الرئيسية | فكر ونقد | سياسات الذاكرة: بدائل علاجية بطعم المرض -3- | علي أوعبيشة

سياسات الذاكرة: بدائل علاجية بطعم المرض -3- | علي أوعبيشة

علي أوعبيشة

 

 

  • الذاكرة الجماعية بين التذكر والتأويل والاحتفال

تلعب الذاكرة الجمعية (الجماعية) دورا أساسيا في تحديد الهوية الثقافية والتاريخية للمجتمعات وكيفية تشكل تمثلات الأفراد لها/عنها، فهي من جهة، ذات قدرة على إحياء فاعلية الماضي الحيّ في الحاضر، من خلال تحويل الذاكرة إلى ماضٍ/تاريخ قابل للسرد، اشتغالا على الصور المتجذّرة للذاكرة في الخبرة المعيشية المتوارثة أو الصور الرسمية للماضي، ومن جهة ثانية، فهي قادرة على التحكّم في طبيعة الرهانات الآنية والمستقبلية وفي الهوية السياسية أيضا  للمجتمعات بل وفي طريقة التعاطي مع الآخر … لهذا تكتسي الذاكرة قيمة مهمة في الدراسات الثقافية، إن لم نقل: إن مؤرخي الثقافة ينطلقون من فكرة جوهرية مفادها أنّ الذاكرة الجمعية ليست مجرّد مدخل لفهم سكون الثقافة أو حركيتها، بل هي البنية التاريخية المؤسسة لأي نسق ثقافي.

 وعليه فإن أي توتر أو اضطراب في بنية الهوية الثقافية، يحيل بالضرورة إلى قمع الذاكرة الجمعية أو كبتٍ لبعضٍ من عناصرها أو تزوير وتشويه لحقائقها.  وكل قمع أو كبت أو تشويه أو تزوير يطال الذاكرة، ينتج عنه بالضرورة ردّ فعل تذكّري/استذكاري، يأخذ صيغا مختلفة تجتمع في  العودة القوية للماضي المكبوت وفي الأهمية المتزايدة للأحداث التاريخية والبحث عن سبل تخليدها، وكذا الاهتمام بالشخصيات التاريخية سواء بالإيجاب (الاحتفاء بها ومدح محاسنها) أو بالسّلب (ذمّها والسخرية منها وشيطنتها)

  • من الذاكرة التاريخية إلى الذاكرة الاحتفالية

ما الغرض من تخليد الذكريات؟  ما الجدوى من تخليد حدث  ما  بشكل متكرر كل سنة؟

لماذا  تلجأ الجماعة سواء كانت رسمية أو هامشية  إلى تخليد الحدث؟ لماذا تصرّ على أن تجعل من حدث ما حدثا بارزا قابلا للاستعادة والسرد/الحكي؟

ليس الهدف من تخليد الذكرى – تخليد حدثٍ وقع في الزمن الماضي- هو  الحدث في ذاته أي الحدث كما وقع، أو لنقل حقيقة الحدث، بقدر ما أن الهدف هو  تخليد سردية معينة للحدث، الانتصار لتمثل خاص للحدث وللماضي ككل، يكرّس استعمالا محددا لما مضى في سياق الصراع حول الذاكرة الوطنية، استعمالٌ  يخدم مشروعا محددا  للهوية[1]. الحدث إذن بهذا المعنى ، لا  يكتسي قيمة ذاتية إلاّ  إذا سمح للأفراد (مستهلكي الذاكرة) بأن ينتقلوا “من التأريخ إلى التذكّر  ومن التذكّر إلى الاحتفال[2]، وهذا لا يتحقق للحدث إلاّ  إذا  تم التعامل معه كذكرى احتفالية، بالنظر إلى كون ” الذكريات الاحتفالية  واحدة من وسائل توجيه الانتباه العام لحدث ما عبر إنشاء خبرة أو عاطفة جمعية[3].

