الرئيسية | فكر ونقد | مطلب العدالة لمصالحة الذاكرة في مؤلف “سياسات الذاكرة” لعلي أوعبيشة | عبيد لبروزيين

مطلب العدالة لمصالحة الذاكرة في مؤلف “سياسات الذاكرة” لعلي أوعبيشة | عبيد لبروزيين

عبيد لبروزيين

 

 

منذ عصر الأنوار، ارتفعت أصوات الفلاسفة والمفكرين بإرساء أسس العدالة، وإقرار حقوق الإنسان لبناء مجتمعات ديموقراطية تضمن حقوق الفرد والجماعة، غير أن مطلب العدالة في علاقته بالماضي/الذاكرة، ظل في تجاذب مستمر بين السلطة والهامش، والظهور والكمون، وهو ما يحاول علي أوعبيشة مساءلته في كتابه “سياسات الذاكرة، بدائل علاجية بطعم المرض”  الصادر عن سيليكي أخوين، 2017.

أحداث الماضي موضوع المساءلة، لم تنته باعتبارها ماضيا، أو مستقلة عن السلطة والحاضر، بل أصبحت امتدادا في الزمن بشكل من الأشكال، ومجالا للتأويل يتداخل فيه السياسي والاقتصادي والإيديولوجي، فتنتكس المعرفة التاريخية الحقة أمام برغماتية الفرد والجماعة، لذلك يدعو الكاتب إلى مساءلته مساءلة موضوعية، بعيدا عن المذهبية أو العرقية أو الاستجابة لمطالب التخلص منه لسبب من الأسباب.

يتخذ علي أوعبيشة استراتيجية محكمة للتموقع في الزمان والمكان، فها هو يطرح سؤالا ماهويا ليضع قدميه على أرض صلبة، من نحن؟ سؤال جعله يتوقف عند مفهوم الهوية، الذي قال عنه بأنه ديناميكي يتشكل باستمرار، وتتمدد حدوده وتتقلص حسب المتغيرات الدقيقة غير القابلة للملاحظة أو القياس، غير أن تصوره هذا للهوية، كان الهدف منه كشف الهويات المنغلقة على ذاتها، والهوية المصطنعة والمزيفة خصوصا، التي نمت بسبب الاستعمار في بلدان شمال إفريقيا أمام غياب وعي تاريخي بالذاكرة، وحربائية القائمين على سياسات الذاكرة من خلال التنكر للهوية الأصل (بالرغم من عدم وجود الأصل حسب جاك ديريدا)، أي الأمازيغية الممتدة في التاريخ. وهو ما يعتبره كاتبنا ميتا-خطأ لغوي، الذي يجب تصحيحه لإنصاف الذاكرة، انصاف يتم باستجلاء الحقيقة التاريخية، وتكسير أصنام الفكر العروبي، الذين قاموا بإقصاء الاختلاف والتنوع وتهميش هويات تيارات الهامش، لذلك لم يسلم عبد الله العروي من انتقاد حاد لكاتبنا، لأنه انساق وراء تكريس التهميش الذي مارسته السلطة.

هكذا يشرح الكاتب مفارقات الواقع الفكري المغربي بمماحكة نقدية واقعية، ويكشف ألاعيب السلطة في تعاملها مع الماضي/الذاكرة، في ظل غياب حس نقدي منطقي لإحداث ثورات وزلازل، على غرار التي وقعت في أوربا، للقطع مع تنميط أحداث الماضي وتحنيطها لمصالح ضيقة دنيئة، إنه يؤمن بتقبل الحقيقة التاريخية مهما كانت مؤلمة ومأساوية، تصالح وإنصاف، وهو المدخل لبناء مجتمع ديموقراطي حداثي.

الذاكرة كما يراها الكاتب، من العوامل المحددة للهوية الثقافية والتاريخية، لهذا نشأ الصراع في بلقنة وتحريف الماضي، وليس تأريخه بموضوعية، ولهذا يعطي أمثلة الانتقال من الذاكرة التاريخية إلى الذاكرة الاحتفالية، التي تخلد الحدث رغم تفاهته لبسط الهيمنة والسيطرة، ولبسط توجهه، يرى أن الاحتفال بتقديم وثيقة الاستقلال في 11 من يناير جاء لتقويض أركان جيش التحرير ورموزه.

