
الشعر.. | محمد بنميلود
محمد بنميلود (المغرب): الشعر.. إنه تلك الرغبة الجارفة، في احتضان، حتى، القنافذ..
محمد بنميلود (المغرب): الشعر.. إنه تلك الرغبة الجارفة، في احتضان، حتى، القنافذ..
قحطان جاسم (الدانمرك): هل هناك تعريف ممكن للشعر، أليس كل تعريف هو دلالة على محدودية المادة المعرفة ؟ يتعامل الشاعر مع اللغة ، التي هي وجود كامل يتسم باستقلالية ما عنه، هذه اللغة هي التي تخلق الكون وتعيد صياغة الأشياء وتكوينهاتها ، هي رأسمال الشاعر ، لكن هذا الرأسمال يتراكم في اللانهائي، في الصمت وينبثق عنه. الشعر، على هذا النحو، وليد الصمت، قرينه الأزلي، الحنون، البريء، ولهذا فانه لا يصلح لتعريف ممكن. يكتشف الشاعر في الشعر، وهو يحدق في آلاف الأشياء ، محدودية وجوده، هذا الاكتشاف يسبب له القلق الدائم والاضطراب والخوف والحزن. لذا تبدو شعرية الشاعر محاولة مريرة وميؤس منها تقريبا للعبور الى ابعد من هذه الحدود ، للامساك باللانهائي، اللامحدود عبر اللغة، لان الشاعر، وانا هنا أتحدث عن الشاعر لا غير !، ومن خلال هذه اللغة، يسعى إلى العودة إلى مخبئه الأليف: الصمت ، حيث تتجلى مهمته الوحيدة بكتابة هذا الصمت، وهي مهمة تكاد تكون صعبة ، إن لم تكن تقترب من الاستحالة. عبر هذا الصراع الدائم والشاق ينكشف الوجود أمام الشاعر في اللغة، تصبح الأشياء نوعا ما أليفة، وتبدأ مغامرة الشاعر في اكتشاف معانيها المتعددة و المتجددة. وعليه فالشعر موجود في الشاعر وحوله، لكنه ليس هما..انه ليس الأشياء ، أو تجلياتها، أنه أعمق من ذلك وابعد؛ انه كل شيء، ولهذا فهو يبدو عاجز أحيانا للوصول إلى ماهية تلك المعاني الخفية في الأشياء والوجود والإنسان والأحاسيس؛ هل يمكن وصف معاناة مويجات صغيرة في قاع النهر؟ أو خيبة قطة ترتجف قي برد الشتاء وهي تبحث عن مأوى في العراء؟ لحظة عشق تسبق الفراق؟ حرارة الدمعة في عيني طفلةٍ في لحظةِ خرابِ مدينةٍ أيام الحرب؟ ارتعاشة برعم في أول الصباح؟ أو الألم حين ترتعش الأصابع في هنيهة تلويحةٍ لموت عاشقة؟ الشاعر يحاول أن يقبض على كل تلك الأشياء ويعيدها إلى أصلها إلى منابعها الأصلية؛ إلى الصمت !
عبد الله بن ناجي (المغرب): الاشتغال على الشعر وبالشعر هوس داخلي يتولد بالموهبة، وينمو بالاجتهاد في التمرس على آلياته. الشعر صيغة في الحياة والموت؛ الشعر عِلّة وجود بالنسبة إليّ، ولا يمكنني الانزياح عن الكتابة الشعرية إلا بمقدار ما يسمح بالعودة إليها أكثر عمقا وتوهجا، ومهما قيل عن أفول زمن الشعر، وعن صعود زمن الرواية أو غيرها من أشكال التعبير الفني، في تقديري يبقى الشعر سيد القول في فن الكلام. بل وأعتقد جازما أن الشعر قد غزا مختلف أشكال الكتابة، فالرواية اليوم لا تكتسب قيمتها إلا بحضور النفَس الشعري ومقوماته، وكذلك القصة لم تعد محكومة بالمكونات السردية وحسب، إنما ميسمها اليومَ الإيقاعُ والإيحاء والعُدول وتكثيف الصور الشعرية؛ وواقع كهذا ينحو بنا نحو مقولة النص الأدبي، وانتفاء الحدود بن الأجناس الأدبية؛ لكنالقصيدة تبقى خزّان كينونة العالم، وهي القادرة على منحه الأبعاد الجمالية التي تتطلبها الحياة، إذ المعبر إليها هو عمق الفكرة وتفكيك سيرورة التحول وتجلياته. أرى والرؤية ليست ملزمة أن كتابة قصيدة شعرية هو معادل لكتابة الذات على الورق.. مهما تلبّستِ النصوص بالمُتخيّل تبقى ذات الشاعر حاضرة ومحيطه متواريا خلف تراكيبالكلمات