الرئيسية | فكر ونقد | “قصيدة النثر الغربية”: المفهوم وقوانين الكتابة | الأستاذ الباحث: رشيد طلبي

“قصيدة النثر الغربية”: المفهوم وقوانين الكتابة | الأستاذ الباحث: رشيد طلبي

الأستاذ الباحث: رشيد طلبي

1- مفهوم ” قصيدة النثر الغربية”:

إذا ما تقصينا مفهوم “قصيدة النثر” في الثقافة الغربية، نجد أنها تتناسب مع مجمل المفاهيم التي ارتبطت”بالنص” الأدبي، الذي أصبح ينتصر لقوانين الفن والإبداع والجمال. فالنص عموما “لابد أن تتوفر فيه ثلاثة عناصر، وهي التعبير، وتعيين الحدود، والخصيصة الثقافية”[i]. وفي هذا السياق، قال : “أ. آتيسن” عام 1897″ قصيدة النثر ليست أكثر مما لا يكونه النظم، ليست بالحكاية ولا الأقصوصة، سواء كانت هذه الحكاية لفلوبير، أو هذه الأقصوصة لجوتييه، إذ لو بدا غريبا التمييز بين عملين على أساس خاص للغاية. وتكمن في أن تُسَيِّجَ في صفحة قصيرة انطباعا مستقلا وأحيانا دراما كاملة”[ii]. فهي ليست في منطقة المفاضلة بين النثر والنظم. بل نوع منفتح على الأجناس الأدبية الأخرى، لكنها تشكل نصا عضويا ومتكاملا من ناحية المعنى، وتتميز بالإيجاز والقصر من ناحية الشكل، خارج أحادية الدلالة والتأويل. وهذا ما ذهب إليه الشاعر الفرنسي”إدمون جالو” حين كتب عام 1942م، أنها “قطعة نثر موجزة على نحو كاف، منتظمة ومرصوصة مثل قطعة الكريستال يتلاعب فيها مئة انعكاس مختلف(…) إبداع حر لا ضرورة أخرى له سوى متعة المؤلف،خارج أي تصميم ملفق مسبقا، في بناء شيء متقلص، إيحاءاته بلا نهاية،على غرار الهايكو الياباني “[iii].

ومن ثمة، فهي تبحث عن جوهر الشعر، وروحه الجمالية والفنية، بعيدا عن معيار الشكل. لكن لا يعني هذا أننا أمام فوضى، بقدر ما نحن أمام “نظام غريب”  يسعى لتحقيق علاقة عضوية بين الشكل والفكرة الشعرية، وإن كان “الشعر لا يصنع كي يفهم، وإنما ليخلق، وعلينا أن نأمُل – مثلما يقول “بريتون” – أن تكون “الإبداعات الشعرية مُطَالَبَة بـ”تحريك تخوم الواقع المزعوم”[iv]. ولا يتحقق هذا الجوهر الشعري، إلا من خلال بحث الشاعر المستمر، حتى في نفسه، عن هذا الجوهر، الذي منه يخلق شكل القصيدة الضروري لها، ويسمح بظهور الفكرة الشعرية التي تعد الضامن الحقيقي له.

وانطلاقا من التوتر المصطلحي الذي يجمع بين “القصيدة”؛ التي تحيل على الشعر، و”النثر” الذي هو نقيضه، فهي “مؤسسة على وحدة الأضداد :- نثر وشعر، حرية وصرامة، فوضوية هدامة وفن منتظم – ومن هنا يكمن تناقضها الداخلي، ومفارقتها العميقة والخطرة والخصبة، ومن هنا، يكمن توترها الدائم وحيويتها”[v]. لكن هذا لايعني أنها نوع هجين، يتطفل على كل من الشعر والنثر، بل هي “نوع من الشعر الخاص الذي يستخدم النثر الموقع لغايات شعرية بحصر المعنى ويفرض عليه – لهذا السبب- بنية وتنظيما للمجموع(…)”[vi]. وبذلك، تنطوي على مبدأين أساسيين، فالمبدأ الأول؛ يتجلى في الهدم والفوضى الإرادية، انطلاقا من كونها قد نشأت من التمرد على قوانين العروض والوزن، بله التمرد على قوانين اللغة العادية، لتتأسس بالمقابل على مبدأ ثان؛ هو البناء، “في تشكيل إرادة منظمة”[vii]. فهي تتميز بهذا التأرجح الميتافيزيقي بين التمرد والنظام. لذلك تسمها”سوزان برنار” بـ”التنظيم الفني والفوضوية الهدامة”[viii]. لكنها تقوم على قوانين ذات صبغة إبداعية وجمالية، ترتبط بجوهر الكتابة الشعرية.

