الرئيسية | بالواضح | عموري مبارك سيرة الجسد الجريح | أحمد بوزيد

عموري مبارك سيرة الجسد الجريح | أحمد بوزيد

أحمد بوزيد

                           

                          “إذا كان النور الأبيض لهذا المصباح

                               حقيقيا ، فاليد التي تكتب

                               حقيقية، لكن هل العيون

                         التي تنظر إلى المكتوب حقيقية ؟”  

                                        أوكتافيو باث

1

أن تكون في حضرة عموري مبارك معناه التخلي عن مفردات الخطاب المأثمي التي يرتجلها البشر عادة لسموات فارغة أو مأهولة،؛ لفهم غرابة الغامض و التخفيف من سطوة مشهد ولائم الديدان حين يلتمع في الدواخل، ليظل الموت مجرد فكرة مرتجة وتأويل انسكب من شقوق الغابر فصدقه الجميع، ولتظل العبارة أضيق من أن تمضي إلى أعماق حالة ظلت تقيم في المجهول وظل الإنسان يؤثث عوالمها بما اجترحته المخيلة من أحياز المعاش، مهتديا في كل حالات التأثيث بتقابلات هشة تضع الحياة قبالة الموت ، لتصل الحياة بالأثر لا بالجثة.

2

أن تكون في حضرة الجسد الجريح، يتطلب جسارة لإعادة ترتيب العلاقة بالشعر والعالم، والنظر بشزر إلى مفهوم الشعر الذي ضاق لوقت طويل عبر تاريخ كل البلاغات القديمة ليعدو مجرد إشارات بوسيط اللغة ، قبل أن ينتبه كثيرون إلى أن مفهوم الشعر من تلك المفاهيم التي تعيش سفرا رمزيا دائما وبحاجة لتأسيس مستمر ، وقبل أن يتعمق الوعي بكون المفهوم كما استقر، يشي باشتغال عميق للسلطة ليس أدل على ذلك سوى  تشكيل المشهد بعناية استثنائية تلغي المشاكسين و المرتابين  الذين لا يوبخون أحدا  و بالموازاة نفي استعارات الأطفال من دائرته كما لو طقس ديني يغدو معه خلق الشعر رهينا بالبلوغ ووهم الرشد. وتأتي الرجة الكبرى من  بوب ديلان  الذي حصل علىى نوبل للأدب؛  ليكون ما حدث دالا على تحول يؤشر على أن  مفهوم الشعر شأنه شأن حكاية بدوية ، ما ينبغي أن يستقر على حال، إذ  كتب أنسى الحاج ” أضع في سلة الشعر كل ما لا يقهرني” ليغدو الشعر سلة رمزية كبرى تسع كل ما انتفى عن امتداداته في اليومي  القهر ، وليغدو عموري مبارك الذي تشهد أعماله ما يشبه حلولا صوفيا بين الشعري و الموسيقي حد آباء الشعرية الكبار.

3

اليد هي تمون السلة الرمزية الكبرى، وهي امتداد الجسد والظاهر أنها ترجمة لبحثه عن حيوات و أحياز بلاغية للجرح الثاوي في الخبيئة، وهي نص، إذ تشي بذلك حكايتها القديمة مع العرافات في الساحات، تعلق معناها في البعيد فلا تتشابه تأويلاتهن جهة اليد الواحدة، كما تشي بهواجس الشعراء، تحضرني يد أحمد بركات تأنى بعيدا كي لا تساعد الزلزال ، وفي البعيد ، تمنح للأشياء جذورا عميقة حتى لكأن ارتجاجها عند مقدمه ، مجرد رقصة للحياة، وفي البعيد أيضا تتعثر يد الكائنات الشعرية لأمجد ناصر بأشياء القبر ، في هذه الأحياز بالذات التي يسقي الشعراء وردها بماء الضجر تتحرك يد عموري مبارك، تكابر أمام قسوة اللحظة وتدير ظهرها لخلاص له شكل السراب، لترتوي من المتاح من ماء الينابيع الأمازيغية التي خاصمتها الكتب طويلا، ولتنفذ ما استطاعت ذلك إلى القيعان، مؤمنة للماضي عودا سعيدا، إذ  تتصادى في أعماق أعماله نداءات الشعراء الجوالين وآهات الراقصين في الليل و أنين بلاغة الأطلسيات وشهوتهن  و  هلوسات المجانين العابرين أرض الجنوب ناثرين الحكمة بسخاء نادر.

4

في الأطلس كانت اليد تهتك حجب العالم، تلمس أشياء القرية و تعيش العمارة التي تتدلى منها  لذاذة النظر إلى أم شاعرة تبعث النيران في المرقص  ، تتعيش على حليب أول قبل أن يعصف بها اليتم إلى أزقة تارودانت ومسالكها الشائكة في العاشرة من العمر،  لتصافح اليد يد الأخوات في “دار الحليب” ليستوي الجسد بماء محبتهن طاهرا من الأحقاد، حيث صداقة القيثارة واقتحام أعراس الجنوب، بحثا عن طيف أم شاعرة باركها أولياء صالحون في المزارات ، بحثا عن الحليب الأسطوري الأول الذي ينجي ، بحثا عن التماعات …لكن أعراس الجنوب أهش من أن تطيق الجسد الجريح  ، فلم تهب اليد لزمنها الليلي سوى ما يكفي ليكنس الخجل من الملامح ، وتمضي اليد بعدها  إلى  الشعرية الحالمة والغنائية لمحمد مستاوي والكناساني و ابراهيم أخياط التي ما تزال مشدودة إلى عوالم القرية و الرعاة والجمال الجارح  وسطوة الشفاهي ، ولم تكن سوى  معابر جهة شعريات معاصرة قلقة تنز بالأسئلة وتدرأ عنها كل يقين وتمجد العبور ولذة الترحال مع صدقي علي أزايكو و محمد واكرار وعمر الطاوس ومحمد أسوس و الحسين أجكون؛ الشعريات ذاتها التي انخرطت في مدارج الكتابة وأهوالها بهذا القدر أو ذاك.

5

للجسد الجريح صور كثيرة، صورته في مخيلة  كائنات الكافيتيريا حيث المعاطف السوداء  والأفكار التي تتحول إلى أحجار و الأحجار التي صارت أفكارا معاصرة لحروب مفتعلة وشائكة ، يتبدى لهم في شكل  ساعي بريد  أنيق ينبه الغافلين ، فتصقل الحناجر  أعماله  لتلائم موائد اليتوبيات الجميلة.

وفي الصالونات والقاعات حيث السكاكين والقمصان المكوية  يغدو جسدا  مممدا على السرير قربانا للسيد بروكست الذي لا يني يمنح البركات …

منفلتا من كل الصور عاش عموري مبارك، صلبا كالأحجار إزاء الأسرة القديمة ، غريبا كما يجدر بجسد جريح ،بالحواس ذاتها كان الوداع استثنائيا يليق بطول السفر المأمول، عازفا شذرة  أمازيغية جارحة  فائضة الحزن للشاعر محمد واكرار  ” لست  أملك شيئا ولم أكن لأكن، وحدها الحياة قالت لللعنة ليكن هذا الجسد بيتك ، ليكن هذا الجسد مأواك”، من بعدها  يستطيع ترميم هذه العبارة” 1951-…..” غير موظف بلدية غير ملوث بالحياة وحرقة الاسم الشخصي  ، من يستطيع فعل ذلك دون أن يغشاه الندم.

 

 كاتب من جنوب المغرب

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.