الرئيسية | بالواضح | عين ثالثة : العلاج بالماعز | صابر رشدى

عين ثالثة : العلاج بالماعز | صابر رشدى

إعداد وتقديم الكاتب الصحفي المصري خالد حمّاد:

 

فى واقع الأمر هناك أصوات فى رأيى أنها تقدمني لا أقدمها، أثق تماما أنها أصوات القادمين لا محالة، الراكضون من الخلف، ثمة صوت ابداعى نابض بالوعى  وبالمعرفة، يضفر جدائل  من المحبة بين محيط متابعيه، مثقف من  الطراز الرفيع يتابع بشغف  كل ما هو جديد  في سموات الأدب بأجناسه المختلفة، يأخذ مكانه ليكون أحد  شيوخ القصة القصيرة ورهبانها، بمجموعته الأولى شخص “حزين يستطيع الضحك”، نقف على عتبات كتابة فارقة في بساطتها وعمق دلالاتها.

 يحضر الصوت الابداعى  لصابر رشدي بكل ما يحمل من وعى معرفي بمحيطه، والعالم كقاري محترف ليحقق رهانات الكاتب في الحضور والاشتباك مع واقع الحياة، لاشك أنه الرهان الرابح للقصة القصيرة، أشير هنا إلى تدريباته على الكتابة، التى أصبحت بمثابة كعبة لمتابعي  فن القص في العالم العربي، القراء يطوفون حول كتابة رشدي ويشتبكون معها بمحبة، أغلبهم يجد نفسه فيها، صابر يكتب للناس والمدن والريف والشوارع، يقفز محلقا بالأسطورة ليشغلها بالواقع.

جدير بالذكر أن  صابر رشدي  يحكى كما يكتب  وهذا  نادر في زماننا.

وإليكم نموذج من كتابة صابر رشدى :

****

العلاج بالماعز

فيما يشبه السوق اليومى المنصوب فى الصباحات الباكرة، ثمة مسنات يجلسن متكئات إلى سور وابور النور، بشارع شنن، أمام كل واحدة معزة حلوب، مربوطة اإلى حجر كبير، أو عمود الإنارة.

 على جلجلة الترام، ومروره الصاخب،كانت النساء تدفع أطفالهن الصغار إلى حجر أي منهن، فتقوم الاخيرة بتقييد حركته وفتح فمه لتلقى اللبن المتدفق من الثدى المنتفخ للمعزة، ثم اغراق وجهه بالسرسوب المتطاير منها، نظير قرش واحد. كان مشهدا شائقا : مستشفى شعبى،موغل فى القدم، منصوب فى عرض الطريق، محاذيا للترام، تقبل عليه نسوة بولاق، والأحياء المجاورة، وهم يجرون اطفال شاحبون، تتناثر البثور على وجوههم ،ومضروبين بسخونة قاتلة .

 ثمة اعتقاد بان هذه الحيوانات مقدسة وحليبها شاف ،ساهم فى تزكية هذا اليقين ،ان السيدات اللواتى يقمن بهذه العملية، صامتات، متخذات سمتا كهنوتيا ،كحارسات المعابد المنوط بهن تحضير المذبح، والتاكد من القرابين، كن كمن يحتفظ باسرار دفينة، وتعويذات ناجعة.

 فيما يشبه الحلم، تطفو على السطح، صورة أمه، وهى تسحبه من يديه إلى هذا المكان، القريب من مسكنهم، مازال طعم الحليب الدافئ يرطب فمه، يطفئ سخونة جوفه وحلقومه، صورة النسوة اللواتى لم يعرف من اى المناطق يجيئون بمصاحبة هذه الحيوانات الأليفة، الشببهة بكائنات الفراعنة المرسومة على الجدران. الذكرى باكملها مازالت حبيسة داخل ماضيه الغائم، محتفظة بقداسة لتلك النساء، كأنهن فى محراب عتيق ينبذ النسيان.

صابررشدى – أيام السبتية

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.