وصيغته في القول، بل إن إيقاع النص يتموج بتموجات النفس، لذلك لا انفصام بين النص وكاتبه حتى وإن بدا أنني شيء وما أكتبه وأقوله شيء آخر، وحين أتحدث عن القصيدة أتحدث عن الشكل الإبداعي الذي ارتضيته للتعبير عما يجوب في الداخل من انعكاسات خارجة عنّي؛ أنا لستُ كاتبا مُهاجرا، منذ البدء وأنا أتلمس طريقي في القصيدة، أسعى لخوض التجربة بكامل اليقين في الشعر، معطفي مليء بالثقوب، لكنه نسيج يديّ من خيوط غزلتُها بكامل الأصالة في الكتابة؛ لم أحمل حقائبي مسافرا إلى القصة القصيرة جدا كما فعل شواعر وشعراء كثيرون انسياقا مع مدّ حضورها اللافت الآن؛ أي نعم أنا أومن بمقولة النص الأدبي التي تختزن الشعر والنثر معا، لكن رؤايَ في الموضوع لم تكتمل ملامحهابعدُ، لذلك لا يمكنني الخوض في تجربة لم يكتمل تصورها في الذهن، ولو من باب التجريب، لأن للتجريب قواعدَ وأسساً ينبغي الانضباط لشروطها.قد يبدو التمسك بالنص الشعري في زمن التكنولوجيا والتغيرات المتسارعة للحياة ضربا من الوهم والانسداد، غير أن واقع الحال يقول إننا في أمس الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى الشعر، لأن العودة إلى الذات ومساءلة الواقع لا تتم إلا بالكتابة، بل إن التكنولوجيا ذاتها صناعة تقوم في جزء كبير منها على المُتخيل الذي يُعدّ ساحة معترك الكتابة. وفي العمق أنا أكتبُ لأتخلص من سطوة الآلة ونمطية الخطو في المشي، أنا أكتبُ لأمارس رغبتي القُصوى في الاختلاف، والاختلاف سيد علامات التميّز في الإبداع، والإبداع إلى الآن في رؤيايَ قصيدة شعرية أسعى جاهدا لجعلها مختلفة إيقاعا ومعنًى، تليق بجو الاحترام المتبادل الذي يسود بيني وبين الكتابة؛ لستُ اكتُبُ لأغيّر لون السماء أو شكل الأرض، بل فقط للحفاظ على المعنى العميق وقيم الجمال من التلاشي، لأن تلاشيها معناه ضياع هذه الذات التي تحملني في زوبعة التهافت نحو قيم الاستهلاك والمجانية والسطحية والابتذال؛ أنا أكتبُ الشعرَ لأنّ الحياة في الحياة تتطلب قدرا من الجمال كي تستمر الحياة؛ أنا أكتبُ الشعر لأن الشعرَ صديقُ العالم الوحيدُ.
عيسى الشيخ حسن: قلم المُطلق يدوّن الجمال والحرية والموت، ورطة الحياة في لعبتها الأزلية مع الموت، شهر نيسان فاتحاً ذراعيه لغواية الصيف، زبدة اللغة بين يدي طفل، نهار يعبر وحيداً في خريف غريب. الشعر انهماك المجازات في تجميل الغامض، و توتر اللغة في ترجمة الألم، الصعوبة بوصفها قنطرة إلى الواضح، والغروب بوصفه برزخاً بين لونين، و” آخر دمعة للكون”. ارتجاف موجة في عين سمكة، و موقد نار في شتاء. الشعر لعبة الوَلَه بين الفضول والألم، خيط الإبرة في ثياب وسادة هبطت للتوّ من حبل الغسيل. الشعر؛ العيد والوعيد، القمر والذئب، الرغيف و السوط، دموع بطل متوّج يسمع نشيد بلاده، رحلة حزمة حطب فوق ظهر فلاحة، الشعر آهة مقرور، و بهجة تنّور في الخامسة صباحاً، أكفّ الباكستانيين المغتربين في وجه هلال أول الشهر لحظة الغروب قارئين الفاتحة، الشعر ما بقي من ريش العصفورالهارب من قبضة صيّاد، الدينار الفالت من جيب مثقوب يتدحرج على أمالي القرن الخامس الهجري. الشعر قوس احتمالات اللغة تتدبّر خطاب الطغاة. وجع السحابة وقد تلاشت على كتف الجبل، ذات الجبل ” طماح الذؤابة” في دفتر طالب الثانوية، ذات الجبل صديق المطاريد والمغامرين في رواية فتحي غانم. الشعر؛طفولة الضوء في حضن العتمة، إجفالة الظبي في فلم