الرئيسية | أدب وفن | الفن | سينما | سرديات للإنسانية – 4- زمار عاطف الطيب | محمد رمضان

سرديات للإنسانية – 4- زمار عاطف الطيب | محمد رمضان

محمد رمضان

 

تبدو النهايات السعيدة دربا من الخيال … لا بل دربا من الوقاحة، لا أحد ممن يحملون هموم الإنسانية فوق عاتقهم اختبروا تلك النهايات السعيدة، دائما المأساة تقف عند كل زاوية، تنتظر لتنقض على الانسانية وتقلتها في كل مرة تحاول تلك الانسانية أن تعبر عن نفسها، والأحزان التي تخرج من باطن الأرض تجهز على الإنسان، والحياة هي  محاوله مستمرة للهروب من الحزن، عن طريق التسلية وتشتيت الانتباه عن المآسي، يبدو أن الناي تعبير مباشر عن تلك الحياة التي تنبت المأساة من أرضها ليخرج منها عودا ” ناي ” يشتت به الإنسان نفسه عن المأساة الحقيقية للحياة، والتي تكمن في أن أحدا منا لم يختر وجوده، وكل ما يترتب على هذا الوجود الإنساني الإجباري من اختيارات هو محض تخيل الإنسان، كلنا مصيرون نحو المأساة بطريقة أو بأخرى، المأساة التي استولدها نيتشة من روح الموسيقى ، واستولدها عاطف الطيب من روح الشارع المصري في الثمانينات .

 حتى في الفيلم الذى أكتب عنه الآن تجد المأساة في كل ركن، تجد كاميرا عاطف الطيب العبقرية تلاحقها في ” العرابة ” القرية التي  ولد فيها في محافظة سوهاج، وترصد لك التحول المأساوي الذى قد تصنعه النظم الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرها على الانسان الريفي، الذى يفاجئ بانه يفقد حتى أهم ما كان يميزه قبل ما يسمى ” بميكنة الريف “، عاطف الطيب كان موهوبا حقيقيا في تصوير معاناه المهمشين والفقراء ، بداية من فتيات الليل وحتى مجندو العسكرية إلى الفلاحين وعمال  ” التراحيل ”  ، وهو ما جعل الرجل خالدا في مخيلتهم .

الزمار هو فيلم من إنتاج 1985، إخراج عاطف الطيب وتأليف الشاعر المنسي في تاريخ الشعر المصري ( عبد الرحيم منصور ) بالاشتراك مع رفيق الصبان، بطولة نور الشريف ( حسن ) ومحسنة توفيق ( مريم )وصلاح السعدني ( عبدالله ) ، واسمحوا لى أن أبدأ من نهاية الفيلم بدلا من أن أسرد القصة ، والتي تتكرر كثيرا لمأساويتها ، في النهاية يقتل حسن الهارب من السلطة والباحث عن الأمان، وتقتل مريم التي زوجها المجتمع لزوج يكبرها في السن بعقود من قبل هذا الزوج بعد أن قامت السلطة القروية الممثلة في شيخ القرية والعمدة شريك الرأسماليين بترويج إشاعة مفادها أن حسن قد زنا بمريم، القتل كان جزاء المقاومة، في الفيلم تلك هي العبرة، لكن ليس بمعناها السلبى، بمعناها الإيجابي، فالاستمرار في المقاومة هو ما يجعلنا قادرين على التعايش مع إنسانيتنا ومضغ تلك المآسي التي تزخر بها الحياة، لكن في النهاية فالمصير المحتوم هو القتل، وبذكر النهايات، في فيلم عاطف الطيب البريء كانت النهاية على  قدر جيد من التفاؤل، وهو أن البطل ” المجند أحمد سبع الليل ” سوف يقتل العقيد الذى عذب وقتل مئات المعتقلين السياسيين في مشهد ميلودرامى يعنى التطهير في السينما، لكن الرقابة السينمائية رفضت تلك النهاية، ولا يمكن أن تقتل السلطة في فيلم مصري فهذا شيء يحرض على السلطة، فاضطر عاطف الطيب لتغيير النهاية لأن تكون صرخة المجند بأن يقول ” لا ” ويبدو أن ال” لا” لا تضر السلطة! ، في الزمار يبدو عاطف أكثر واقعية فهو يقتل الانسان في مقابل بقاء السلطة، وحين تشاهد النهاية تتصاعد عليك موجات الحزن من تلك الأرض المخضبة بدماء من قتلتهم السلطة عبر آلاف السنين ، مريم وحسن هما مجرد شخصين في سلسلة القتل الغذائية للسلطة .
حسن يحاول دائما الهروب، ومريم دائما في دائرة القمع لا تحاول الهروب، حسن يفشل في الهروب من المصير المحتوم وأيضا مريم! ، وعبد الله صديق حسن المثقف لا يفعل شيئا حيال الأمر، حتى أن عاطف الطيب تعمد عدم ظهوره بأى شكل في النهاية، فقط امرأة ريفية تصيح ” ليه تضيع عمرك يا حسن يا ولدى ؟!  ” ، فيما يشاهد الجميع المشهد، حسن ومريم لا يمكن أن تجزم أن علاقة حب بينهم تلوح في الأفق أولا لأن القتل قتل الحب الذى كان من الممكن أن يولد مع الأيام، وثانيا لأن التعاطف الذى يكنه المقهورون هو شيء باق رغم كل شيء فتجد المقهورين والمهمشين يحاول كل منهم ان يواسى الآخر ويخبره  أن في نهاية هذا الطريق هناك أمل، لكن السلطة تقتل الأمل .
الفيلم هو من أفضل أفلام عاطف في الرؤية السينمائية وتكوين الكادرات، ورغم ذلك فلا يحظى بشهرة كبيرة كأفلام أخرى له، لعل السبب هو إشكالية العلاقة بين المركز والهامش، بين المدينة والريف، بين القاهرة والصعيد في مصر، فالتهميش لا بد منه في مصر. هو قدر لكل سكانها فيما عدى القلة القليلة التي تستطيع أن تنجو من القمع والتهميش إما بالهجرة أو بالتوائم مع السلطة .
وانت تشاهد الفيلم لا إراديا تستدعى مأساوية الحياه التي عاشها صانعوه الإثنان ( عاطف الطيب وعبد الرحيم منصور ) فعاطف الذى عانى كثيرا بسبب السلطة ومنعها لأفلام له والتضييق عليه من حيث منع المنتجين ، وعبد الرحيم منصور الفتى الصعيدي الذى جاء للقاهرة في نهايات الستينات ورفض أن تبتلعه تلك المدينة وظل على وفائه للهامش الذى جاء منه، حتى في ديوانه الأشهر ( الرقص على الحصى ” رباعيات الميلاد والحب والموت ” ) تجده دائما يدور في فلك الهامش يحاول أن يعبر عن ، وكذلك عاطف لطالما كان مغرما بالمهمشين، كان يعرف أنهم يستحقون أفضل، يبدو  الفيلم وكأن زمار عاطف الطيب يغنى لحنا حزينا من كلمات عبد الرحيم منصور ، ولا أجد أفضل من أبيات الشاعر عبد الرحيم منصور لكى أختم بها محاولة قراءة في مأساة عاطف الطيب وعبدالرحيم منصور، والتي قد تكون مأساة  البشرية جمعاء .

حيث كتب :
شريد يا قلبي وانت مليان ضنا وجروح

سرقت عمرك وروحك  ويا روح ما بعدك روح

سارق وانا المسروق وغروبي زي شروق

جوايا زنزانة..  حواليا زنزانة

واخر حصاد العمر عمري في الخلا مطروح .  

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.