الرئيسية | فكر ونقد | مراكش/الرحيمة :افتقدناك بما يكفي | سعيد بوخليط

مراكش/الرحيمة :افتقدناك بما يكفي | سعيد بوخليط

بقلم: سعيد بوخليط

 

منذ عقدين من الزمان، دخلت مراكش دوامة تغيرات مضطربة وانقلابية، كي لاأقول نوعية؛مادام التصنيف الكيفي، يحيل كليا على ماهو إيجابي.  بيد أن القصد الذي سعت نحوه مراكش منذئذ، لم يكن صائبا؛ في اعتقادي الشخصي. ليس فقط بسب انحداري الأنثروبولوجي، باعتباري ابنا لهذه المدينة، وأعلم تفاصيلها الجوانية جيدا. لكن، تعليلا للسبب البسيط التالي :لا يمكن بالجزم، لأي تنمية، أن تكون حقيقية وذات جدوى، تجدي نفعا على جميع المستويات ؛دون تمحورها أساسا على بناء الإنسان، عقلا وجسدا، روحا وتفكيرا، أنطولوجيا وبيولوجيا، قيمة وقيما، تحققا وممكنا، حواسا وتجريدات، واقعا وحلما… .

كل مواصفات الإرث اللاشعوري، إن صح التعبير، المحيلة من الوهلة الأولى على دلالة مراكش، ومثلت سابقا، هوية مكتملة التمثلات، للمدينة المرابطية؛ تحولت على مر عشرين سنة الأخيرة، جراء معطيات محلية وعالمية، إلى نقيضها المفارق تماما :الاخضرار الرحب إلى الإسمنتي الخانق، المناخ/الترياق إلى آخر بلا أصل ولا فصل، البساطة والسكينة والطيبوبة إلى تعجرف وجنون ورعب، العطاء إلى استهلاك، والعمق تسيدته السطحية والبهرجة والتفاهة… . مدينة، صارت بلا حس ولا ذاكرة ولا قلب ولاعقل. مدينة، تستنزفها يوميات عبثية مجانية، بلا حاضر ولامستقبل مستند إلى رؤى بعيدة المدى؛ فقط الصدفة، وهي تسحق بلا رحمة كل ما طوته من جمال أصلي؛ بجشع البيزنس والتبزنيس، كل شيء يباع في أسواق النخاسة المعولمة حسب قوانين ديناصورات الليبرالية المتوحشة : ((إن صيغ الرفاهية الظاهرية الاستهلاكية، والمعمار الضخم، ليست مقياسا للتطور، وهي أمور قد لا يمكن تكرارها على نفس النمط))(عبد الرحمن منيف، العراق سيرة وذكريات، المركزالثقافي العربي، ص61) أثناء تحليله للنموذج الأمريكي في مدينة دبيّ.

من المعلوم، أن الزخم الحضاري والثراء الحياتي الحقيقي، للحاضرة عموما؛ يستمد منبعه جذريا من بذخ الحضور الإنساني؛ حسب تجلياته الفكرية والإبداعية والجمالية والأخلاقية، غير هذا، ستبقى حاضرة لا تختلف عن مسلك خراب . فتغدو مدينة موحشة، وميتة، بلا حب . حزينة، ثكلى، تموت كل آن تحت عبء ثقل عذابات الصمت : ((وأهلها تحت اللهيب والغبار صامتون))( المجاطي، ظاهرة الشعر الحديث، نشر المدارس، الطبعة الرابعة، ص74).

بالتالي، أي موقع لأهل مراكش ”المدينة الكونية” من نتاج العقل الكوني فعلا، وهو يبني نفسه؛ معرفيا لتكريس وتفعيل مرتكزات الحضارة البشرية :ما هو حق مراكش من إشعاع ثقافة المتاحف والمسارح و السينما ومعاهد الموسيقى والجامعات والمؤسسات العلمية المنتجة والمراكز البحثية والمكتبات والخزانات ودور النشر والمطابع والجرائد والمجلات والملتقيات والندوات والمناظرات وتقاليد الشعراء والكتّاب والكتاب والفلاسفة والعلماء والحكماء والملهمون حقا والمفكرون والراسخون في العلم والمؤسسون لفعل السياسة… بدل منظومة المساحات الآهلة بالمطاعم، والفوضى العارمة، والبطون، والفرجة التافهة، والمقاهي المتكاثرة كالفطريات، والمخابئ، والأوكار، والمنعرجات، والدهاليز المعتمة، حيث يقع ما يقع، والأرصفة الصفراء والحمراء، والفلكلرة، والبهرجة التجارية، المشيعة بكل عتادها الإيديولوجي لثقافة الهزائم وتبضيع البشر.