وثائقي، وردة الموسيقا تتبرعم في حضن المشاهد الأخيرة من مسلسلات عربية، الصفحة الأولى من روايات نجيب محفوظ، الضحكة في عيون قراء روايات كازانتزاكي و كونديرا، صوت مدرّس يقرأ نصّاً للمتنبّي وينسى أنه مدرس ويتماهى بالنصّ. النهايات تستحمّ بالذكريات، النهر شاهداً تراكم الحجارة الهشّة، سوار امرأة يغفو في يدها على مرأى من لص وعاشق، عربات الدرجة الثالثة تعاند المكان و ظلال الأنفاق العابرة، جمهوريات الأمل في حديث المعارضين، و لثغة الحمل في كلمة الديكتاتور، منظور هندسي لا يتقنه طلاّب كليات الهندسة، وجع استثنائي تحذفه الطبيعة في جوف الكلام، حوار بين عينين لحظة وداع، طيور القطا في أول الصيف على بعد فخّ وسنبلة، دفتر طفل أتقن للتو كتابة حرف الألف والرقم1. الشعر ( فلتر) تعبر من خلاله الزوابع إلى الغابات بوصفها نسائم، و ( شاشة) تكشّر فيها الوحوش كأنها غزلان ترتع في فضائية لاتعنى بالأخبار العاجلة. فريق البرازيل عام 1982بين يدي الشاعر سانتانا، معزوفة بصرية مذيلة بتوقيعات تذوب على شاشات الأسود و الأبيض. الشعر؛ نظرات ماجدة الصبّاحي البلهاء في أفلام الستينات، صفحة وجه محمود مرسي في أدوار البطل المهزوم الحزين ، حارس الفضيلة، كلمات الزير سالم على لسان سلوم حداد، العشق الفلسطيني الفقير في التغريبة الفلسطينية، الشعر أن تدسّ المرثيّة في أذن أجيال لم تتقن الصعود، وأن تجرّ الملحمة إلى جيل لا يجيد الصهيل، الشعر أن نشرب و نهرب ونعرب ثم نكتب على مهل كلمتين للبنت التي عذبت الولد، الشعر لمسة الأعمى لعكازه ، و نظرة الأصمّ لأولاده، الشعر طلقة اليقين تفلت من بارودة صيد فتصيب غيمة . الشعر؛ الكلام الذي أعوز اليتيم ليستعيد أباه، والكتاب الذي نسيه طالب سنوات، ليعود إليه مستعيداً عشرات الإملاء واصفار القواعد، الشعر الحذف بوصفه تطهيراً، والإضافة بوصفها غلافاً. الشعر؛ انتظار اللغة في حضرة أولاد مشاغبين، وعشاق ممسوسين، و عابري طريق نازحين إلى السماء.
لحسن هبوز (المغرب): يبدو من الواضح أن تاريخ الإنسان يحفظ كسجلّ في تاريخ أدبه، والشعر تلك التنهيدة الجريحة للوجود البشري، تنهيدة تجعلك حائراً !! هل هي صرخة من صرخات الحياة أم إيماءة أخيرة قبل الموت ؟ عندما أكتب الشعر أحسّ أنّي أندّد بما يقع للعالم.. يا للهول أين خبّئت الطبيعة ذمّتها لمّا قرّرت أن تنجب كائنا مثل الإنسان ؟؟ كطفل صغير جدّاً يلبس فردتا صندله بشكل مقلوب أزعق أمام وجه العالم حسنا.. أعرف أنّي لست وحيداً في المضمار فغالباً ما يقلق الإبداع كل شيء، ودائما ما يدمّر الشعر كل سكون الحياة، سكون منافق يظهر عكس ما يضمر، فالعالم بالكاد يكون بخير، والشعراء وحدهم من يحملون همّ العالم لأنهم يحملون الجرة فوق رؤوسهم ويحتاطون من الحجارة الطائشة التي يقذف بها العامّة، الفشل هو أن تقطع المضمار دون أن تسقط الجرّة من فوق رأسك، والنجاح عندما تصيب الحجارة رأسك بدل الجرّة.. فالعامة لا يحاولون أن يصيبوا الجرّة إنهم يحاولون أن يصبوا رأسك أنت.. بهذه الأمثولة وحدودها أرى الشعر والشعراء الآن .. أكثر ما يقلقني كشاعر مبتدئ هو تلك المعيارية القاتلة والتصنيف الذي أقحمه البعض في الموضوع، فأصبح الشاعر يعيش تحت ضغط النشر الورقي، ويفرض عليه أن يحس باليتم لكون أنه ليس له ديوان، أو لم يشارك في مسابقة أو شارك ولم يفوز بها.. أرجوكم دعوا الأمر هكذا دعوا الشعر يفسد علينا حفلتنا التنكريّة.
