الرئيسية | فكر ونقد | في التقويم الابستمولوجي للتراث أصول العلمانية: أطلقوا الاجتهاد، حرروا المصلحة

في التقويم الابستمولوجي للتراث أصول العلمانية: أطلقوا الاجتهاد، حرروا المصلحة

 توفيق رشدي

 

من بين الحوارات التي نظمتها مِؤسسة دار الفكر المعاصر بلبنان ذلك الحوار الذي جمع بين الفقيه المقاصدي المغربي أحمد الريسوني والأستاذ المفكر السوري جمال باروت والذي كان موضوعه: الاجتهاد بين النص والواقع والمصلحة، وقد أصدرت نفس المؤسسة كتابا يحمل نفس عنوان  موضوع الحوار ومضامينه.

وتقدم هذه الورقات قراءة  في مقال الأستاذ جمال باروت، وهو مقال لخص فيه مداخل  النقد الابستمولوجي للتراث الإسلامي باعتباره تاريخا للتراكم المعرفي عند المسلمين، وأسس للحلول الضامنة للخروج من جملة المآزق التي يتخبط فيها التراث.

في التشخيص:

خضع تاريخ المعرفة عند المسلمين في البدايات الأولى لدورات تألق وتوهج أبانت عن فعالية في العقل المسلم وقدرة على بصم مشهد المطارحة العلمية الكونية بالبصمة الإسلامية. لكن هدا التألق سرعان ما أعقبته دورات أخرى بدا فيها العقل المسلم شائخا مكبّلا فاترا.

وإزاء هذا التحول لا بد من التساؤل مع الأستاذ باروت: ما هو الخلل وأين و كيف وقع ؟ وما الحلول الكفيلة بتقويم التراث وإعادة التوهج الحضاري الذي افتقده منذ قرون .

نقد المنهج الأصولي القديم:

حاول الأستاذ باروت تقديم قراءة لتاريخ المعرفة الأصولية الإسلامية قراءة سعت إلى أن تكون إبستمولوجية عقلانية وموضوعية، ساءل فيها المنهج والموجهات الإيديولوجية التي حكمت في هذه السيرورة المعرفية الأصولية.

التأثير الإيديولوجي وعملية التقعيد:

يرى الأستاذ باروت أن رسالة الشافعي جاءت لتضع الحد للفوضى التشريعية التي نتجت عن تفاقم الفجوة بين مدرستي الحديث والرأي، ومثلت الرسالة مفرقا تأسيسيا حاسما في تخطي تلك الأزمة ببناء قواعد أصولية تضبط الإنتاج ويشكل نص الوحي مرجعها الأساسي. لكن الذي وقع، كما يرى الأستاذ، أن تجاوزت رسالة الشافعي مجالات الفقه لتصبح قواعد عامة للتفكير الإسلامي.

فعلى مستوى أول كما نفهم، كانت قواعد الأصول في الرسالة عامة كلية ومجردة فكانت مناسبة لتلعب دور أصول القانون. وعلى مستوى ثان اعتمد المتكلمون هذه القواعد الأصولية الشافعية وأعادوا تأسيسها في مجال العقيدة وعملوا بها، فتحددت الصورة النهائية لعلم الكلام وهي في ذلك مدينة للتقعيد الشافعي. وعلى مستوى ثالث، خضعت التأويلية الإسلامية بدورها لمنهج الشافعي في أصول الفقه فتحولت إلى شكل من أشكال التفسير المضبوط بقواعد البيان، والأخذ بمثال سابق.

ويخلص جمال باروت إلى حقيقة هذا الوضع فيقول: “إن العوامل التاريخية من اجتماعية وسياسية قد لعبت دورا أساسيا في تكوين الغائية الإيديولوجية الثاوية في وظيفة علم أصول الفقه”.

لكن باروت لم يفصح عن هذه الغائية الإيديولوجية، ولو شئنا لقلنا بلسانه: إن أصول الفقه لعبت دور الشرطي الاجتماعي من حيث أنها أعطت للمثال/ للنموذج أهمية بالغة في الحياة الاجتماعية، فكان الخروج عن المثال والقياس خروجا عن الأصول والأعراف.

كما أنها لعبت على المستوى الفكري دور إطار مرجعي معترف به، مجمع عليه، ولا يمكن الخروج عليه… وبطريقة أخرى فقد كان النموذج الأصولي الشافعي أداة لتطويع العقول والتصرفات الاجتماعية، وتكريس النمطية وفي أوضاع لاشك أن المستفيد الأول منها هي الأنظمة السياسية.

