الرئيسية | فكر ونقد | قراءة لرواية الكاتب محمد الأشعري (ثلاث ليال) | حسن إمامي

قراءة لرواية الكاتب محمد الأشعري (ثلاث ليال) | حسن إمامي

حسن إمامي

خيوط عنكبوت نائم على ضحاياه

قد تكون الكتابة طبقة سديمية ينصهر فيها الزمن والتاريخ والإنسان مثلما ينصهر فيها الكاتب لينسلخ من ذاته و يجعلها متشظية لكي تقوده إلى تركيب جديد. ربما يريد منه ملء خواء، بعث حياة في روح تكاد تصبح فارغة مثلما يشتعل عطش الكأس الفارغة لكي تملأ بنبيذ جديد أو خمرة معتقة مشتهاة أو قبلة فردوس مثالي مأمول. تلك الوضعية، والتي سيكون الكاتب هو المشكِّل لها والمهندس، سيعكف على إعادة تركيب أجزاء الحكاية فيها من هذه الشظايا إذا. ستختلط الأجزاء بين المرايا والخزفيات المكسورة عبر تاريخ مجتمع وتاريخ ذات، عبر ثلاثة نصوص، ثلاث ليالٍ، ثلاث دوائر للتأمل وإعادة الصياغة من جديد. لماذا؟ لماذا إعادة الصياغة؟ سنؤجل الجواب وربما نفر منه الآن. المهم أن الكاتب يحاول في حدود الممكن ظرفيا، والظرفية غير مأمونة دائما، أن يوسع دائرة الضوء لكي تزيح العتمة على صفحات التاريخ حتى لا يصبح تاريخا منسيا. أن تكون الكتابة هي ذلك البدر الذي يكتمل في متنه النصي لكي نتأمله فنقرأ به الطريق وأحواشها و سراديبها وحُفَرها، ومتبقيات أدلة جنائية لجريمة قتل أو اغتصاب أو نهب أو ركوب حصان طروادة أو لبس شخصية دونكيشوتية ـ ولكل زمن دون كيشوتاته المميزون ـ فذلك ما نلاحظه في هذا المتن الروائي …

و لا ننس ذات الكاتب الحاضرة و الناقشة بتوقيعها بين السطور ببصمتها ورأيها وسخريتها ومبرراتها وغبطتها أو حسرتها وندمها، لا ننس ذات السارد التي تتقمص شخصيات لياليه الثلاثة، وكأنها حكايات عجائبية من ألف ليلة و ليلة، أنتجها الحلم المجهض للألفية الثالثة بتأريخ الحضارة الغالبة اليوم، وإلا فإن الحقيقة أن زمن الكاتب ومجتمعه يجتر الليالي الغابرة في القرون لوسطى وما قبلها، ما ادلهمّ في الوعي قبل السلوك عند البشر كتخلف وكما يراه الكاتب، يعيش خيوط عنكبوتها فيغلفها برقصة نفس الناموس، وهذه المرة ليس حول قنديل أو رقصة نار، ربما حول مصباح عصري أو طاولة قرع للكؤوس تجعل الخمر يذوّب خيط الزمن لتجرعه الأفئدة مفتقدة داخله لماضيها ومستقبلها، غارقة في حاضر ومغيّبة فيه السعادة داخل الآلام، الآمال داخل الخيبات، سنن البقاء والاستمرار، سنن سخرية يرسمها خط الرواية التاريخي، يسميها في بعض بوح شخوصه بأنها سخرية سوداء (ص246). ولنا أن نطرح السؤال: كيف تكون رواية ثلاث ليالٍ تجربة سخرية سوداء؟

بالعودة والمقارنة والاستحضار لما قرأته للكاتب، رواية القوس والفراشة، علبة الأسماء، قصائد شعرية، حوارات ومداخلات في مجلات وجرائد وندوات وتوقيعات، تطرح تجربة الكاتب كروائي بامتياز، في كونه يؤرخ و يفسر و يفجر أسئلة التاريخ الراهن لمجتمعه ودولته وتاريخيتهما. وربما ستكون لهذه الشهادة قيمتها بعد عقود لكي نستبين حينها قيمة المكتوب في تخليد الزمن إبداعيا وفي مساعدة الأجيال المقبلة على قراءة تاريخ أمتها وأجيالها السابقة، ذلك أن راهن الأدب مجتمعيا يجتر ثقافة استهلاكية لمتعة الحكي الحكواتي أكثر من متعة العقل المفكر والمتأمل.

