الرئيسية | منبر الموجة | واقعنا الفني: تزايد سريع في أوزان الأجسام | سعيد بوخليط

واقعنا الفني: تزايد سريع في أوزان الأجسام | سعيد بوخليط

سعيد بوخليط

 

أود الإشارة إلى ملاحظة تثير انتباهي، لا أعرف إن كانت تستحق الوقوف عندها أم لا؟ على الأقل، ضمن سياق إشكالية المقاربة الفنية الخالصة للفني، الجمالية لما هو إبداعي، الشعرية لما هو ذكي وخلاق. هكذا، تفرض طبيعة المعجم نفسها، وتأخذ المفاهيم اللائقة بنيتها التوليدية،لأن الفن هو كل ذلك : الجمالي والإبداعي والشعري فالذكي، حيث الانصهار التام بين جمالية الذكاء وذكاء الجمال.

بالتالي، عندما تنعدم أرضية ثنائية كهذه، ويصير الأمر باعثا على الاشمئزاز، فلاشك أن التقييم لحظتها لما يجدر به، فنا محضا، أو على الأقل يجتهد بكيفية ما، صوب هذا المسعى، سيشرئب آليا ، جهة الغمز واللمز والتفكه حفاظا على رشاقة القلب وسداد العقل أو بالأحرى سلامته، وعدم انسداد مجرى الشرايين، احتماء من ارتدادات ضحالة ما يجري باسم الفن.

أقصد بالملاحظة، الشكلية أساسا، في ظل انتفاء شبه تام للمضامين، أنه بالكاد ما يروج إعلامنا لاسم أكان ذكرا أم أنثى، ثم بطبخة عجيبة سرعان ما يكرس “فنانا” لا يشق له غبار، ولا يتناطح بخصوص مستوى عطائه كبشان، فيصبح نجما وكبيرا وعملاقا وهرما ورمزا يمثل البلد خير تمثيل، في جلسات الخيام الخليجية. ثم، وإن قصرت المدة الزمانية الفاصلة بين ذاكرتي، قبل وبعد، وموازاة مع ارتفاع وزن أحدهم داخل مواقع التواصل المعاصرة، ستتجاوز أيضا من ناحية أخرى، كيلوغرامات وزنه الجسدي الحدود المعقولة، يصعب معه حاليا فيما يتعلق بجل النماذج المتداولة، التمييز بين صورة فنان أي ذلك الكائن الرقيق، المرهف الحس، وما تقتضيه متواليات التحديد، من خفة طيف لا يكف عن التحليق في سماوات الخيال والإبداع، ثم خرتيتية (نسبة إلى الخرتيت) مصارع من مصارعي الأقفاص.

قد يكون البورتريه طبق النسخة الأصلية، بالأخص لدى الذكور، إذا كان صاحبنا أصلع الرأس تماما، أنبت وجهه لحية عمل على تطريزها بتأن خرائطيا بل كاريكاتوريا، ينزاح بها عن أي انتماء يميني أو يساري بل ولا مجرد الانتساب للوسط، تدلت من يديه وأذنه وأنفه، أساوير ودماليج وأقراط ، وتزويق أذرعه المكتنزة بوشام، يشي عن مدى ضراوته وبسالته.

لكي تتكامل صورة الإكسسوار، سيعصر أطرافه العلوية، صيفا وشتاء، ب “تي شرت” ضيق جدا،على المقاس،بوسعه أن يوثق صدقا للفتوة والقوة أو أطروحة “التبوغيسة”كما يقولون،التي يتنافسون على استقراء دروبها.بل، بعضهم أضحى مضنيا كل يوم صفحته الفايسبوكية،بمشاهد ادعاء تواجده داخل قاعات كمال الأجسام، يتباهى على العشاق والعاشقات،بكيفيات تشحيمه للعضلة ذات الرأسين والثلاثية والأفخاذ،ثم سروال جينز كالقميص من النوع  الذي يرص رصّا،المشبع طلاء وتمزيقا.