وبعد إبراز الدور الإيديولوجي الذي لعبته رسالة الشافعي ينتقل باروت إلى الحديث عن عودة الإيديولوجية مرة أخرى وذلك في اللحظة التي تم فيها إقصاء الكثير من المذاهب الفقهية والإبقاء فقط على بعضها، فمن بين خمس مئة مذهب لم يكتب البقاء إلا لأربعة مذاهب، والسبب في ذلك كما يرى هو “الاستهلاك السياسي” فقد اشتد الطلب البيروقراطي العسكري على المذاهب كأدوات إيديولوجية لبسط هيمنة السلطان أو أمير الأمراء أو حتى الأمراء المحليين في مواجهة الخليفة أو في دعمه”.

ويذهب إلى أن هذا الاستهلاك السياسي كان وراء إقدام الخليفة العباسي القادر على حصر العمل الفقهي في كتاب الإقناع الشافعي وكتاب متن القدوري الحنفي وكتاب القاضي عبد الوهاب المالكي وكتاب واحد حنبلي ليلزم علماء المدرسة المستنصرية بالاقتصار على كتب السابقين وتقليد آرائهم، والهدف من ذلك كله كما يقول تطويق أي رأي سياسي معارض تحت ستار الاجتهاد والرأي”.

وهكذا تحولت هذه المذاهب الفقهية إلى ما يشبه “أديانا” إسلامية تحت التوظيف السياسي وسيطرة التقليد “حتى عد من ينتقل من مذهب إلى مذهب مرتكبا جريمة”.

لقد كانت النتيجة الإيديولوجية الكبرى في عملية التقعيد، كما يرى الأستاذ باروت، هي سحب تدخل الأفراد في الدين تحت مسمى الاجتهاد والرأي، ليقتصر هذا الامتياز على حفنة من الفقهاء لها سلطة كهنوتية تضطلع بإدارة المدونات الفقهية المغلقة”. وبالتالي حدوث ما يمكن أن نطلق عليه “تدجين السلطة السياسية لعقول الأفراد”.

العائقية المعرفية في عملية التقعيد:

يرى الأستاذ باروت أن النموذج الأصولي الشافعي المغرق في تجريديته حمل في طياته عائقا إبستمولوجيا خطيرا يتجلى في: الاستدلال القياسي، أو بتعبير آخر، الاستدلال التمثيلي. وهنا نتساءل: كيف يمكن أن يكون الاستدلال القياسي أو الاستدلال التمثيلي عائقا إبستمولوجيا مع أن له وظيفة استكشافية واسعة الأفق كما يقول طه عبد الرحمان؟

يفسر الأستاذ باروت ذلك بأن الطاقة الاستكشافية للقياس الفقهي محدودة، “إذ إنها مقيدة بنوع من أنواع الفهم المغلق للنص أو بمثال سابق”. وبتعبير أوضح وأدق، فالقياس الفقهي ” لا يثبت حكما، بل يكشف عن حكم ثابت للفرع من وقت ثبوته للأصل لوجود علة الحكم فيه”.

ومعنى ذلك في نظرنا، أن القياس من جهة خطاب جدلي لا يرقى إلى درجة القطع التي بها تثبت الأحكام ومن جهة ثانية فالقياس قائم على العمل وفق مثال سابق وهذا منهج لاشك أنه يقتل الإبداع المعرفي. ثم إن القياس الأصولي من حيث إنه نابع من نظرية بيانية تقوم على ثنائية اللفظ والمعنى في إطار نظم النص لا خارجه (آي بلا تأويل). غلب جانب اللفظ على جانب المقصد، مما أدى إلى تغليب الوسائل (أي لأدوات العمل) على المضمون المقاصدي. ولا يخفى أن عكس هذا هو ما كان ينبغي أن يكون !

في العلاج وتأسيس البديل:

من الوسائل إلى المقاصد:

بما أن جمال باروت أثبت، بحسب ما فهمنا من بحثه، خضوع المنهج الأصولي الشافعي للإيديولوجيا، وهو ما يعني أن بقاءه إلى حد ما بعيدا عن الموضوعية والبراءة العلمية، وبما أنه أثبت كذلك احتواء هذا المنهج الأصولي الشافعي في طياته على عوائق إبستمولوجية أكدت الخلل الحاصل فيه، وبالتالي ابتعاده عن الفاعلية والنجاعة. فهل اكتشف العقل المسلم تاريخيا هذه المآزق وتجاوزها. أم بقي رهنا لها؟