        هذه الأهمية التي تحظى بها الذكرى الاحتفالية (الحدث الذي يتم تخليده) تجعل منه موضوعا للصراع من أجل تملّكه، صراع من أجل تكريس تمثّل خاص ووحيد عنه، بهذا المعنى نفهم لماذا “لا تسمح خطابات الاحتفالات التذكارية بتعددية الرؤى حول الأحداث، إذ هي أميل إلى تشجيع “الالتزام الدوغمائي بتفسير وحيد – وحيد ليس غير- للماضي[4] إن الغرض إذن من الاحتفالات التذكارية (موجات مدّ الذاكرة) هو التحكم في تمثلّ الأفراد والجماعات للماضي، بتسييد تمثّل محدّد عنه  وقمع باقي التمثلات المنافسة له، وهنا تصبح الذكرى نتاجا للسرد ونوعا خاصا من الحقيقة  الذي انتصر باعتباره التأويل الصحيح لما حدث، لهذا فإن “الغرض الرئيسي من الاحتفالات التذكارية يكمن في بناء نسخة “توحيدية ومتماسكة للماضي” ويمكن أن تستخدم الاحتفالات التذكارية أيضا كفرص للرد على النقد، ولبناء (إعادة بناء) مواقع للشرعية والتمثيلية المشروعية، ل”المصادقة” على نسخة مفضلة من الأحداث ومن التاريخ. وطقس الاحتفالات التذكارية جزء لا يتجزأ من تأسيس “حقيقة” سياسية وتاريخية[5]

        وفقا لما سبق تبقى الذاكرة الجمعية (الجماعية) مجرّد إعادة بناء للماضي، أو لنقل الماضي كما تمثّلته قوى الحاضر، هاته القوى التي تعمل على توحيد التذكر المشترك، فتتحكّم في مختلف الوسائل التي يمكن بها تكوين معرفةٍ بالماضي، ليتداخل البعد السياسي بطموحاته ورهاناته واستراتيجياته وهلم جرا، بالبعد الزمني المتمثّل في الماضي الذي يظل مصاحبا للشخص بفضل ذاكرته الفردية  وللجماعة عبر  وسائل التذكر المشترك، هذا التداخل يُعبَّر عنه ب”سياسات الذاكرة” ويقصد بها تلك التمظهرات والتمثّلات المختلفة للذاكرة “سواء تلك المتجذّرة في خبرة معيشية أو الرموز والتمثيلات الأكثر رسمية(…) وغالبا ما يستخدم المصطلح كاسم مميز لعمليات العدالة الانتقالية في مجتمعات تتحوّل إلى الديمقراطية (…) لصدمات سردية حول صروح الذاكرة ومواقعها وللدلالات الجمعية الملحقة بها والصراعات حول الدلالات التي تطرحها “مجتمعات استذكارية” لأحداث ذات أهمية وطنية، والمقاومة الاستذكارية من جانب الأقلية أو الجماعة المقموعة أو العداوات بين خطابات تاريخية رسمية وطرائق عامية لتوليد المعنى ولتمثيل الحقيقة[6] وإذا كان علماء النفس السياسي متفقين على أن “الذاكرة هي ما يجعلنا بشرا[7] كما يورد ذلك كريستيان تيليغا   Cristian Tileagàفي كتابه “علم النفس السياسي”، فإن سياسات الذاكرة، فيها من الخبث والخداع والجور ما يتنافى كليا مع مبادئ الإنسان… ما يطرح بشدّة المطلب القيمي للضغط على الجهات (الوصية) بغية تحرير الماضي من ثقل الإيديولوجيا والدفع بالذكرى لأن تكون سردية أخلاقية تستند على المسؤولية والضمير، سردية عادلة تؤسس لذاكرة العدل/الذاكرة العادلة، وفقا لقوة تبريرية علمية وأخلاقية، فالعدالة بشكل عام ” أضحت تتطلب بشكل أساسي تبريرا “[8] .