قد تغيب لأسابيع عدة عن متابعة إنتاج تلفزتنا،غير مهتم لاكتشاف جديد الحقل الفني،لكن حين ملاقاتها ثانية،لن تصادف ما يستحق انتباهك،سوى أن هؤلاء المحسوبين على الصنف،قد تضاعفت أرطال أجسادهم بشكل يبعث على التقزز،فتغيروا مظهريا بجلاء عن ما سبق.في المقابل،لن تتبين شيئا ذا قيمة فنية قياسا لتضخم الوزن واللغط الملحمي،ثرثرة،الذي يسحق حواسنا طيلة الجلسة المسماة فنية.

لا ألزم أحدا برأيي هذا، ولا أعممه في نفس الوقت، بيد أني أعتقد أن ما يجري حولنا ويتم تنميطه وترميزه باعتباره فنا، أخذا بعين الاعتبار كذلك، الضجيج الإعلامي المهول المرافق لحركات وسكنات أسمائنا الفنية، يظل ضحلا، هزيلا، في غاية الابتذال،لا يمكنه الارتقاء بالذوق وتهذيب السلوكات وإثراء الدواخل وإغناء المشاعر الآدمية وتفتيق ينابيع الذكاء المجتمعي، نحو تلك العوالم البناءة، التي ترسيها بكل تأكيد، منظومات الفن المبدعة بالمعنى الحقيقي للمفهوم.

الفن، مشروع رصين ورؤية وجودية في غاية الثقابة والحصافة، تكد في سبيل تأطيره الأمم والشعوب لاستمرارها الحضاري، لا يمكن عزل تعضيد لبناته القاعدية، عن مسارات المنظومة المجتمعية عامة، ضمن أفق الماهية الإنسانية .لذلك، تعكس التمثلات الفنية،حسب جِدتها أو تفاهتها، ما تطويه بنية هذا المجتمع أو ذاك، وما يعتمل بين طياته، وفق رجحان كفة هذا المنحى أو ذاك.

عموما،يفتقد عطاؤنا الفني في تمظهراته الجارية حاليا، لمقصدية بناء المتلقي عقلا وروحا، مكتفيا بلغط تجاري جشع ينمي ويمركز الخواء والفراغ، مع مزيد من انفتاح أسواق “حداثتنا” السطحية بالتالي الهشة، على صيحات المنتوج التقني، فتألية وأتمتة عمقنا الإنساني بشكل فظيع،مع انتفاء مقومات حداثة أصيلة، متجذرة بأذرعها الفكرية والسياسية والاقتصادية والقيمية، حيث الأنسنة المستمرة الاشتغال.

استشرافا لهذه الوضع،ينبغي على فنانينا كخطوة شكلية أساسا ،أن يجعلوا حقا من شكلهم ومظهرهم، شاهدا مقدماتيا على استحقاقهم للنعت الفني،فيتحولوا من أسانيد هرطقات : اللوك، ماركتينغ البوز le Buzz، “إحصائيات لي فان”les fans، اليوتيوب، يانصيب البيترودولار، اللايكات، القفطان،مصحات الليفتينغ، المجوهرات، “البوغوس”، “البوغوسة”… والاجترار الممل لاستهلاك ما استهلكناه منذ عقود، في ظل إدمان جلسات الأحاديث المجانية، التلفزية والأثيرية، باستمرار حد الغثيان،بدعوى تأكيد الحضور الفني.

جلسات، لا تعمل أولا وأخيرا، سوى على ترسب كميات الدهون في جسم الفنان، هكذا يفتقد نتيجة الارتياح والشبع والعطالة والوهم، صورة الفنان الرقيقة والعذبة المفترضة، ومتحولا إلى هيأة مصارعي الوزن الثقيل، المفارقة تماما.

مقابل ذلك،تحترق دهوننا باستمرار، نحن المتتبعين والمستمعين، غمَّا وهمَّا، نتيجة الاستخفاف غير المقبول، بعقولنا وأحاسيسنا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.