الرئيسية | سرديات | ملح الحياة: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي -فرنسا

ملح الحياة: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي -فرنسا

حنان الدرقاوي -فرنسا

 

 في صيف 1984 أصيبت صديقتي سعيدة بمرض المينانجيت الخطير. كنا نسكن ميسور ولم يكن المستشفى المحلي يتوفر على العلاج. أخبرتنا أختها أنها نقلت إلى فاس لتلقي العلاج. بقينا في انتظارها أربعين يوما حيث أفاقت من الغيبوبة لكنها احتفظت بشلل في الأطراف السفلى. عادت إلى بيتها وكنا نرغب في زيارتها بعد أن زال خطر العدوى. كنا زهرة، إيمان فريدة وأنا نستعد لزيارتها. قالت إيمان أننا يجب أن نجلب لسعيدة شيئا، هدية ما مثل الكبار حين يزورون المرضى.

 اتفقنا على أن نشتري بطاقة ملونة، بعض الدانون وعلبة جبنة. لم يكن معنا مال. كانت تلك الأشياء تستلزم عشرة دراهم كاملة. من أين سنجلب تلك الدراهم؟ فكرنا كثيرا ثم بدأنا نطرح الحلول. كان مستبعدا أن نطلب من أسرنا فتلك مصاريف لا تندرج ضمن أولويات أهالينا.

قالت إيمان أنها يمكن أن تعيد بعض قنينات الكوكا والفانتا إلى البائع وتنال درهما لكل واحدة. كان هناك أربع قنينات وذلك يعني أننا وفرنا أربعة دراهم.

قلت لصديقاتي أنني من جهتي يمكن أن أبيع جرائد أبي القديمة لصاحب الزريعة والكاوكاو. عملنا بجد وحملنا القوارير والجرائد إلى وسط المدينة. بعت الجرائد بأربعة دراهم وربحت إيمان أربعة دراهم. هكذا حصلنا على ثمانية دراهم وظل ينقصنا درهمان لنشتري ما نحتاجه لزيارة سعيدة. قالت فريدة أنها يمكن أن توفرها ببيع كتاب رسائل العشاق. كنا نعرف أهمية ذلك الكتاب بالنسبة لها ولنا جميعا. كانت تنقل إلى عشاقها رسائل منه. من غير المعقول أن تستغني عن كتابها المقدس والذي تحتفظ به دائما في حقيبة يدها استعدادا للحظة الكتابة. نظرنا إليها وحاولنا إثناءها عن رغبتها. قلنا لها أنها فعلا صديقة مخلصة ووفية لكننا في المستقبل قد نحتاج إلى كتابة الرسائل إذا ما باح لنا شاب بحبه. من أين سنكتب الرسائل وكيف بدون ذلك الكتاب؟ كنا جميعنا نعول على فريدة وكتابها من أجل رسائل محتملة في المستقبل. لا شك أن الشباب سيلتفتون إلى أنوثتنا يوما. في انتظار ذلك اليوم لم أتلق إلا اعترافا واحدا بالحب من ولد يدرس في قسم الباكالوريا. اعتراف شفوي وهكذا لم أحتج إلى كتابة رسالة. أجبته شفويا أنني ما زلت صغيرة على الحب. فعلت ذلك لأجعله يتعلق بي أكثر لكنه انصرف الى رجاء بنت في الثانوي وتصاحب معها.

حاولنا إثناء فريدة عن عزمها بيع كتاب الرسائل لكنها لم تستمع إلينا. قلنا لها أننا ضائعات بدون ذلك الكتاب. لم نكن نعرف أن نتكلم عن الحب بلغتنا الطبيعية وكانت عبارات الكتاب تغنينا عن البحث عن كلماتنا ونحن نخوض في موضوع حساس كالحب. لم يكن الحب مألوفا في أوساطنا فإيمان وحدها تقول أن أمها قالت لها مرة بالحرف “أحبك يا بنتي” كانت تلك العبارة خارقة واعترافا أكبر من اعتراف الأولاد. كان الحب في أوساطنا طابو لا نسمع عنه ولم يحدثنا عنه أحد لهذا كنا نعجز عن التعبير عنه بلغتنا البسيطة وكانت تلزمنا وساطة كتاب الرسائل كي نعبر عن بعض ما في ذواتنا. كان خسارة حقيقة أن تبيع فريدة كتابها، كتابنا جميعا.

تقدمت نحو بائع الزريعة وقالت له “بكم تشتري هذا الكتاب؟” رد عليها “ثلاث دراهم. باعت الكتاب وامتلأت عيناها بالدموع وهي تنظر إلينا. بكينا جميعنا لبيع كتابنا المقدس. قالت فريدة وهي تتشبه بنبي ما:

 – لا يهم التضحية في الصداقة. الصديق هو ملح الحياة سعيدة صديقتنا وسنبقى معا دائما لأننا ملح الحياة.

 فيما بعد قرأت أن أرسطو الفيلسوف قال نفس الكلمة في حق الأصدقاء رغم أنه قال أيضا أنه يفضل الحقيقة على الصداقة. لم نكن نملك حقائق ولكنا باحثات عنها، كنا فقط مراهقات يعدن خلق العالم بخلق صداقت تعوض عن قسوة الأسر واختلال العواطف فيها. كانت الصداقة مرفأنا الوحيد في مدينة لا تسلية فيها.

نسينا أمر كتاب الرسائل، اشترينا حاجياتنا ومضينا لزيارة سعيدة التي فرحت كثيرا بالبطاقة. لم نحدثها عن بيع كتاب الرسائل فقد كانت هي أجملنا وكانت تستعين به لكتابة أجوبة على كم الاعترافات التي تتلقاها منذ أن برز نهداها الكريمين. دعتنا إلى أكل الجبنة ولم نرفض لأنها هي أيضا ملح الحياة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.