عبدالله الهامل (الجزائر): الشعر و ما أدراك.. انه التجربة الإبداعية الأخطر أليس هو الذي بدا به المعلم الأول سقراط التاريخ للفن البشري في – فن الشعر-.. الشعر وقوف مضطرب على حافة الهاوية و تأملها بعيون ضاحكة ..الشعر كذلك لغة البدء.. بدء العالم و لغة تهايته.. في انبلاج الفجر ومغيب الشمس.. تماما مثل الأبدية التي وصفها رامبو المبجل.. والقصيدة أيضا بنت كلب مخلفة المواعيد و الهاربة من سرير العاشق في الذروة.. خائنة الأعين والحواس.. يكتب الشاعر قصيدته ليقول الهشاشة و الارتجاج الداخلي للروح.. يكتب قصيدته ليقول للعالم طز.. ثم إن القصيدة أسيرة اللغة لا مكان لها خارج أرضها… في الأخير الشعر هو أجمل اللعنات قاطبة.
أحمد ضياء ( العراق): دعوة أساسية تتم بين الاعضاء البيولوجية للجسم فلا يمكن الفصل بين ما هو روحي عن ما هو مادي ذلك هو الشعر على أقل تقديرـ المصنع الأساس الذي تضع نفسك وفن شعرك به دليل على الانصهار بينهما إذ من خلال (استعمالات فن الكتابة) حولت أن أوصل بعضاً مما أكتب لذا جاء المفتتح البصري للكتابة بهذا الشكل (بداية كل شطحة دماغية، ينبغي أن يكون هناك مفتتح شعري يلوّن ذات الفرد بأكاسيد ترفع قماشة النص نحو مصاف الذهول. معظم الذين يجنحون إلى مثل هذه الأضراس الكتابية عليهم أن يلجوا بأكوام تدوسها مقاطع من التجريب غير المنتهي. الموت لحظة غير معلن عنها سالفاً، تأخذ الجسد في دوامة انقلابات، تشاكسه، تبعث منه روائح كريهة، تطوّح بشعريات نسقية باتت تسبب أرقاً للشعراء.) وهنا ينبغي الآخذ على محمل الجد الآليات الأساس التي تنحو إليها الذات العارفة. وحتى نخرج من منطقة التقنين والتقديس للمفردة، أدعو إلى أن تكون الكلمات غير مفهومة معومه خالية من الشيء لأنها أصيبت بالخرف والشظايا وبما أن واقعنا مملوء منها والكلمات أصبحت بالية، يجب أن ننتج قاموساً حياتياً شعرية لذواتنا يسهم في بيان علتنا فالكلمات تعفنت وما عادت تستوعب الألم الذي نحن به، عبينا أن ننتج مفردات خاصة بنا، وأنا باشرت في هذا الأمر.
وسام علي (العراق): بتناص مع سيل لويت سأقول أن النص لا القصيدة هو الفكرة التي سنستخدم جميع القرارات والخطط من اجل العمل كماكنة لتمثيله، هو ليس خياليا أو نظريا بل، ربما، واقعي قابل للتطبيق أو سبق له إن وجد. عدم الاعتماد على المهارات “الشعرية” ستجعل الكاتب أكثر حرية، من الممكن أحيانا يصبح جاف عاطفيا لأنه سيكون ضربة عاطفية خالية من التبريرات، هذا يعني استهداف إحساس ما/غير عقلي وذلك باللعب على توقعات القارئ.