2- قوانين الكتابة في “قصيدة النثر الغربية”:

ويمكن أن نميز على مستوى هذه القوانين، بين العامة منها والخاصة، وتتميز القوانين العامة؛ بالمرونة والحيوية، بالقدر الذي يحقق الشعرية، فعند القراءة؛ “نكتشف فيها قوانين تنظيم داخلي، يجعل منها كلا مكتملا وبلورة شعرية– أي قصيدة”[ix]. وبذلك تمنحنا على مستوى التلقي، إحساسا بالوحدة الموضوعية المكتملة والمتكاملة، في عالم مغلق. وفي سبيل تحقيق هذا التشكيل الداخلي الموحد، نجدها ترتكز على “مركز ثقل”، وهو ما أسماه “مايكل ريفاتير” بالرحم “La matrice ” أو العنصر ” Motif”. وكما أسماه “كلوديل” بـ”نموذج ديناميكي” لفكرة أولية،تمنح حركتها لكل الفقرة الشعرية أو لجزء كامل من القصيدة”[x]. فلا قيمة لها دون التركيز والانسجام الداخلي الذي تنشده، بعيدا عن كل ما هو خارجي على مستوى المقاطع اللفظية.

أما على مستوى الإيقاع؛ الذي يعد من أهم إشكالات “قصيدة النثر”، فهو خارج القوانين الصارمة، إنه إيقاع شخصي، قائم على التلقائية والاختيار، لأنه منبعث من “حركة الكلام الحي”[xi]؛ بغية تطور فكرة الجمال، وتحقيق اللذة والمتعة وفق الذائقة الجمالية لدى المتلقي. لذلك اعتبره “ديدرو” “توزيعا معينا للمقاطع اللفظية الطويلة والقصيرة،الجامدة والرخيمة، المكتومة والعالية(…) المماثلة للآفكار التي نتوفر عليها، والتي تشغلنا بشدة، والأحاسيس التي نشعر بها والتي نريد إثارتها، والظواهر التي نبحث فهم أعراضها (…) “[xii]. وبذلك انفتح على الموسيقى، خاصة الموسيقى الفاجنرية – نسبة إلى فاجنر- التي مهدت الطريق لأشكال شعرية جديدة، ذات ارتباط وثيق بقصيدة النثر، مثل “مالارميه” مع قصيدة “رمية نرد” الشهيرة [xiii].

علاوة على أن “قصيدة النثر”؛ قد انفتحت على موضوعات “يصعب قبولها بسهولة في النظم الكلاسيكي مثل السخرية، والغرابة، ونبرة بوح معينة(…)” وبالخصوص تيمة “السخرية”؛ التي ستتزايد أهميتها مع شعر القرن العشرين. وبذلك فلا أهمية  للموضوعات أو الوقائع المختارة، أن تكون قديمة، أو حديثة، سامية أو دونية، وجودية أو يومية، بقدر ما تولي الأهمية للعلاقات المعمارية، والبنيات التركيبية التي تشتغل فيها الألفاظ والمفاهيم والصور والأحاسيس المستدعاة (…)،فضلا عن إيقاع الأصوات، والمفردات، والجمل، والرموز الإيحائية، والدلالات التأويلية المتعددة والكامنة في النص، التي “تمثل جوهر القصيدة، وتجعلنا نستشف عبرها واقعا آخر أكثر إبهارا من ذاته”[xiv]. اعتمادا على ما أسماه “مورون” ب “الاستعارات الملحة”[xv]. البانية لموضوع القصيدة بشكل عضوي.