وتبقى لذة الكتابة حاضرة كوجبة لامنتهية بين السطور، يتذوّقها القارئ فيتحقق ما اتفق عليه بلذة النص. سنتحدث عن حضور السيرة المتخيلة والذاتية للكاتب كما سنتحدث عن الشاعر الذي يغمر الروائي بأسلوبه وصوره الشعرية وتشبيهاته ومجازاته الرائعة، لنتحدث عن سحر الكتابة إلى جانب الحديث عن لذة النص في ثلاث ليالٍ، وحيث يحضر الانفصال كما الاتصال.

شكليا، هناك انفصال، يثير فضول المتكاسل عن القراءة ولذتها لأنه لا تستهويه بقدر ما تستهويه الكلمات المتقاطعة أو المسهّمة، ويتجلى هذا الانفصال في تناول حقب زمنية من تاريخ المغرب، إذا سألت كل قارئ للرواية عنها، فمنهم من سيؤكد على شخصية دون أخرى، مما يطرح السؤال المستمر: أي تاريخ نكتب؟ تاريخ الفرد أم تاريخ الجماعة؟ تاريخ البلاط أم تاريخ الشعوب؟ أي بطل نتحدث عنه؟ ذاك المستبد الجلاد القتال الشبقي الباتولوجي الشخصية ـ كما هي صورة القايد الكلاوي ، أم تلك المرأة التي اقتلعت وردة مزهرة صغيرة، شتلة، لتنتقل في رحلة عذاب ساحر داخل باقات بلاستيكية ترشها بسمومها الكيماوية القاتلة؟

لفهم هذا التشظي و هذا التجزيء المتقطّع ظاهريا بين أجزاء الرواية، نشير إلى أن المركب منطقيا يحتاج إلى ذكاء فهم و ربط، إلى معرفة وجود رابط منطقي بين الأشياء. وهذا الرابط المنطقي قد يجعل عدم المسك به من طرف البعض عاجزا و مشلولا في مواكبة أحداث الواقع الذي يعيشه، ما بالنا بالمفترض في الكتابة الروائية. وهنا نسأل الكاتب عن أي استفزاز يريده للمتلقي؟ يبقى لكل متلقٍّ اختيار جوابه المناسب.

ثلاث ليالٍ:

الليلة الأولى: 1 ـ مومياء دار الباشا. 2 ـ آخر اللقالق.

الليلة الثانية: 1ـ توافق الأزمنة. 2 ـ الطريق إلى الجنة.

الليلة الثالثة: 1 ـ الكرة الحديدية. 2 ـ الحب على مشارف القيامة.

قد يظن قارئ عنوان الرواية بأنها مدة زمنية محصورة في ثلاث ليال وقعت فيها الأحداث، في حين أن هذه الأحداث تمتد من بداية القرن العشرين و سطوة القايد الكلاوي أواسط هذا القرن مع الاستعمار الفرنسي، و تجعل سيرورة الأحداث مع شخصيات نسوية تجنب الكاتب ذلك التوغل في المرحلة الراهنة المباشر في تحليل شخصياتها السياسية الكبرى. لكنه حكي يستفز ضمير الأمة في كونها كرّست العبودية و ظاهرة الحريم المستعبد مثله في ذلك مثل الأمم القروسطية. فقط أنها استمرت حتى نهاية القرن العشرين. ويا لمفارقة زمن الحداثة مع زمن تجذر الظاهرة وصمودها في الاستمرار. وكأن الكاتب لا يريد أن يبرئ جيله مما يقع و كيف يستمر في الوقوع، فيقوم بجلد شخصياته على مائدة السكر والجنس والاضطراب في الصمود المبدئي السياسي و النضالي. جلد حزبه الذي يراه يتهاوى أمامه بعد أن كان هرَمَاً شامخا يَعِد بتغيير التاريخ نحو الأفضل. لكنه يراهن على الوفاء و الاستثناء بتكريم شخصية مناضل يراه قدوة ونموذجا بطلا كبيرا في الحياة السياسية كما النقابية. ولنا أن نسأل المتن الروائي لكي ينطق بما لم يقله الكاتب: هل ثمة بحث عن مصالحة بين مكونات سابقة للحزب؟ سؤال لمن يهمهم الأمر.

