الرئيسية | رأي | فِي الجَنُوبِ التَّنْوِيرُ أسْلُوبُ حَيَاةٍ | د. بليغ حمدي إسماعيل – مصر

فِي الجَنُوبِ التَّنْوِيرُ أسْلُوبُ حَيَاةٍ | د. بليغ حمدي إسماعيل – مصر

الدُّكْتُور بَلِيْغ حَمْدِي إسْمَاعِيْل

 مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية

كلية التربية ـ جامعة المنيا

 

 

قضيت أسبوعا ممتعا ماتعا في رحاب مدينة الأقصر المصرية الجميلة، ومشاهد هذه المدينة تظل محفورة بغير محو بالذاكرة التي اعتاد علماء النفس كرها لنا تسميتها بالذاكرة طويلة المدى متغافلين تماما أن الإنسان بطبيعته دائم التغير مستدام النسيان، وتظل تلك المشاهد وإحداثياتها منقوشة بالقلب المتعب بفضل المتواليات السياسية الداخلية والخارجية التي تعتري منطقة الشرق الأوسط، فهي البقعة المصرية الساحرة التي تؤكد على حضارة مصر العميقة وثقافتها التنويرية التي لا يمكن ترميزها إلا بالشمس المشرقة الضاربة في القدم، ولما لا ومصر كما ذكرها الأديب العالمي نجيب محفوظ عميد الرواية العربية جاءت ثم جاء من بعدها التاريخ، ليخبرنا عن سحرها وجمالها ومن ثم عظمتها الخالدة، وربما تلك المقولة تدفعنا جميعا لتكريس مبادرة تاريخية مفادها أن مصر خارج سياق الحسابات الزمانكية بلغة الفيزيائيين المعاصرين. وبجانب هذا التأصيل الجذري لي ولغيري من المصريين فإن مدينة الأقصر تأخذك طواعية وبغير إرادة في التفكير صوب مقام سيدي أبي الحجاج الأقصري العارف بالله الذي تظل حكاياه أشبه بالأساطير لندرتها وفرادة هذا القطب.

ويبدو أن تلك التنظيمات الإرهابية الجاهلة لم تعرف بعد مدى ارتباط شعب الأقصر الجميل بصاحب هذا المقام وإلا فكروا طويلا في ممارسة ما اعتادوا عليه من إرهاب وعنف بشأن هؤلاء. والأجمل حقا أن الدولة بما أحدثته من تنوير بشأن جماعة الإخوان التي ملأت الأرض ضجيجا بفتنتها وفتنة مشروعاتها الوهمية وتبصير المواطنين بحقيقة هذا التنظيم الذي ربما لايزال يحيك بمصر شرا في الخفاء، لذا فإن ما رأيته وسمعته وناقشته أن أهل الأقصر من المثقفين والمواطنين العاديين على وعي كامل وتام بما حدث لهم على يد تلك الجماعة التي أضرت بمصر فترة زمنية ليست بالقليلة واليوم بدأت في عقد صفقات خبيثة مع جهات خارجية كعادتها لتقويض الشأن المصري لكن نحمد الله على وعي الدولة والمواطن على السواء في التصدي لهذه الجماعة.

ورغم أن المقال يتناول بعض التفاصيل العابرة بشأن مدينة الأقصر، إلا أن ضرورة الحكي تلزم الإشارة إلى أن الكثيرين من تنظيم الإخوان الذي صار مكروها من الشعب وثار عليه ثورته الشعبية العظيمة في الثلاثين من يونيو 2013 لايزالوا يتواجدون بكثرة في جامعاتنا المصرية، وهو الأمر المخيف نظرا لأنهم قد يمتلكون حق التأثير على عقول أبنائنا الطلاب بالجامعات، وعلى أجهزة الأمن ضورة التحري وتعمق التقصي بشأن هؤلاء الأساتذة المنتمين لتنظيم متطرف يسعى لاقتناص مصر من جديد عن طريق تمويلات خارجية مشبوهة.

ولعل من أجمل ما يحمله الجنوب وفق تاريخه العظيم مدى ارتباطه بالوطن ووعي أهله الرائع الذي يشبه الملاحم العظيمة بنظامه الحاكم، الأمر الذي يدفع الكثير من المتربصين بهذا الوطن إلى الحقد والغل وربما الكراهية، ففي الوقت الذي يراهن فيه أعداء الوطن بتنظيماته وأمواله ورعاياه المنتشرين بالكثير من المؤسسات الحكومية ومنها الجامعات بل إن بعضا منهم يجلس على مقاعد الإدارة ورئاسة الأقسام العلمية بكثير من الكليات حسب ما يتناقله الأساتذة الجامعيون والتحقيقات الصحافية بشأنهم ـ فإن التزام أهل الجنوب ومنهم الأقصر الجميل الساحر بقضايا الوطن والتلاؤم مع طموحات الرئيس عبد الفتاح السيسي والاقتناع المطلق بعظمة وتاريخية الجيش المصري الباسل يرمي بكل هذه الرهانات الفاشلة في مزبلة الأيام، وهم ـ أهل الأقصر ـ يؤكدون أن هذا الوطن لا يعد صفقة مثلما يظن تنظيم الإخوان، ولا يعتبر مرحلة تجارية يمكن المتاجرة والتربح منها كما فعلوا من قبل وقت وصولهم إلى سدة الحكم في عهد الرئيس المعزول بإرادة الشعب الدكتور محمد مرسي.