الموجة: (المشرفون على الملف): غدَا الشعر اليوم، العربي منه بالخصوص، أمام أشكالٍ /أنماط متعددة ومنفتحة قابلة أن تستدرج داخلها مآلات كل منها وما جدّ في الساحة العالمية وما تجدد من مدارس شعرية وفكرية وأدبية، كما علمية. لم يعد الشعر مقتصرا على فئة دونما العالمين، ولم يعد حكرا على من يمتلكون منابرَ من ورق أو صروحا من عاج. مع التقنية وبُعْدها الميتافيزيقي المتمثل في هذا العالم الافتراضي، صار للشعر فسحة واسعة وأراضيَ نضجٍ خصبة، ومنابرَ مُدَمَقرطة. إننا اليوم أمام دَمقرطة الشعر والقول الشعري، ولأكبر دليل عن ذلك هو “اتساع” عدد الشعراء، الذين أنصفهم الفضاء الأزرق، بأرقامه الليبنيتزية المتعالية. ونحن في هذا الملف الذي أحدثناه على مجلة (الموجة الثقافية)، وبعد نجاح ملف راهن القصة العربية: صحاري الخيال المنسية، نأتي لنؤكد على إمكانية خلق تفاعل شعري في أوسع امتداده الجغرافي، من البحر إلى المحيط، ومن المغرب إلى أقصى الشرق. لنبيّن جازمين أن روح الشعر لها أن تتلاقى ها هنا في فضائنا الافتراضي (الحقيقي!) ولنظهر إمكانية اجتماع مختلف الأنماط الشعرية للقصيدة العربية، داخل فضاء واحد. فاليوم نحن أمام تقعيد لا مندوحة عنه للقصيدة العربية ويبتغي التأكيد على أن للقصيدة ثلاثة أوجه انكتابية، أمام قابلية الانفتاح على أنماط أخرى في المستقبل لا علم لنا بها، فالشعر هو ذلك المطلق والنسبي هو الروح التي لا تفنى، هو الطاقة التي تحرك العالم. لم نأت لننتصر لقصيدة دونما أخرى، أو لنقل بموت جنس وحياة جنس آخر، فالشعر أبعد وأبرأ من هذا. الشعر هو ذاك القول النابع من الروح، المتمثل في أنه روح العالم ومُحرّكه. لعلّ البعض يسأل عن جدوى الشعر في زمن التقنية؟ لسنا أبدا روحانيين بالشكل المريب، أو ماديين بالشكل الأقصى المنقرض، بل نحن كائنات تؤمن بأن العالم مجرد ريح خفيفة ونسيم عابر علينا أن نتلمسه ونستشعره ونسير عليه، نؤمن أن بين ذرات الهيدروجين حيث يمكن أن تندلع نيران العالم، يمكن أيضا أن يوجد شيء من كيمياء خفية تحرك الذرات فيما بينها بحب، إننا اليوم لأشد حاجة إلى الشعر من حيث أنه منبع الحب. لسنا بهذا رومانسيين أو ما شابه. بل أيضا ولأن العالم عندنا بلامعنى ولا ترتيب فيه وعبثي إلى درجة الجنون، ومن الجنون ينبع الحب، نؤمن أن الشعر هو الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يجعل للعالم معنى ويرتبه داخل كلمات من عاج. الشعر.. الشعر.. منبع الحياة، الشعر هو أقصى ما يمكله الكائن /الإنسان، ليواجه فوضى العالم، الذي يتجه لبرودة تامة. إنه دفء الشرايين، وإرتعاشة الروح، من حيث هو الروح. جاد الإنسان على نفسه حينما قال شعرا، بل إن رسومات أهل الكهوف لشعر، فالشعر أول الوجود ومنتهاه. الشعر هو الكائن نفسه حينما يحب العالم، والشعر هو الكائن حينما يحب ذاته، الشعر هو حركات الأنفاس وحركات الكون. أما القصيدة فذاك السديم البارد جدا من حيث تنبع أحرّ الشموس، ومن حيث ينبثق الثقب الأسود، فالقصيدة كون يبتلع نفسه ليُولَد كون جديد، إنها في حركة فناء وخلق /وخلق وفناء لا منتهي، إنها البقاء الوحيد، إنها الموجود الوحيد، هي الفناء العظيم. في ملف راهن القصيدة العربية: السديم والفناء العظيم، نسائل القصيدة بنماذج معاصرة وعبر شهادات حية لشعراء ومهتمين ونقاد، ودراسات نقدية حول مختلف تمثلات القصيدة العربية، لنقدم ما استطعنا من القول الجاد في راهنية القصيدة. المشاركون في الملف: قسم الشهادات (الجزء الأول) محمد حربي (مصر)، نبيل أكنوش (بلجيكا)، سناء مكركر- شڤيبرت (ألمانيا)، مازن المعموري (العراق)، محمد ناصر المولهي (تونس)، مبارك وساط (المغرب)، عبد الفتاح بن حمودة (حركة نص تونس)، نور الدين الزويتني (المغرب)، مبروكة علي
