الرئيسية | حدائق الكتب | قراءة في هذيان معلم لعلي ناصري | عزالدين الماعزي

قراءة في هذيان معلم لعلي ناصري | عزالدين الماعزي

عزالدين الماعزي

 

ليس أمام الكاتب الا التورط في الحياة ليجد مادة للكتابة، فالكتابة هي حياة يومية أخرى أعيد تشكيلها ..

unnamedيبدو (علي ناصري) في كتابه الجديد والمعنون ب(هذيان معلم) الصادرعن مطبعة قرطبة حي السلام اكادير 2016، مشغولا بمراقبة الحياة، بالتورط في مغامرة الكتابة، الكتابة التي ترتديه كجلباب أبيه الذي رفض أن يكون مهندسا ورغب في أن يكون معلما.. ولعل عنوان الرواية”هذيان معلم” هي أولا بناء أدبي متخيّل وتسجيل لوقائع حياة تخص شخصا معينا،نشك في البداية أنها قصة واحدة بل هي مجموعة قصص أو رواية مكثفة مثقلة بالمعاناة والعذاب اليومي، كتابة لم تأت من فراغ بل تحضر من قاع الجبل، وما ادراك ما الجبل؟ منطقة نائية من المغرب غير النافع يأتي من مصدرها نيران قاتلة .. (لست أدري لماذا كتب على معلمي المغرب تسلق الجبال الضخمة والخطرة باقدام ضعيفة وقدرة تحمل قليلة، وأجرةتنتهي قبل أن تقبض، أيتعذب الكفار في نار جهنم اكثر مما يتعذب المعلمون..؟) ص62

تتكون الرواية من فصول مرقمة من 1الى10. ما يلفت النظر أولا وهو يبدأ الرواية بمخاطبة القراء وتوجيههم انه تعمد تغيير اسماء الاشخاص والاماكن وأن أي تشابه هو من قبل الحب الا.. ص5، وبسرد قصة سيرة ذاتية بفعل أمر وضمير الغائب (اكتبها ولا تشمت بي الاعداء..) ص7، وتنتهي برحلة،رحلة عمر واستبدالها بحياة ومصيرآخروهذا هو سر جرأتهوكتابته لمذكراته(كفاني هذيانا، قد أصير مخبولا، فهذه بدايته..) ص18

تدور بين الحقيقة والوهم والإصغاء الى صوت مركز على الذات المركب من تعدد أصوات وتداخل صوت الراوي وكذا الإصغاء الى قساوة الطبيعة الجبلية وبرودة الجو وصقيع الثلج وحرارة الاجساد بخصائص فنية وجمالية وبتقنية عملية الاسترجاع.يقدم فيها تجربة في الحياة للموعظة والاستئناس بها،هي رغبة صديق في عمق المعاناة وطلبه من اجل الكتابة ،(شجعني على ذلك صديقي الذي يعمل في مجموعة مدارس.. قال لي : حكايتك ستشكل مادة رائعة لكتاب)ص26،كتابة يومياتالتعرف على بعض السلوكات والقيم الاجتماعية والاخلاقية وتشريح المجتمع المغربي.(اكتفي بكتابة حماقاتي ..اكتب لكي انسى ما انا فيه لا لأتذكره طيلة حياتي .!! سأكتب وانتهى الامر !)

العنوان، هذيان : يعيدنا الى بداية التصنيف وتشكل البداية على لسان السارد، هي سيرة كائن انساني تضج بأحلام شاب عُيًن في منطقة نائيةبانكسارات واحباطات وخيبات ( ليلة ظهور شبح ) هذيان، هو نوع من الجنون اوهو الجنون بذاته يؤدي الى الحمق والمس.. (يسألني احد الاصدقاء قائلا ..لماذا كل المعلمين حمقى ..؟ قلت له: لأنهم معلمون ..) ص130

في العنوان يحاول الكاتب أن يحدد هذيان شخص معين بمعلم، شريحة اجتماعية بالانتماء الى اسرة التدريس التي تحكي وتعاني في صمت بسرد المئات والالاف من القصص والاحداث ..

رواية تصنف الى جنس أدبي،أدب السيرة الذاتية التي هي بناء قصصي يتشكل من عناصر السرد والوصف والحوار الثنائي والذاتي الخطاب، الوثائق تتمثل مادتها الاولية في وقائع حياة شخص معين.) مفهوم السيرة وخصائصها ..

عتبة الغلاف، تم اختياروتتبيث لوحة/صورة تمتد وتظهر صورة شخص مقابل البحر/ الغروبيحيل اليه اللونالأصفر والأحمر وفوقه الأزرق، يمد يديه الى اعلى دون أن يرينا وجهه، عتبة تحمل من انفعالات تصرح اكثر ما تضمرويمثل ظاهرة التعرف على شخصية تحاول البحث عن الاتزان وهو فوق صخرة يوحي بالبحث والتوصل الى نهاية او حل نهائي.

