الرئيسية | بالواضح | سبعة أيام في مراكش | حمودي عبد محسن – السويد

سبعة أيام في مراكش | حمودي عبد محسن – السويد

حمودي عبد محسن – السويد

لم يكن قصدي أن أسافر إلى مراكش مع صديقي البروفيسور حسام جبر إلا أن أبتعد عن ألمي عن ما يمر به العرب من بلوى ووجع وأسى تدفع ثمنه شعوبنا البريئة بقتل بعضهم بعضا في محاربة الإرهاب، بل وقد جَرت الأحداث بعضهم للإرهاب، لذلك ضاقت في ذاكرتي الأحلام عن عروبتنا التي تأتي وتتبخر، خاصة وقد كثرت وطالت الويلات، وطال أمر الدمار والخراب والقتل.

ـ يجب أن أسافر إلى مراكش.

هذا ما صرحت به لنفسي، إذ لم يعد من الممكن أن أتواصل مع مأتمي وعزائي وسخطي بمرارة على ما يجري من ويلات، وأنا أتلفع بالحزن الدائم، إذ لابد أن أنهض من حزني، وأسافر إلى مراكش كي يولد لي حلم صامت.

هذا ما حدث في 11.03.2017 حين سافرت مع صديقي البروفيسور إلى مراكش. هناك اكتشفت حلمي الذي باغتني، وراح يدثرني بعطر أنسامه الطيبة، ويشربني رحيق الفرح، ويغسلني بضيائه.

اليوم الأول : هذه مراكش

هذه مراكش الوديعة التي تعني بالأمازيغية بلاد الله أو أرض الله، ويطلق عليها عاصمة النخيل، والمدينة الحمراء!

هذه مراكش البهية التي تسطع تحت الشمس، وتجيش زاهية بالألوان والضياء!

هذه مراكش مرحة، أثيرة بأصواتها المنغمة كأنها خفق أجنحة في السماء!

هذه مراكش تتجاوب مع همومي الثقيلة كي تترع عيني بحدائقها الزاهية، وتملأ قلبي المضطرب بالصفاء!

هذه مراكش أراها هادئة آمنة تتجلى في حلمي من زهر ونخيل وضروب من نباتات.

أراها ودودة ساكنة في الجمال، موغلة بأناشيد ساحرة.

أراها شمسا بازغة لا تغيب.

هي في عيني نور من شعاع، أديم النظر إليه كأنه مخبأ في الضياء!

مراكش تسمو بوجهها، وحلتها كأنها عروس حسناء.

خاصة وقد تقدمت إلينا خارج المطار السيدة حكيمة ذات الشعر الأسود الناعم الفاحم، ذات الوجه الطفولي البريء بملامحه الجذابة، وقد ارتسمت عليه ابتسامة أنيقة تتناسق مع عينيها السوداويتين البراقتين، وهي تقول بصوت خافت لطيف:

ـ أهلا بكما في بلدكما الثاني المغرب!

لقد حركت هذه الكلمات شغاف قلبي، وترقرقت الدموع في عيني دون أن تندفع من محاجرها بل حبست نفسها فرحا غير أن البؤبؤين ركزا مذهولين على ملامح هذه الوجه الودود الحنون، ليطويني صمت رصين يعتريه الخجل لأنني لأول مرة أكون نزيلا هذه الأرض التي ستسقينني نورا من حدائقها، وتلبسني ثوب نرجس أبيض، وتزركشه ببنفسج وشقيق وبهار. هذه لأول مرة تطأ قدماي أرضا تكاد تكون لي فيها بهجة مقدسة.

ها هي ابنة المغرب الشابة الرشيقة القوام تقودنا إلى سيارتها البيضاء، وتنطلق بنا في شوارع نظيفة تمتد على جوانبها صفوف من أشجار النخيل الفارعة بتيجانها الخضراء التي يتدلى منها السعف، وتداعبه أنسام تحت أشعة الشمس المشرقة.