بحسب ما فهمنا عنه، أن العقل الأصولي المسلم اهتدى إلى هذه المآزق وحاول تجاوزها، وقد بدأت هذه المحاولة، من نقطة تساؤل دقيق هو: ما هي قيمة المصلحة في ميزان الشرع؟ وفي الإطلاق؟

لقد بدأت بوادر التحلل من التقعيد الأصولي الشافعي، كما يرى باروت، مع المالكية الذين شرعنوا المصلحة المرسلة ووثقوا في معقوليتها وجعلوها أصلا قائما بذاته، ثم انطلقت هذه الحركة المنتفضة بعيدا مع الطوفي الذي تجاوز المالكية إلى حد أنه قال بتقديم المصلحة على النص في حال التعارض أي بإطلاقها. لكن الشاطبي بمجيئه أظهر إلى الوجود نموذجا أصوليا إرشاديا جديدا، ونقل فيه المركزية من الوسائل إلى المقاصد، واعتمد فيه الاستقراء ونقله بالدليل العلمي من الظنية إلى القطيعة، وبين أن المقاصد تأطير للمصالح، وأخضعها للتعليل، بمعنى أنه أخضعها للمعقولية .

وبدورنا فإننا في هذه النقطة بالذات نسائل باروت الذي نرى أنه تحمس للشاطبي كثيرا فنقول: ألا يبدو موقف الشاطبي المتمثل في تقعيده للمقاصد المؤطرة للمصالح سلوكا مقايسا للتقعيد الأصولي الشافعي؟ وإذا علمنا أن الشاطبي جاء بسنوات محدودة بعد الطوفي المعروف بتقديمه للمصلحة على النص في حال التعارض، أفلا تعتبر لحظة الشاطبي عودة إلى الضبط والتقييد؟

الشاطبي والحركة البروتستانتية المسيحية :أصول العلمانية.

من المعلوم أن الشاطبي يميز بين “الاجتهاد الخاص المنوط بالعلماء وذلك الاجتهاد العام الموكول إلى جميع المكلفين، من حيث إن الأول يقتضي تدقيقا في تحقيق مناط الأحكام، واعتناء بالتفاصيل والجزئيات الملحقة بالكليات في حين أن الاجتهاد العام في متناول جميع المكلفين لأن مناطه المقاصد الكلية للشريعة وأصولها القطعية”.

ويرى في قراءته لهذا النص أن الاجتهاد العام عند الشاطبي فتح الباب أمام المكلفين عامة بشكل تصير فيه تصرفاتهم المبنية على المقاصد الأصلية في كليتها عبادات.

ويذهب إلى أن مفهوم الشاطبي هذا للعمل والذي يحدده على أنه عبادة، يقترب من المفهوم البروتستانتي للعمل: فكالفن يعتبر العمل عبادة، ولوثر أضفى “القدسية على العمل”. ويعني هذا في نظرنا إضفاء الشرعية على كل الأعمال الدينية وتجريدا للكنيسة من اختصاصاتها.

ولكن لماذا يقيم جمال باروت هذه المقارنة بين الشاطبي وأقطاب البروتستانتية الأوائل؟

يقيم هذه المقارنة في نظرنا، ليقول: إذا كانت العلمانية الغربية أسست على هذه المبادئ البروتستانتية والتي سبق إليها الشاطبي، كما يرى الأستاذ باروت، أفلا يمكن القول: إن النظرية المقاصدية الشاطبية تأصيل للعلمانية الإسلامية؟

الشاطبي والحركة الإصلاحية الإسلامية: ضرورة الاستعادة.

اصطدمت الحركة الإصلاحية الإسلامية ممثلة في رشيد رضا والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم بالعقلية التقليدية المشيخية, وبالجمود الذي كرسته هذه الطبقة حتى جعلت الإسلام في مواجهة العصر. ولما حاولت الحركية الإصلاحية تجاوز هذه الفئة المتمكنة من الواقع الديني والاجتماعي، استلهمت من الفكر البروتستانتي، كما يرى الأستاذ باروت “إعادة فتح العلاقة المباشرة ما بين المسلم والله دون أي توسطات”.

ولكن، هل يعني هذا أن الحركية الإصلاحية الإسلامية علمانية المسعى؟

ثم، أليس الشاطبي سبق الفكر البروتستانتي إلى هذه المبادئ، وتحدث عنها في إطار دعوته إلى الاجتهاد العام، بلسان إسلامي أصيل مقبول ومشروع؟

لقد كانت استعادة الحركة الإصلاحية الإسلامية للشاطبي محكومة باكتشافها لتوجهاته تلك، ولاسيما في مسألة علم المقاصد الذي يجعل الشريعة مصلحة والمصلحة شريعة، وأيضا في إطلاق الاجتهاد.

