الرئيسية | فكر ونقد | لسانيات الجملة الفعلية في القصة القصيرة جدا عند بهيجة البقالي القاسمي | جميل حمداوي

لسانيات الجملة الفعلية في القصة القصيرة جدا عند بهيجة البقالي القاسمي | جميل حمداوي

جميل حمداوي

 

المقدمــــة:

من المعروف أن القصة القصيرة جدا بالمغرب لم تظهر كجنس مقنن إلا في منتصف التسعينيات من القرن العشرين مع أولى مجموعة قصصية  هي ( الخيل والليل)  للحسين زروق، و الصادرة سنة 1996م،  عن مطبعة النور الجديدة بالدار البيضاء. وبعد ذلك، تحقق التراكم الإبداعي والنقدي في مجال القصة القصيرة جدا، وبالضبط مع سنوات الألفية الثالثة. فأصبح لدينا –  حسب ببليوغرافيتنا النسبية  – أكثر من مائة وخمسين مجموعة قصصية قصيرة جدا، وأكثر من عشرة كتب نقدية، وأكثر من مائة مقال نقدي..

لكن ما يلاحظ جليا أن الإبداع في القصة القصيرة جدا كان ذكوريا بامتياز بأكثر من ثمانين كاتبا ، بينما لا نجد في هذا النوع من الكتابة سوى عدد قليل لايتعدي عشرين مبدعة ، ومنهن: فاطمة بوزيان، والسعدية باحدة، والزهرة الرميج، وزهرة الزيراوي، ومليكة الشجعي، ولبنى اليزيدي، وحبيبة زومي، ونوال الغنم، ووفاء الحمري، وسعاد أشوخي، ووئام المددي، ولطيفة معتصم، ومليكة بويطة، وعائشة موقيظ، وأمنة برواضي،…

وينطبق هذا الحكم أيضا على نقاد القصة القصيرة جدا، فأغلبهم ذكور، وهم:  جميل حمداوي، وعبد العاطي الزياني، وحسن لمودن، ومحمد رمصيص، وحميد لحمداني، وعبد الهادي الزوهري، وحميد ركاطة، ونور الدين الفيلالي، ومحمد يوب، ومحمد شويكة،…أما الناقدات في مجال القصة القصيرة جدا، فلا نعرف سوى سعاد مسكين وسلمى براهمة، وزهور كرام…

وهاهي بهيجة البقالي القاسمي[1] تنضم إلى صف المبدعات في مجال القصة القصيرة جدا بأضمومتيها: (منادل آدمية) و(سرير المتناقضات).إذاً، ما خصائص الجملة الفعلية في القصة القصيرة جدا عند المبدعة بنية ودلالة ووظيفة؟  

كلما كانت القصة القصيرة جدا مبنية على الجمل البسيطة ذات المحمول الواحد، وابتعدت عن الجمل الطويلة والمركبة ذات المحمولات المتعددة، كانت القصة أكثر تركيزا واقتضابا واختزالا وإبهارا للقارئ وإدهاشا له.

لو تأملنا قصص كثير من مبدعي القصة الومضة ، فنجدها قد بنيت  تركيبيا على الجمل البسيطة ذات المحمول الواحد، سواء أكان محمولا فعليا أم اسميا أم ظرفيا أم حاليا… وتقوم الفواصل وعلامات الترقيم الأخرى، كالاستفهام ، ونقط الحذف ، والنقطة، وعلامة التعجب أو التأثر، بدور هام في تقطيع الجمل وتكثيفها ، واختزالها إلى نوى محمولية. وتهيمن في هذه القصص القصيرة جدا محمولات الجمل الفعلية للتدليل على الحركية والتوتر الدرامي، وإثراء الإيقاع السردي، وخلق لغة الحذف والإضمار.

 أما المحمولات الاسمية، فتأتي للتأكيد والتقرير والوصف، وتبيان الحالة. ومن هنا، فالغرض من توظيف الجمل البسيطة بكثرة في القصة القصيرة جدا هو البحث عن إيقاعية متناغمة لجنس القصة القصيرة جدا ، وتسريع الأحداث بشكل ديناميكي حيوي، والميل إلى الاختزال والحذف والاختصار، وتشويق القارئ، والابتعاد عن التطويل والإطناب والإسهاب.

ويلاحظ  – نقديا- أن كثيرا من كتاب القصة القصيرة جدا يكثرون من الجمل الفعلية، أو الجمل الاسمية التي خبرها جملة فعلية، أو يكثرون من الجمل الرابطية ذات الطاقة الفعلية. ويعني هذا أن الجمل الفعلية تسهم في تفعيل الحبكة، وتأزيمها توترا وتعقيدا ودرامية. كما أن الجمل الفعلية دالة على الحركة والحيوية والفعلية الحدثية  من خلال تتابع الأفعال، وتراكبها استرسالا أو تضمينا.

من أهم الظواهر البارزة التي تلفت الانتباه في القصة القصيرة جدا ظاهرة تراكب الجمل، وتتابعها في سياق النص من أجل تأزيم العقدة ، وخلق التوتر الدرامي عبر تسريع وتيرة الجمل ، وركوب بعضها البعض، ولاسيما في القصص التي تسرد بواسطة الجمل الفعلية المسردة .