تظل احداث النص متشابكة توحي به وتدفعك للاستنتاج (اعادة الحياة تكون في الغالب اعادة حقيقية، متخيلة، في آن تمليها الذاكرة، ويبنيها التخيل).

على امتداد الرواية يلخص السارد حكايات مرتبة بأسلوب سلس يعتمد على نسق يحترم الزمان والمكان والاحداث، رحلة او رحلات يومية في محيط السارد/ المعلم رفقة التلاميذ والبيت او مع أصدقائه..

اكيد أن أي نص يحمل قيما كثيرة ومنها:

القيمة الأدبية :تجربة قاسية يعيشها الكاتب مسجلة وموثقة ذات دلالات عميقة وهي محكي استرجاعي يركز وجوده في مجتمع ليس مجتمعه أو محيطه لأنه انتشل من مكان الى آخر بل فرض التواجد فيه وحنينه الى البحر، سيرة تكشف بالعلالي، هي سيرة كل معلم في الجبل والمناطق النائية، المنكوبة وصعوبة الحياة في مجتمع مختلف عنه لغة وتقاليد بجرأة وتفرد وهي سيرة احباط تستلهم من سير سابقة لشكري وللمرحومباطماالعجز والموت وتضم مشاهد حقيقية وفيلم الرسالة واخرى وتداعيات ذلك وشغب الاطفال..( التلاميذ يقضون حاجتهم وراء حائط من حيطان القسم، وفي تلك الزاوية لا فرق بين الجنسين وتحت الحائط الملاصق يجلس التلاميذ لتناول المطعم المدرسي، يتمطقون ويتلذذون وطعامهم بنكهة الغائط..) ص68. النص هو جماع حلو بين ورقة وقلم ص146 .نحن نختار اخطاءنا هي ما تختارنا ص159 لست كاتبا ..لم تصنعني امرأة بل صنعتني مرارة) ص152

القيمة الثقافية الاخلاقية : يسرد الكاتب بصدق ما يقع يوميا وأمام عينيه وبانفعال شديد وبسخرية قوية المفعول محددا أصابع الاتهام في الاشياء المسماة والمسببات واخطاء المجتمع ويتخذ موقفا صارما مع بعض الظواهر الشاذة داعيا الى التطهير، ان المعلم شمعة تحترق تنير الطريق للآخرين!!أشمعة أنت أم قنبلة؟) ص107. إن نظام التعليم كله لا يعمل الا على ضوء شمعة !!)ص108، او يصرخ بسخرية (سأغسل جسد التعليم بماء دافئ مخلوط بالكافور.. وألفه في ثوب ابيضواضعه في حفرة مستطيلة عرضها شبر وطولها ممتد من فجر الاستقلال الى اليوم) ص156

لا تخلو الرواية من ذكر وتتبع بعض الاحداث التاريخية عاشها السارد محطات هامة من التاريخ والإشارة الى كتب بعينها الخبز الحافي لمحمد شكري وسيرة الألم للعربي باطماوالى أشعاروأقوال ونسجل تفاعله مع ابيات المتنبي..

اختار الكاتب أن يكون حاضرا عارفا لتقديم شخصية السارد والراوي، يحصل بينهما تفاهم احيانا واخرى محاورة ومشاداة.

للرواية قيمة فنية وجمالية كما قلت بكونهاكتاب سيرة تمثل اضافة الى المنجز السيري المغربي خصوصاعلى لسان معلم يتحدث بجرأة عالية غير معتادة وبصدق وسخرية لاذعة، هذه الجرأة محتسبة  مشفرة موجهة برسائل لآنه لم يعد معلما الآن وأنهى مشوار العذاب والمعاناة بحصوله على وظيفة اخرى وانتهت بذلك محنته / خلاصه كما هو متعارف لم نعتد أن يكتب احد سيرته بشجاعة تضاهي شجاعة اخرى، رغم الحصار والتهميش لأنها ولدت بالعكس الكثير من البوح والاشتراك في الكتابة عبر بوابة ميادين ومهن اخرى لنكشف عما عاشه من عذاب ومحن وبانتصار قيم..

ويمكن أن تكون سيرة المئات والآلاف من المعلمين، اذن هي سيرة معلم/ او سيرة مئات المعلمين/يحاول أن يدافع عن حقه في العيش وتحويل احلامهم كشباب طموح لخدمة البلد تكثر فيه الاستراتيجيات والاصلاحات والتجارب ويبدو ان اصراره قاده من اجل اتباث كفاءته للحصول على باكالوريا اخرى واجتياز مباريات ومتابعة دراسته من اجل الحصول على الإجازة واشتغاله بكتابة جديدة ترصد الواقع وتوثق وتسجل كتابة تسعى الى التورط في الحياة بدلالات وحقائق فنية وجمالية يتم فيها التركيز على الذات واستخدام ضمير المتكلم وتقنية الاسترجاع بسخرية موجعة وادانة واقع وتوجيه اصابع الاتهام والادانة عبر نشر الغسيل..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.