تستحق مراكش، مثلما عاشت دائما، أبية، نقية، طاهرة، بسيطة وعميقة، كحمولة شارلي شابلن، على الأقل كما عهدتها طيلة مراحل من حياتي؛ أن تظل فضاء يتباهى بجديده الوضاء تحت الشمس ونهارا سرمدا، ثم مدينة تستريح بشرودها ليلا، لا تخجل من نفسها ولا تندب تحت جلد أقنعتها حظها العاثر، ولا تبكي مآلها، ولا تتأفف من حاضرها، ولا تتلكأ عن مجابهة أسئلة غدها.

منذ عقدين من الزمان، لم أتحسس حقا ملامح لهذه المدينة، تشعرك بالغربة؛ فتستوطن نفسك . صحيح، أن قوميتي ليست عقائدية أو جامدة، بل دائمة الترحال؛ فأدمن أمكنة اللغة، والدواخل، والأفكار، والهواجس، وعوالمي الذاتية، وجغرافية النصوص، وبواطن المتون . مع كل ذلك، يجذبني ويستعيدني البراني، أبيت أم رفضت، فأستفيق من كوابيسي على مناجاة وجدان مراكش، عندما انتمت إلينا، وكانت لنا باسطة رحمة جناحيها :أتذكر الدروب، والأحياء، والطفولة، والمراهقة، والأصدقاء، والمدارس، والمدرسين، والدكاكين، والحومة، والأفران التقليدية، والجيران، والأعراص،  والأعراس،  والجنان،  والسواقي،  والصهاريج،  والمسابح، والخلوات،  وملاعب الكرة،  والنخيل،  والآبار،  والثمار،  والغلال،  والخزانات،  والأسواق الشعبية، وجامع الفنا، والرواد، والموسيقيين، والحكواتيين .  أتذكر، رائحة ليمون وطراوة رمان الخريف، وبنية بلوط الشتاء القارس، يغلي على مجمر في بيت الجدة، على وقع رنات خيوط المطر، وربيع الشاي المنعنع تحت سقف مقهى ماطيش على ترانيم الكلاسيكيات الخالدة، ثم جلسات الليالي المقمرة مع أولاد الدرب، وقد أنعشتنا رطوبة ليل حزيران اللذيذة… .

مراكش العالقة في ذهني والماسكة بتلابيب وجداني؛ستبقى كذلك ماحييت . تخصيب للحياة بامتياز، وتشكيل لسيكولوجيا الانشراح، والبساطة، والانتماء، والامتلاء الإنساني، والمعرفة، والإبداع، والنبل، والكرامة، ثم الحلول في الطبيعة، والطبيعة التي على طبعها . اليوم، بات كل شيء كافكاويا.

ذات مرة، قلت بأن مراكش أضحت شبيهة بمعاق منغولي، بحيث تتضخم جسديا كيفما اتفق، مقابل تقلص على مستوى حجم الحمولة الذهنية . من ثمة مراكش المفارقات السوريالية، التي لايستسيغها أي عقل عاقل :سماوات الثراء الفاحش هنا، ثم براكين الفقر المدقع على مقربة، فرجات كارتونية واستعراضات مريضة لمافيات أوساخ وقاذورات النيوليبرالية، غير المبقية على بشر أو شجر، لهثات وراء قذارة الاستهلاك الهستيري، مراكمة الهندسات المجتمعية لفنون البؤس وأصناف الرقيق .

مراكش/ حقا، عودي إلينا، لقد اشتقت إليك بكل جوارحي .               

http://saidboukhlet . com/ 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.