ونلاحظ كذلك مجموعة من الجمل الإسنادية التي تخضع للتتابع والتراكب السريع،  بشكل يؤدي حتما إلى تسريع النسق القصصي ، وإسقاطه في شرنقة التأزم والتوتر الدرامي الحركي… فمسافة هذه الأفعال المتراكبة قريبة ومتجاورة ؛ مما يساعدها على خلق لوحة مشهدية درامية أو لقطة فيلمية نابضة بالحركة والسرعة الإيقاعية.

وعليه، توظف بهيجة البقالي القاسمي ، في قصصها القصيرة جدا ، جملا فعلية متعاقبة تدل على الحركة والتوتر والاضطراب، سواء أكانت تلك الجمل الفعلية بسيطة أم مركبة، سواء أكانت مبدوءة بالفعل الماضي، أم مبدوءة بالفعل المضارع، أم مبدوءة بفعل الأمر، كما يتجلى ذلك واضحا في قصيصة (طبيعتها):” قبلت الزواج منه شريطة أن يحترم طبيعتها.

لم يكن يدرك أن طبيعتها اللامبالاة..”[2]

ويتضح لنا من خلال هذه القصيصة أنها – من جهة-  تتأرجح بين جمل فعلية ماضية ومضارعة. ومن جهة أخرى، تتأرجح بين جمل بسيطة (قبلت الزواج…)، وجمل مركبة (لم يكن يدرك أن طبيعتها اللامبالاة.)

وتوظف أيضا الجملة الرابطية. ويقصد بالجملة الرابطية تلك الجملة القائمة على النواسخ الفعلية، أو النواسخ الحرفية ، أو ما يسمى أيضا بأخوات كان، وأخوات إن. ومن المعلوم أن النواسخ تدخل على الجملة الاسمية، فتغير مبتدأها وخبرها بالإعراب الظاهر أو المقدر، سواء أكان ذلك في حالة الرفع أو النصب. وقد تكون الجملة الرابطية جملة بسيطة ذات محمول واحد ، أو جملة مركبة من محمولين فأكثر حسب السياق النصي والتداولي. كما يبدو ذلك في قصيصة (رائحة الإرث) التي وردت في صيغة جملة رابطية مركبة برابط العطف (لاتعد ولا تحصى):

“كانت ثروته لا تعد و لا تحصى. عند مرضه لم يجد حتى ثمن الدواء. بخزائن زوجته فاحت رائحة قبل الأوان .”[3]

ومن هنا، تتضمن الجملة الرابطية نسقا فعليا يتمثل في ورود مجموعة من الأفعال (تعد- تحصى- يجد- فاحت)، وهي أفعال ماضية ومضارعة تتأرجح بين زمنية الماضي وزمنية الحاضر، بواسطة رابط (كانت) التي تحيل على موضوع الثروة التي انتقلت من حالة الاتصال إلى حالة الانفصال في علاثتها بالذات المالكة. ويعني هذا كله أن القصة القصيرة جدا قصة فعلية بامتياز، سواء أكانت فعلية بصيغتها الحرفية المباشرة أم بصيغتها الرابطية.

ويعد التوازي أو التعادل التركيبي، على مستوى الجملة الفعلية، مظهرا من مظاهر تسريع الحبكة السردية، أو علامة دالة على تسريع النسق الزمني من البداية نحو النهاية ، أو من الاستهلال نحو الانتهاء، كما يبدو ذلك جليا في قصيصة (حرية حارقة):

” أتعبتها الحرارة. نزلت إلى الشاطئ. أتعبتها الأعين . أغلقت عينيها . أحرقتها الكلمات .[4]

يلاحظ أن هذه القصيصة تتكون من جمل فعلية بسيطة مسورة بالنقط التامة المستوفية للمعنى. بيد أنها خاضعة للتسريع الزمني بواسطة التوازي التركيبي ، والبناء الحجاجي القائم على تلازم السبب والنتيجة.

وهكذا، يبدو لنا أن بهيجة البقالي القاسمي قد  وضعت أرجلها الثابتة في ساحة القصة القصيرة جدا باقتدار وجدارة واستحقاق. وقد انتقلت من ميدان الشعر إلى ميدان السرديات بصفة عامة، والقصة القصيرة جدا بصفة خاصة، لترسخ بصماتها الفنية والجمالية بكل ما أوتيت من قوة إبداعية متميزة.

 

[1] – الكاتبة من مواليد 6 ديسمبر 1958 بمدينة تطوان المغربية ، ومديرة مؤسِّسة لمدرسة سقراط للتعليم الخصوصي بطنجة.

[2] – بهيجة البقالي القاسمي: : سرير المتناقضات، أضمومة قصصية قصيرة جدا،نسخة مخطوطة.

[3] – بهيجة البقالي القاسمي : مناديل آدمية، أضمومة قصصية قصيرة جدا،نسخة مخطوطة.

[4] – بهيجة البقالي القاسمي: : مناديل آدمية، أضمومة قصصية قصيرة جدا،نسخة مخطوطة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.