وصلنا إلى فندق الديوان في مركز المدينة الذي سنقيم فيه أسبوعا، ووقفنا نتأمل واجهته الأمامية التي كانت توحي إلينا أنها طراز يمزج ما بين القديم والحديث خاصة بابه الخشبي الكبير الذي كل شئ فيه يعود إلى صنعة فنان ماهر امتاز بحسن اختيار الزخرفة. لم تمض لحظات ، وقد صعدنا عدة درجات إلى مدخل الفندق، لنندلف إلى إيوان واسع يثير الدهشة بأعمدته الضخمة التي قد تكون قد شيدت من حجر صلد حيث كان بين عمود وعمود فسحة تتوزع عليها أرائك حمراء للجلوس بينما كانت الجدران قد رصعت بفسيفساء ملون براق ما بين أحمر وأصفر وأخضر وذهبي تزهو عليه كتابة وزخرفة زهور بجودة وأناقة ودقة، فأنني أرى هذا الفن الآن الذي تعود جذوره إلى السومريين، وأبدع فيه المسلمون حيث أظهروه في جدران المساجد والقصور والعمائر والقباب والحمامات، وكذلك في الممرات والسلالم بأشكال تكعيبية وخماسية وسداسية. هذا الانبهار جعلني أرفع عيني إلى أعلى لأرى سقف الإيوان حيث كانت تتدلى منه ثريا كبيرة جميلة. كان الإيوان بديع التصميم والبناء بسعته وارتفاع سقفه. هذا الإيوان كان يؤدي إلى صالة مطعم، ويؤدي أيضا إلى فناء عبر باب محكم الصنع والإتقان مرصع بزجاج مموه باللون الأبيض. لم تمر لحظات وأنا اندفع وحدي إلى هذا الفناء لأجد نفسي على أرضية من الرخام والجرانيت الأزرق الغامق في حديقة زاهية نظرة مزوقة بأنواع الأشجار التي تبتسم بديعة في حسنها وتغرد على أغصانها عصافير، وأخرى تحلق في الهواء أما في نهايته فشيد حوض سباحة يتناسب مع ذوق السياح الأوربيين. هذا الفناء كان أنيقا في نظري، وقد جلب إلى نفسي السرور بألفة بشوشة صامتة، وتناغم بمهارة مع انبهاري.

عدت أدراجي من الفناء لأقدم أوراقي مثلما فعل البروفيسور إلى موظفي الفندق، ثم رافقنا أحدهم إلى المصعد الكهربائي، وصعدنا إلى الطابق الرابع، ليذهب البروفيسور إلى غرفته رقم 416، واستقر أنا في غرفة رقم 412، وقد اتفقت مع البروفيسور أن نلتقي في الإيوان بغية الاتفاق على برنامجنا اليومي.

مرت فترة قصيرة، وقد التقينا في الإيوان، وكان مسبقا قد وضع البروفيسور برنامجا حسنا لاختيار الأماكن التي سوف نزورها بغية الإطلاع على معالم مراكش الثقافية، وتراثها التاريخي، وإرثها الكوني المتميز. هذا وقد كان البرنامج الذي اتفقنا عليه زاخر بالحركة والنشاط محددا بعدد الأيام التي سنقضيها في مراكش.

ثم رحنا نتجول في شارع محمد الخامس الذي كان يزهو بالمقاهي، وحركة الناس الحيوية النشطة، وكنا كلما سألنا أحد المارة أو صاحب دكان عن شيء، بادر هذا إلى التوضيح بكل سرور. حينئذ أدركنا أننا بين شعب حنون حريص يحترم الزائرين والضيوف.

اليوم الثاني: ساحة الفناء

وصلنا ساحة الفناء القلب النابض لمراكش، والوريد الذي يضخ البهجة في النفوس من الحشود الهائلة لمختلف الأجناس البشرية التي أقبلت للترفيه، والزيارة كأنها مزارا للحجاج. جاءت تسمية الساحة من كلمة فناء ـ وهو مكان واسع لاستراحة القوافل الآتية من مسافات بعيدة، لبيع بضائعها، وشراء ما تحتاجه لعودتها، فهي ساحة تجارة ولقاء وتبادل أطراف الحديث عن تلك الرحلات الطويلة الشاقة، التي لربماـ واجهت تلك القوافل صعوبات كثيرة ـ وهذا قد أدى أيضا إلى سرد القصص والحكايات الغريبة العجيبة سيما وهي تقع على حافة المدينة القديمة، إذ لو راجعنا تاريخ المدن القديمة العربية سنجد مثل هذه الساحات على حافاته، خاصة وإن مدينة مراكش تحيطها جبال الأطلس من الشمال والشرق على مسافة بعد 20 ميل التي خلف هذه الجبال تمتد من الشرق صحراء كبرى مترامية الأطراف، هذا وإن سفوح ووديان هذه الجبال تنتشر فيها القرى الأمازيغية. لم أعرف لماذا البعض يطلق عليها ساحة ـ الفنا ـ دون الهمزة، عل ـ ذلك يراد منه أن تربط التسمية بمعان أخرى، فلا أعتقد أن التسمية لها علاقة بالفن أو الأفانين أو شجرة الفنا أو الفناء نقيض البقاء أما أنها اتخذت لتكون تجمع الجيوش للحروب أو الاستعراض العسكري أو إنزال العقاب من الخارجين على القانون وتعليق رؤوسهم في الساحة على أسنة الرماح، فهذا غير مستبعد على الإطلاق لا سيما وتشير أغلب المصادر أنها اعتمدت كساحة في عهد المرابطين، ثم شيد بعد قرن بالقرب منها مسجد الكتيبة.

