لها من قبل هذا الأخير. إذ ستعمد عبر التماثل لرسم نفسها بشكل متقابل، إذ عمدت لإظهار آلامها لرسم قلبين بارزين لكل شخصية قلبُ فريدا غيرِ المحبوبةِ يظهرُ مكسوراً، بينما الآخرُ كاملاً. يبرزُ وريدٌ من النّقشِ بيدِ فريدا المكسيكيّةِ، ويصلُ القلبين سويةً وينتهي بيد فريدا اليسرى مقصوصاً بمقصٍ جراحيٍّ وتضيعُ قطراتِ الدماءِ مع الزهورِ الحمراءِ في حاشيةِ فستانِها الأبيض.