الرئيسية | إصدارات الدار | لذة اللغة السريالية والصوفية في ديوان “ولاعة ديوجين” للشاعر عزالدين بوركة

لذة اللغة السريالية والصوفية في ديوان “ولاعة ديوجين” للشاعر عزالدين بوركة

عبد الواحد كفيح

كفيحعن مؤسسة الموجة الثقافية صدر ديوان “ولاعة ديوجين”، وهو الديوان الثاني للشاعر والناقد التشكيلي عزالدين بوركة الذي اكتظ بجميل القول والقريض، نصوص شعرية أهداها للبعض منهم شعراء بعينهم. منجز شعري جاء حافلا بالكثير من الإبداع. بوركة المهتم بالجماليات، من الشعراء المغاربة المتمردين المتميزين فنيا بأسلوبه المتميز ولغته الاستثنائية وقاموسه المتفرد الذي أعطى للديوان نفسا وروحا متجددة ساعدته على الغوص عميقا، لكن بشفافية مرهفة في الأبعاد الفلسفية والإنسانية بصفة عامة، بعمق معنوي متوهج وشفيف على الرغم من قصر القصائد ففيها تكثيف للمعنى وإيجاز لا يتقنه إلا شاعر مرهف. إنه ديوان مكتظ بالمعنى والجمال على غير ما عهدناه في تشكيل المعاني والرموز وترصيف وتصفيف المشاهد والمقاطع الشعرية الخالية من الصور الشعرية الحية النابضة بالحياة.

نسمعه يقول:

ثم إن الشاعر نبي

أضاع قرآنه

ولم يعد يملك سوى هذه الكلمات الشبيهة بملائكة

بلا أجنحة.

***

الشعر درب من النبوءة

والنبوءة لعنة القدامى. (ص 70)

 

ولاعة ديوجين

لغة الديوان ساحرة مركبة تركيبا مزجيا توحي وترمز وتشير للمعاني والدلالات أحيانا بخبث والعقل والمنطق أحايين كثيرة. لعب الشاعر على المنطق الرياضي والفلسفة اليونانية وقليل من الصوفية لكن الفلسفة اليونانية هي الخيط الناظم الأكبر، واللعب على تناقضات كثيرة “بهلوان/شاعر” وغيرهما.

لغة راقية بل باذخة التي كُتبت بها القصائد، بعضها ناري وبعضها هوائي وبعضها معمد بماء الشعر المعتق. لا أدري أي عراف ذاك الذي دله على كنز اللغة الساحرة / أي حكيم ذاك الذي علمه قول الشعر المخاتل المنفلت من عقال التأدب والأدب الخامل الرتيب.

في ديوان “ولاعة ديوجين” لكل  قصيدة قالبها الضيق المكتنز الضاج بالمعنى الذي ينتصر للشعر والقصيدة  الشاعرية / يجاهر بالنقد والنقاد والقراء  وحال الشعراء، إذ نقرأ له يقول:

– وما الكتابة إلا محو لما بين الآن وما سبق

أو إفراغ الجمجمة من الأسلاف

***

ولا أعلم لماذا تصلح كل

هذه الكلمات الخلاسية

إلا أني أعلم

أن الشعراء

حطب

جهنم

سكانها القراء… (ص 14)

– وأن تكتب يعني أن تدق مهمازا في جمجمة اللغة

وأن تقرأ يعني أن تقتل بلا رحمة ولا شفقة كلمة يتيمة (ص 15)

تشد القارئ /المتلقي هنا، بلاغة القصد والمعاني  في تكثيف واقتصاد في اللفظ وتعميق الدلالة، ويقول الشاعر الولاعة  “وما محو كلمة سوى احياء لأخرى/ فتيقظ أن تشعل عود ثقاب يحرق كل تلك الكائنات”، نلفيه يتعمد الحرق والمحو والقتل من أجل أحياء أفضل، فيتحدث عن الولاعة والثقاب والممحاة عبر تركيب سريالي مكتنز المعاني اللامقروءة والصور اللامرئية.

يأتي الديوان مليئا بإشارات حيوانية، لها دلالات ورموز مكثفة: (الصرصور (كافكا) والخنفساء (الحكمة) والدودة والفراشة (الشعر) والثعبان (الذات)…) بالاضافة إلى أسماء أعلام وفلاسفة: (سقراط، الحلاج، شبنهاور، نيتشه، وأفلاطون، وديوجين…). ديوجين الذي يحمل الديوان اسمه، إنه معارض حكمة الفلاسفة وضاربها عرض الحائط، رافضا حكمة لا يراها ولا يحسها ولا يعيشها بل عبارة عن حذاء مثقوب في تشبيه ساخر ، إنه الفيلسوف الذي اختار أن يعيش داخل برميل، إنه اختيار سريالي يتجسد داخل الديوان عبر لغته السريالية والصوفية المتقشفة.

يقول الشاعر:

– نهد حبيبتي ساحة لنصوص أسخيليوس

وحدي –ولأني أعمى- أعرف أن برومثيوس العجوز

هو صاحب أساطير العالم السفلي

لهذا –منذ الأزل- أحمل العالم على كتفي.

مقاطع شعرية متفاوتة الطول والقصر فيها رغبة جامحة لقول كل شيء في نفس اقصر واعتقال جموح المعاني في عمقها الفني واللجمالي.

عزالدين بوركة شاعر/نهر هادر مدمر، لا ببحث عن مصب ولا نهاية، ولكن عن أحلام كبرى تعارك أساطير، وتعاند الواقع والحقيقة مكتنزة بالمعاني العميقة متحررة من التكلس. الديوان يُجبر القارئ على الابحار في أعماق  المعاني وأغوار مساحاتها المعتمة أكثر مما يسطع من معان في متناول الادراك، ولا الوقوف على ضفافها وشواطئها. وإذا ما ابحرنا فيها بعمق بحثا عن المدهش واللامألوف تبدو باقة قصائد خالية من الزمان والمكان ولكن تحضر اللغة بقوة تجرنا لنتأمل عن قرب ذواتنا ومراجعة أفكارنا بطريقة مستفزة مارة على حد شفرة الواقع الحادة والوقوف على قيمتها في جماجم فارغة تصفّر فيها الريح كما يقول:

– وما الكتابة إلا محو لما بين الآن وما سبق

أو إفراغ الجمجمة من الأسلاف.

عزالدين بوركة شاعر عاشق مساحة قلبه براري شاسعة يطلع منها شعر يتناثر دررا تارة حلو القول وتارة مربك، يتوسل لغة ثرّة تجعل المعاني تتداعى في نسيج فني رهيف.ترتكز قصائد ولاعة ديوجين على الفلسفة والمنطق والأسطورة والسخرية والأهم  في هذا كله هو الخلق والإبتكار الشاعري لقصائد جاءت باذخة من عوالم المنطق والفلسفة والرياضيات والأقانيم النوعية، وهذا لعمري صناعة شعرية صادقة غير متكلفة.

عزالدين بوركة شاعر وناقد قادم بقوة، يمتطي صهوة الشعر بخيلاء، ديوانه هذا عميق بالمعنى الجميل الاخاذ المدهش بلغته البلورية الانيقة الخالية من دسم وكوليسترول القول.

 

كاتب وروائي مغربي

(عن الجريدة الورقية “أخبار اليوم” المغربية بتاريخ 1 مارس 2017)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.