أمام هذا الوضع، أي شيطنة التاريخ، يخشى الكاتب عودة المكبوت، أي الجانب المضمر والخفي في الذاكرة، لأن عودته ستكون عودة جارفة في البحث الارتدادي عن الجذور والأصول، ولعل هذا ما يحدث في المغرب حاليا، وعودته يعني عودة صراع التأويلات، أي استحالة إمكانية إقامة حقيقة تاريخية، لأن الماضي سيكون بين إرادتي قوة، إرادة الزيف وإرادة إظهار الحقيقة.

وفي سياق الذاكرة والهوية، يسائل الكاتب مصطلح السوق اللغوية الذي نحته بيير بورديو، يوظفه لمساءلة السوق الثقافية في المغرب، حيث يؤاخذ على الدستور المغربي، الاهتمام والعناية باللغة العربية أكثر من الأمازيغية واللهجات والتعبيرات، فيحلل عباراته وينتقد توجهاته التي تكرس ماضي السلطة، الذاكرة المعتمدة من قبلها لبسط الهيمنة واستتباب الحكم.

والسوق اللغوية بمعنى من المعاني مرتبطة بالسوق التاريخية، السوق التي تحددها سياسات الذاكرة، وهو ما أدى إلى صراع أنطولوجي عميق بين ذاكرة رسمية، مركزية ومكتوبة، وذاكرة شعبية هامشية وشفهية، ولا سبيل للتصالح إلا بالحقيقة التاريخية حتى يتسنى للمغاربة تحقيق الانتقال الديموقراطي.

ولتحقيق هذا الانتقال الديموقراطي، يدعو الكاتب إلى تصحيح أعطاب الذاكرة، ليس من أجل الإقامة في الماضي، أي الرجوع إلى الماضي في حد ذاته، بل من أجل كسب رهان الحاضر، رهان مغرب ديموقراطي يضمن لكل فرد حقوقه وفق عدالة منصفة للجميع، والتطلع للبدائل المتاحة لتحقيق ذلك.

غير أن البدائل تبقى قاصرة حسب الكاتب، فها هو يتحدث عن مشروع عبد الله الحلوي التقنوي كما وصفه، الذي يركز على رهان التقنية لولوج مجتمع المعرفة، فيحلل ويناقش فيرد الحجة بالحجة والدليل بالدليل، وهنا يكشف الكاتب عن محور أطروحته، الإنسان باعتبار كائنا يعي نفسه في الزمان والمكان.

وفكرة الزمان تحضر، أيضا، في نقده لمقاربات الدولة المتعلقة بالإنصاف والمصالحة، المصالحة المعطوبة، حيث تملصت الدولة من تحمل مسؤوليتها بمحاسبة الجناة الذي ارتكبوا جرائم فردية وجماعية، وبمماحكة تحليلية لهذه التجربة المغربية، يظن الكاتب أن استبعاد العقاب هو شكل من أشكال التملص من المصالحة، وحتى إذا تحقق، أي العقاب، فإنه، غالبا، سيأتي على نظام الحكم كما وقع في بعض البلدان الأخرى.

يؤكد كاتبنا على الحق في الحقيقة، مهما كانت مفجعة، وهو أمر ضروري بالنسبة إليه لبناء مغرب ديموقراطي يراعي حقوق الإنسان، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا بالانخراط في عدالة انتقالية شاملة، تكون بمثابة ثورة وزلزال بالقطع مع المزيف من ذاكرتنا الجماعية، هكذا أضحى تأثير الماضي في الحاضر، تأثيرا قويا، وقد يكون عنيفا لدرجة لا تطاق، إنه هدم للمحرف، وبناء للحقيقة التاريخية التي تتحكم بحاضرنا، إنها بدائل علاجية بطعم المرض…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.