ولكي يثبت عمليا صدق هذه الأطروحات جاء بمثالين، أحدهما لرأس من رؤوس الحركة الإصلاحية الإسلامية العالمية وهو محمد عبده والآخر لحركي إصلاحي إسلامي قطري بالنسبة للأستاذ جمال باروت هو مصطفى السباعي.

محمد عبده واستعادة الشاطبي:

يذهب جمال باروت إلى أن الإمام عبده في إفتائه “بجواز استغلال الأموال الموزعة في صندوق توفير البريد وتوزيع فوائدها” مع في ذلك من تجويز للربا، أقام فهمه للمصلحة على فكر الشاطبي. وذلك في الموازنة بين المنافع والمفاسد.

وعلى مستوى آخر، يرى الأستاذ باروت أن الإمام عبده يقول بوجوب الاجتهاد الفردي، وهو ما يذكر على نحو ما بمفهوم الاجتهاد العام لدى الشاطبي”.

– مصطفى السباعي واستعادة الشاطبي:

يرى باروت أن مصطفى السباعي طرح مسألة إعادة بناء “الإسلام الذي تريده الدنيا اليوم” وأوصى في ذلك باجتهاد في الشرع تكون فيه المقاصد حاكمة على الوسائل” لأن “المضمون الملموس للمقاصد يكمن في المصلحة” ولأن رعاية مصالح الناس هي الأساس في كل التشريع الإسلامي”.

ومن وجهة نظرنا، فإننا نتفق مع الأستاذ باروت في أن هذه المبادئ التي نقلها عن السباعي لا تخلو من التأثر بعلم المقاصد كما قدمه الشاطبي.

جمال باروت: الحل، أطلقوا الاجتهاد حرروا المصلحة.

انتقد جمال باروت منهج التقييد والتقعيد الأصولي الشافعي لأنه في نظره يكبل الاجتهاد، وقدم علم المقاصد كما نظر له الشاطبي على أنه ثورة أصولية ذات توجه علماني ليبرالي، وبين أن الحركة الإصلاحية الإسلامية استعادت فكر الشاطبي الثاقب بغرض أن تواجه أو تجاري به علمانية وليبرالية الغرب، على افتراض أنهما سبب إقلاع حضاري.

فهل تحقق للمسلمين الإقلاع؟

كلا، لم يتحقق بعد، والسبب، في نظر باروت، أن العقول المسلمة غلب عليها التقليد فلم تتخلص بعد من خشية الخروج على المألوف المتوارث. وعموما، فإنه لم يفهم بعد لا الشاطبي ولا مستعيدوه من رواد الحركة الإصلاحية الإسلامية .

ولذلك، فإن الأستاذ باروت، يجدد الدعوة فيقول:

أطلقوا الاجتهاد !

يقول  باروت: “لا يمكن فتح باب الاجتهاد بمعزل عن إعادة النظر جذريا بالتعريف التقليدي الذي يحصر الاجتهاد فيما ليس فيه نص ولا إجماع”

يتجاوز الحديث عن النص ليركز حديثه عن الإجماع فيقول: “إنه (أي الإجماع) تحول في ملحقاته أو طبعاته المبسطة إلى نوع من هراوة تقاوم أي بحث ونظر”. إن دعوة الأستاذ باروت إلى إطلاق الاجتهاد وتجاوز الإجماع هي دعوة إلى إسقاط احتكار السلطة الدينية للرأي وبالتالي للسياسة، إنها دعوة إلى الممارسة الفردية، والفردية فقط للدين، ليصبح الاجتهاد، اجتهادا شخصيا لا يلزم إلا الذات المجتهدة بعينها، ولا يعني الجماعة، وتلك هي  رأس القوانين العلمانية.

حرروا المصلحة !

يقول باروت : “الشريعة قابلة لشرعنة كل مصلحة” وما دامت كل مصلحة مشروعة فإننا نفهم أنها معيار نفسها. ولا نحتاج أية مرجعية أخرى تؤطرها.

إنها دعوة إلى ليبرالية: “دعه يعمل دعه يمر” التي وطد عليها الغرب نموذجه الحضاري, وجهازه القيمي، وأطلق من خلالها العنان للإبداع المحقق للريادة الحضارية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.