كانت الساحة تلتف على أطرافها الفنادق والمطاعم والمقاهي والدكاكين، ثم تنتهي بساحة صغيرة تصطف فيها عربات تجرها الجياد التي غالبا ما يركبها السياح للمرح، وتؤدي من جهتها الجنوبية والغربية إلى المدينة القديمة عبر أزقة ضيقة، وأسواق مزدحمة زاهية بمنتجات تراثية معروضة في محلات متنوعة بمختلف البضائع من الملابس والمواد الغذائية والتوابل والمخللات والأقمشة والجلود والحلويات ، وليس مبالغة إذا قلت أن الزائر سيجد ضالته التي يبحث عنها في هذه الأسواق.

أجل، كنت أرى في هذه الساحة الشهيرة طقوسا تراثية شعبية تغور في تاريخ وحضارة مراكش ، يعج فضائها الواسع بالبشر، فهنا حشد من الناس يتفرج على حركات مثيرة لمربي القرود ، وليس بعيدا عنه يستعرض مربي الأفاعي تمطي أفعاه على عنقه دون خوف، ويغوي الزوار لتجربة هذه الحركة، وهناك عجوز تقرأ كف سائح، وهي تترنم بصوت خافت، وتبعث في نفسه الفرح أن مستقبله زاه، وأنه سيكون من الأثرياء، وتلك فتاة تقدم حركات بهلوانية مثيرة. ذلك كان عالما أيضا يضج بأصوات البائعين المروجين لأنواع المأكولات والعصائر من المطبخ المغربي، وفي نفس الوقت كانت تتعالى أنواع مختلفة من أنغام الموسيقى الشعبية لفرق عازفة وهي ترتدي ثياب تقليدية مغربية بيضاء وزرقاء.

فجأة اقتربت من فرقة (الدقايقية) بعددها الكثيرة في منتصف الساحة، وكانت تعزف إيقاع (الدقة) المراكشية المشهورة على آلات وأدوات موسيقية متنوعة بطقس شعبي فلكلوري بهيج، وقد تركت البروفيسور وعائلة السيدة حكيمة التي كانت ترافقنا في هذه الجولة. كان العازفون يترنمون بأغنية تراثية قديمة تتناسسق مع الإيقاع الذي أوحى لي أنه بطيء وهادئ في بدايته، ثم ما لبث يتصاعد تدريجيا بسرعة مما جعلني أندمج معه روحيا بسحر غريب وغامض، وقد ولد بغتة شيئا أثيرا باهرا في داخلي أشبه بلهب يدفعني أن أكون أنا الذات الوحيدة في حريتها دون قيود. آنذاك كنت أرى العالم من هذه الساحة الأثيرة في لحظة خالدة، وأبحر في رؤية تأملية مباغتة فيها نداء:

ـ ارقص في طقوس مراكشية خالدة!

تقدمت إلى أمام تلقائيا وعفويا. أردت أن أشعر بأنني طائر يحلق دون هموم، دون خجل من شيء، بل شجاع مقدام يقتحم كل أسوار العالم. ها أنا أتخلص من ألمي، وأغور في حياة أخرى، وأتجدد جريئا منتعشا أحطم حواجز الصمت، وقد أصبح النداء صدى يرن في ذهني:

ـ ارقص على إيقاع الدقة المراكشية!

ضربت الأرض بقدمي،ورفعت الثانية قافزا على الأولى من الفرح. نعم كنت أرقص رقصة الحجل من الفرح ثم رفعت يدي اليمنى إلى أعلى باسطا  اليد اليسرى إلى أسفل، وأدور حول نفسي ناسيا جسدي، إذ كنت أحلق دون جناحين إلى أعلى، وأرتفع إلى الأعالي دون قلق واضطراب، وقد أجبرت جسدي أن يتخلص من ثقله الدنيوي حيث راحت قدماي تتعجلان الحركة مع إيقاع العازفين دو أن أدرك من أنا في تلك البرهة الزمنية. اكتشفت حينها أن حشودا من الناس تجمعت حول الفرقة وحولي مدهوشين، وراحوا يلتقطون الصور بكاميراتهم وأجهزتهم الالكترونية اليدوية مستغربين من هذا الراقص الأنيق الهندام يرقص رقصة الحجل تارة ثم رقصة المولوية الصوفية تارة أخرى بينما كان يتصاعد النداء في أعماقي:

ـ أهلا بك في بلدك المغرب الثاني!