  • عودة الماضي المكبوت وصراع التأويلات

انتهينا في ما سبق ذكره إلى كون سياسات الذاكرة معدّة أساسا للتلاعب بالذاكرة الجماعية، وذلك من خلال اصطناع سردية خاصة بالماضي  وتقديمها كحقيقة ثابتة لما حدث في الماضي وليس كتأويل من بين تأويلات عدة، وهذا ما يتأتى لها عبر  الانتقال بتمثلات الأفراد والجماعة -المشترِكة في التذكّر – من التأريخ إلى التذكّر ومن التذكّر إلى الاحتفال.  هذا ما يجعل من  سياسات الذاكرة  ذات وظيفيتين أو إمكانيتين تأويليتين تجاه الماضي، فهي من جهة  ذات وظيفة سلبية تلجأ إليها أقلية مستحوذة على السلطة بغرض التحكّم في الهوية السياسية والثقافية والتاريخية للأفراد المتسمين بصفة الوجود المشترك داخل كيان معنوي ما(دولة، قبيلة، حزب سياسي…) وذلك بفضل التمثل/التصور/التمثيل الواحد الذي تكرّسه للموروث (السياسي أو الثقافي…) والذي يمكّنها من كسب  الانتماء العاطفي للأفراد وضمان إحساسهم بالامتداد التاريخي… فتصبح الأغلبية  المستلَبة تابعةً عمياء للأقلية المتسلطة وقوةً تحركها كما تشاء. وقد تتجلى هذه الوظيفة السلبية أيضا في الإيهام بالتحوّل إلى الديمقراطية والمصالحة الوطنية (كما وضّحنا ذلك في حديثنا عن المصالحة والعدالة الانتقالية).

ومن جهة ثانية فهي ذات وظيفة ايجابية كلما أسّست للنقد الذاتي والمصالحة الوطنية واعادة النظر في التاريخ الرسمي أو نادت باعادة كتابة التاريخ، إذ كلما نحت هذا النحو،إلاّ واتخذت شكل قوة استشفائية/علاجية، همّها الدفع بالجروح الثقافية والسياسية للاندمال،  والمساعدة على الكشف عن الحقيقة التاريخية كاملة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أو الجرائم الاقتصادية والاجتماعية…

غير أن الوظيفة السلبية تظل الوظيفة الأكثر حضورا في السياسات الثقافية والتاريخية لدول العالم الثالث التي لم تتحوّل بعد للديمقراطية، أو أنها ظلّت أسيرة الإيهام الإيديولوجي بالانتقال الديمقراطي، ما يجعل من سياسات الذاكرة في غالب الأحيان مجرّد آلية لتشويه الماضي وتحريفه وتغيير معالمه واصطناع سردية جديدة له بغرض إنتاج هوية محدّدة تتلاءم مع طبيعة السلطة القائمة. غير أنّ هذه الوظيفة سرعان ما تنتج ردّ فعل تجاهها، فالذاكرة الجماعية لا تموت، إنها بمثابة الشعور أو الحدث أو الفكرة أو الفعل  المكبوت الذي عادة ما يعود كلما وجد متنفسا لذلك،  لماضي السحيق لأمريكا (أمريكا الهنود الحمر) بالرغم من كل ما الجرائم الأوروبية تجاه الثقافة الأمريكية القديمة وكل الحضارة التي قامت على أنقاض الشعوب الأصلية، لا زال الهنود الحمر حاضرون بشكل أو بآخر  في أمريكا القرن الواحد والعشرين.

مهما تم كبت الماضي فإنه سرعان ما يعود وبقوة جارفة/ قوة انفجار المكبوت والبحث الارتدادي عن الجذور والأصول، لتعود معه صراعات التأويلات، وتصبح إمكانية إقامة حقيقة تاريخية أمرا شبه مستحيل، فيضيع الماضي بين إرادتي قوة: إرادة الزيف وإرادة إظهار (الحقيقة)، وفي كلتا الحالتين، تبدأ سردية جديدة للماضي، لا علاقة لها – نسبيا- بالإرادتين معا. فهل ثمة حقيقة تاريخية يمكن أن تستند إليها الذاكرة الجماعية أو أيّ كيان يخدم مشروعا للهوية؟

[1]  كريستيان تيليغا، علم النفس السياسي، ترجمة أسامة الغزولي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة العدد436، الكويت،2016 ص 149

[2]  كريستيان تيليغا، ن م، ص 150

[3]  كريستيان تيليغا، م س، ص 150

 كريستيان تيليغا، م س، ص 151[4]

[5]  كريستيان تيليغا، م،س، ص 150

[6]  كريستيان تيليغا، م س، ص 149

[7]  كريستيان تيليغا ، م س، ص 139

[8]  -Rainer FORST, Critique and justification, , Translated by Ciaran CRONIN, Polity Press, 2014.p. 18

 

تعليق واحد

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.