ولقارئ الرواية أن يقف أمام رواق الغلاف. وسنسميه رواقا رغم كونه لوحة واحدة، لكنها مشكَّلَة من ثلاثة أجزاء توازي ثلاث ليالٍ. ولمن أراد أن يقرأ الرواية عليه كذلك أن يقرأ اللوحة، ذلك لكونها تترجم بسيميائية كبيرة محتوياتها ورسائلها. بل ربما تتضمن إضافات لم يبح بها متن الرواية وحكيها رغم تعدد الرواة و الألسنة الناطقة و الضمائر المستعملة في الخطاب.

لوحة مقسّمة بخطّين متمايلين، يفصلان بين خيوط عنكبوتية متشابكة ومتداخلة تشكل الزمن الفعلي والتصريفي الذي أتقنته إحدى شخصياتها، و لعلها (ارحيمو)، يرمزان لحضور كل زمن في الآخر وتشعبه فيه رغم محاولة المسح بالبياض على إحدى مراحله، إلا أن( النطعة) ـ بقعة دائرية حمراء دالخ اللوحة ـ الحمراء كما نعبّر عنها بدارجتنا المغربية و ليس كما هي دلالتها في المعاجم اللغوية، تبقى وصمة عارٍ على ثقافة مجتمع ننتظر منه أن يتطور، ونخونه بالتفرج عليه كمثقفين ومتعلمين.

وفي إشارة إلى المراجع المعتمدة في كتابة الرواية، نجد البعد التاريخي حاضرا ـ كتاب غافان ماكسويل (الكلاوي آخر أسياد الأطلس الكبير)، كما نجد تجربة الكاتب السياسية و النقابية و الحزبية والأدبية والثقافية، إضافة إلى رصيد الحياة في العاصمة والعلاقات وتراكم كل هذا وذاك في تشكيل وعي عند الكاتب يجعله فنانا يتقن التشكيل بالحروف وبشكل ممتاز. وهذا حاضر في (علبة الأسماء) بشكل أقوى، لكنه هنا حاضر بشكل يبدو واعيا و راغبا في ضبط فسيفاء بناء الرواية المركبة. نستحضر هنا ألمعية الروائي والكاتب ميلان كونديرا كنموذج، ونقول إن تجربة الكاتب محمد الأشعري تمضي قدما لكي تكون نموذجا للأدب العالمي الكبير. و لعل عملية الترجمة هي التي ستبرهن على صحة وقيمة هذه الشهادة، وما يتبع الترجمة من تحليق القارئ الأجنبي حول متونه الإبداعية وتذوقه لها.

ويبقى الكثير مما يمكن رصده وتحليله والإشارة إليه فيما يتعلق بتوظيف الأصوات المتعددة في الحكي (البوليفوني)، و توظيف الميتاسرد و الميتاحكي، ناهيك عن الاسترجاع و الإدماج لشخصياته ومشاركتها في إخراج الرواية و إنتاجها. يقول الكاتب على لسان إحدى شخصياته:” إذا كنت أكتب هذه الأشياء اليوم في كُرّاسي الذي أصبح جزءا لايتجزّأ من ملامحي، فلأنني مررت في هذا اليوم الذي عهد لي فيه المؤلف بتحرير صفحاته الأخيرة من هذه الرواية، بتجربة في غاية الجمال والقسوة”. ص 317 من رواية ثلاث ليالٍ.

فهل يكون هذا الصامت في الرواية هو محمد الأشعري الذي يكتب ولا يريد أن يتكلم، لأنه لو تكلّم لقال الكثير ربما؟

* *ثلاث ليالٍ، الطبعة الأولى، 2017، 320صفحة، تأليف محمد الأشعري، الناشر: المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء المغرب.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.