رشيد الخديري (شاعر وناقد أدبي مغربي): في راهننا الشعري، يطرح سؤال، يتكرر كل يوم: ما جدوى الشعر الآن؟ وهل الشعر “مازال ديوان العرب” كما قيل؟ سؤال كهذا يبدو متاهة،لأنه لا يمكن اعتبار زمن الشعر قد انتهى وانكمش دوره الوجودي والجمالي، أو أنه لم يعد صالحا ليكون خطاباً في الجمال والمعرفة و التداولية، باعتبار ما نزعمه من انسداد أفق الشعراء، وانحسار متذوقي الشعر، قياسا بمن يذهبون صوب المعمل السردي على سبيل المثال، قلنا، إن السؤال عن جدوى الشعر متاهة، والإجابة عنه أيضا متاهة، وهذا النوع من الأحكام” المعلبة”، والجاهزة بالمعنى الكوني للشعر ووظيفته في الوجود، يجعلنا في صلب الأسئلة العميقة التي يطرحها الشعر على وجوده ذاته، نحن في حاجة إلى الشعر؟ أليس الشعر رئة ثانية يتنفس بها العربي منذ العصور الغابرة؟ صحيح أن الشعر اليوم يعيش حالة خمول وتكلس، لكن هذا الوضع يقتضي منا نوعا من المساءلة والاستئناف، في ظل ما نعيشه اليوم من صدام يومي مع الحياة وهيمنة التكنولوجيا، وجنوح السواد الأعظم من شعرائنا نحو استسهال الكتابة الشعرية، خاصة مع ظهور ما بات يعرف “بقصيدة النثر”، وانحراف الإنسان عن معنى الشعر الأنطولوجي. إن وضعا كهذا، يقتضي مساءلة الشعر باستمرار، حتى يدرك الشاعر حجم الخيبات التي يتكبدها بفعل ازدرائه لقيمه ومعنى أن يكون كائنا منتجا، موجودا بالشعر، لكونه إعادة صياغة الوجود، بما لم يكن واردا في هذا الوجود، بمعنى يصبح للشعر قدرة على الخرق والابتكار، واستئنافا للوجود في سياقات الصيرورة والأنا الخاضعة خضوعا كليا لفن الشعر، بعيدا عن التشظي والتلاش ، والسقوط في المشترك والمستهلك. يمكنُ أن نقول في ضوء هذه المخاضات العسيرة، والتفجرات الهائلة، أن القصيدة العربية المعاصرة توهم ولو بشكل ظاهري عن وعيها الوجودي، وانخراطها الكلي “في أسئلة الحداثة”، التي راهنت عليها منذ إرهاصاتها الأولى، لكن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد انعطاف متجاوز، نحو خطاب شعري يشكل عنصر الارتداد الركن الأساس في بنياته الفنية والجمالية، وهذا طبيعي في ظل الالتفاف حول نموذج شعري مازال مسيطرا على الذهنية العربية، لأن القصيدة المعاصرة تأسست على أنقاض الشكل القديم، رغم المحاولات التي أبدتها من أجل تحقيق التوازن الذاتي، وتأسيس سقف مغاير، يستجيب لمعاييرها بعيدا عن سماوات أصول الشعر العربي، من هنا ينبع السؤال: ما مستقبل الخطاب الشعري الجديد؟ لن نقول إنها حالة تجاوز، بقدر ما هي محاولة لإيجاد ملامح خاصة ضمن صيرورة النص الشعري العربي، والواقع الآن الذي يفرض نفسه بإلحاح، هو أن القصيدة تعيش حالة عزلة عن كيانها، نتيجة ” أزمة الثقة” التي تولدت بينها وبين القارئ/ المتلقي، وهي مطالبة اليوم قبل أي وقت مضى بضرورة البحث عن آماد أخرى تحتضنها، وتحتضن رؤاها الجديدة، لكن يجب أن نعترف من باب الإنصاف على الأقل، أنها أحدثت خلخلة في الشعرية العربية، بفعل طاقاتها التفجيرية التوليدية، وأظهرت مدى السعي الحثيث الذي سعى إليه روادها الحداثيين من أجل خلق ديناميكية جديدة في روح وجسد القصيدة، دون – أن يعني هذا طبعا- التنكر للثدي الذي رضعنا منه جميعا حليب القصيدة العربية.