 أما على مستوى القوانين الخاصة، فهي التي جاءت بها “سوزان برنار” في دراستها المعروفة، حيث تحدد لنا “قصيدة النثر” في ذاتها، وفي علاقتها أيضا بالمتلقي، بقولها: “(…) إنما هي عالم مغلق، موصد على نفسه، مكثف بذاته، وضرب (…) من الكتلة المشعة، المشحونة – في حجم ضئيل – بإيحاءات لا تنتهي، والقادرة على هز وجودنا حتى العمق”[xvi]. وتتمثل في؛ “التوهج”، و”المجانية”، و” الإيجاز”، وكل شرط من هذه الشروط يرتبط أساسا بتحقيق شعرية النثر. فشرط “التوهج”، ضامن ل”كلية التأثير”[xvii]، أو معيار”الوحدة العضوية “[xviii]،فرغم ما تتميز به “قصيدة النثر” من حرية ظاهرة، فإنها تشكل عالما معلقا ومنغلقا على نفسه، وفق الدلالات التي تنطوي عليها بعلاقات بنيوية داخلية، وإلا فقدت صفتها باعتبارها “قصيدة”. أما على مستوى “المجانية”؛ فتعني أن الشاعر لا قصدية له، حيث لا تنحو القصيدة منحى تحقيق هدف معين “ولا تطرح سلسلة من الأفعال المتتالية، لكنها تُفْرَض على القارئ كـ “شيء” ككتلة لازمنية”[xix]، ومن هنا فالمجانية تقابلها فكرة “اللازمنية”. لأنها “ليست بقصة قصيرة ولا برواية ولا بدراسة”[xx]. أما “الإيجاز” أو”الكثافة”؛ فأساسه انعدام الشروحات والتفسيرات أو الاستطرادات، “لأن قوتها الشعرية لا تتأتى من رُقىً موزونة، بل من مركب إشراقي”[xxi]، وهذا ما ذهب إليه “إدكار ألان بو” حين قال: “لا وجود لقصيدة طويلة، فالحديث عن قصيدة طويلة لَهُو تناقض مطلق في المصطلحات”[xxii].

هوامش:

[i]  – Louri Lotman; La structure du texte autistique bibliothèque des sciences humaines. NRF Gallimand pari. 1973. P 89 .نقلا عن سعيد الفراع؛ الشعر المغربي المعاصر وأسئلة التلقي. مطبعة أنفو- برانت. فاس. ط1. 2011. ص114.

[ii] – سوزان برنار؛ قصيدة النثر من بودلير إلى الوقت الراهن. ترجمة: راوية صادق. مراجعة وتقديم: رفعت سلام. ج2. دار شرقيات للنشر والتوزيع. 2006. ص154.

[iii] – عبدالقادر الجنابي؛ قصيدة النثر وما تتميز به عن الشعر الشعر الحر. ثقافة إيلاف. دار الغاوون. لبنان. سلسلة كتاب “قصيدة النثر”. رقم 1. 2000. ص36-37.

[iv] – سوزان برنار؛ ج2. سابق. ص322 .

[v] – نفسه.ص149.

[vi] – نفسه. ص148.

[vii] – سوزان برنار؛ ج1. سابق. ص202 .

[viii] – سوزان برنار؛ ج2. سابق. ص158.

[ix]– نفسه. ص147.

[x]– نفسه. ص 457.

[xi]– سوزان برنار؛ ج1. ص57 .

[xii]– سوزان برنار. ج1. سابق. ص83.

[xiii]– سوزان برنار؛ ج2 سابق. ص79.

[xiv]– نفسه. ص155.

[xv]– سوزان برنار؛ ج1. سابق. ص241.

[xvi]– سوزان برنار؛ج2. سابق. ص154.

[xvii]– نفسه.

[xviii]– سوزان برنار؛ج1. سابق. ص36.

[xix]– سوزان برنار. ج1. سابق. ص37.

[xx]– نفسه.

[xxi]– نفسه.

[xxii]– نفسه.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.