وجميل أن ترى أهل الجنوب مغرورقين في عشق زعمائهم بنفس درجة عشق أهل الوصل والحب في الله من أمثال سيدي أبي الحجاج الأقصري والشيخ أحمد النجم والشيخ الطيب وهو والد فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر. وهذا التمادي في المودة لزعماء مصر مثل جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات وصولا إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي ناجم من وعيهم بطبيعة كل مرحلة جاء فيها كل زعيم ممن سبق.

وإذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي نجحت في استقطاب الكثير والكثير من أصحاب الوحدة النفسية ومرضى الأزمات الوجدانية الطارئة كالحزن والاكتئاب والفشل الوقتي ولعبت على هذه الأوتار الإنسانية المحضة، فإن أهل الجنوب الواعي بحضارة وطنه نجح منفردا في إعلان قطع الصلة اليومية بهذه التقنيات التي تستخدم أحيانا اليوم في زعزعة استقرار الوطن وتفتيته. فهم يفطنون كنه وسائط التواصل الاجتماعي في الترويج للفوضى وفي زعزعة الثقة بين المواطن ورئيسه وجيشه ونظامه السياسي ورموز مجتمعه، لذا فهم الأكثر حرصا كما شاهدته بعيني على فلترة وتنقية كل ما يصل إلى أذهانهم من سموم تبثها تلك الوسائط التكنولوجية.

وفي الأقصر تستطيع أن تقرر بأن التنوير هو أسلوب حياة وليس بضعة مؤتمرات تعقد بمكتبة الإسكندرية أو بوزارة الأوقاف والثقافة وبعض الجامعات والمكتبات العامة. لأنك باختصار ترى وجوها سمراء تخبرك بحقيقة التنوير في المصافحة والابتسامة ولين المعاملة ووسطية العقيدة بغير تشنج أو استلاب كما الحال في الجماعات الدينية المتطرفة والتيارات الأصولية وتنظيمات كالجماعة وداعش وحسم وولاية سيناء وغيرها من الائتلافات التي لا ولاء لها إلا لأميرها الذي يأمر وينهي ويعزم وينعم ويحرم ويقرر بالأوامر والنواهي.

وإذا كان التنوير كما فطنته من كتابات وطروحات العظيم الإمام المجدد محمد عبده مفاده الوعي والإدراك البعيد عن هلاوس ومزاعم أساتذة علم النفس بالجامعات، فإن وعي أهل الجنوب بطبيعته جعله محتفظا بأخلاقه الرصينة، وأعرافه البشرية الأصيلة، مصر عظيمة بشعبها العريق الذي رغم البنطلونات الممزقة تعي مستقبلها وتعرف التحديات التي تواجهها. مصر عظيمة رغم تلك الأصوات الفاسدة التي أطلق عليها اسم مهرجانات على وعي بأن ثمة مؤامرات داخلية وخارجية من دول تحت الحماية والرعاية الصهيونية ومن ثم فشعب مصر أكثر حذرا لتلك المخططات الخبيثة والدنيئة. ومصر التي رأيتها في وجوه سمراء لا تعرف للتطرف سبيلا ولا للجهالة طريقا بل هي وجوه دفعت السائح الأجنبي يعيش بفطرته التنويرية التي يحياها ببلده ؛ فمصر لاتزال سحراً خاصاً للوافدين إليها، والمقيمين عليها، والحالمين بزيارتها شئنا أم أبينا فهذا حق معلوم. ولكن سبب الدهشة هو إصرار الأجنبي على أن يقرأ في أي مكان وكل مكان هو فيه، في ساحات الاستقبال بالفنادق، وفي محطة القطار، وفي المعابد والمتاحف، أو على حافة حمامات السباحة، لا يهدأ ولا يكف عن القراءة، ولا تستكين عيناه وعقله في متابعة السطور والصفحات، ومن قابلتهم وجلست معهم هم بحق أمة قارئة.

وكم أنا في حالة غضب من الأقصر نفسها، حينما سمحت للآخرين أن ينقلوا لنا صوراً غير حقيقية عن هذا العالم الذي حول حياته إلى متحف كبير مفتوح، وإلى معرفة أكبر، فكل ما تسجله ذاكرتي عن أهلها بأنهم منغلقو الفكر والرؤية وهذا باطل، وأن نساءها أميات جاهلات لا يجدن فن الحياة والتعايش وهذه أكذوبة ظلت بعقول كثيرين غيري، لكني رأيت وشاهدت وجلست وتحاورت مع رجال ونساء شرفت بهم وبمعرفتهم، وكم هم وهن على وعي ودراية بأحداث وطنهم الكبير، ومساجلات شعبهم وأخبار دولتهم.

ولقد أدركت لماذا كان يراهن جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات وعبد الفتاح السيسي اليوم على قدرة الشعب المصري وتحديه الصعاب والمشقة، إن هذا الرهان مفاده سر الجنوب الذي يقدر منفردا على صهر كافة أشكال التنوع الثقافي بشتى صوره،هذا الجنوب الذي يظل حجر أساس منيع لوطن بحق لا ولن يقهر.. شكرا للأقصر التي منحتني قليلا من الحياة السعيدة.

كاميرا : التنوير ليس عادة فكرا ونظرية.. هو أسلوب حياة بالجنوب.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.