اليوم الثالث: شلالت أوزود

انطلقت بنا سيارة أجرة في الصباح قاصدين شلالات أوزود، يقودها شاب دمث الأخلاق، حسن الكلام اسمه علي، وقد استغرقت رحلتنا ثلاثة ساعات عبر مدن صغيرة وقرى، وكنا نستمع إلى قصص غريبة كان يرويها لنا علي بنبرة هادئة عن بعض السياح العرب الذي يقوم بنقلهم من المطار إلى البيوت الفاخرة ثم إلى أماكن اللهو غير مكترثين أن يعرفوا شيئا عن تراث وجمال طبيعة المغرب، وقد استغرب أن يكون لنا هذا الاهتمام بالتوجه مسافة 195 كيلومتر لرؤية شلالات أوزود، ثم كان يسحب أنفاسا عميقة، وهو يقول بحسرة:

ـ نعم، يأتون ويغادرون دون أن يعرفوا شيئا عن المغرب.

كنا نتوقف بين فترة وأخرى للاستراحة وشرب القهوة التي يطلق عليها المغاربة (الكحلة) وبينما كنا أنا وعلي من عشاق هذه القهوة نجلس في المقهى ينفرد البروفيسور متجولا متأملا المناظر الطبيعية الخلابة الزاهية بامتداد سلسلة الجبال التي تفصلنا عنها سهول باسمة تعبق أرضها بزهور برية تتلألأ تحت أشعة الشمس، تهب منها أنسام لطيفة باردة. كانت الأرض بهية بتربتها التي أنتجت بساتين مزدانة بالأشجار والمياه، وترفرف فوقها أنواع الطيور بألوان زاهية حيث كنا نرى الكثير منها تغرد بأقفاصها المعلقة بالمقاهي أو تتبختر أمامنا وهي تطلق أصوات أشبه بغناء.ذلك كان يملأنا فرح لا مثيل له، ونحن ننتشي رائحة الزهور الزكية، ويزهو في عيوننا سحر الجبال والوديان والهضاب والتلال والسهول والبساتين والحقول الصغيرة كأن كل شئ يصنع أسطورته الخفية في صفاء وهدوء وفخر.

كنا نحس بعظمة هذه الأرض، ومأثرة أهلها في حريتهم وحبهم لهذه التربة التي بذرت هذا الجمال في ترنيمة تاريخية طويلة، إذ كل شيء كان يتناغم مع بساطة العيش والتواضع والكرم محافظين على تراثهم الذي ورثوه من الأجداد. ذلك كان ممتعا لنا أن نرى شعبا يستمتع ويبتهج بجمال الأرض، ثم أليس الأمازيغي تعني النبيل الفاضل. تلك كانت ثمرة من ثمرات رحلتنا إلى شلالات أوزود أن عرفنا روح هذا الأمازيغي المرتبطة بجمال الأرض.

وصلنا قرية تانا جميلت، وحين توقفت السيارة نزلنا منها بعد أن تركناها في الكراج وسط دهشة أن نرى القرية قابعة بين سلسلة جبال الأطلس المتوسط. تلك كانت لحظة متوهجة بالحماس أن نكتشف تكوينا أثيرا تتدفق فيه المياه الصافية، ويزخر بخضرة أشجار الأرز والبلوط والصنوبر، ويزدان بالطيور التي كانت تحلق، وترفرف فوق رؤوسنا، ونحن نسمع أصواتها المغردة. كانت القرية تتناثر فيها المطاعم والمقاهي والدكاكين التي كانت تبيع الألبسة الصوفية الأمازيغية، وتتناثر فيها البيوت الريفية التي تمرح فيها قليلا من الماشية والدجاج والديك الرومي لكن كانت دهشتي أن أرى أمرأة بثوب طويل زاهي الألوان قد وشمت خديها بإشارة+ . نعم، تلك كانت لحظات آسرة أن نرى شعبا يعيش ببساطة ومرح وسلام، وأنا أتذكر معنى كلمة أمازيغي ـ الرجل الحر أو صاحب الأرض ـ التي قرأت عنها في الكتب، فها أنا أنتعش برؤية مناظر أرضه، وأنتعش بعبير أنسام عذبة ترافقها رطوبة خفيفة. مشينا مخترقين بساتين الزيتون واللوز ثم عبرنا جسر خشبي فوق جدول صغير يزدان بزنابق بيضاء وصفراء وسط طحالب وأشنة مائية. كان خرير الماء يداعب سيقانها النحيلة، فترتعش تيجانها اللامعة تحت أشعة الشمس الطافية البارزة فوق سطح المياه التي ما لبثت هذه الزهور تتموج مع جريان المياه الهادئة أشبه بإيقاع عذب تناغمي مع سحر جمال الطبيعة. بعد فترة قصيرة وجدنا أنفسنا في فسحة تنتصب فيها شجرة بلوط ضخمة وحيدة، مسنة معزولة، ذات جذع سميك بلحاء ومادي، بأغصان متفرعة في كل الاتجاهات تفرش نفسها في الهواء متباهية، وتنحني قليلا إلى أسفل، ترتعش أوراقها الخضراء حيث كانت تداعبها نسمة لطيفة. فجأة حلق طائر رمادي صغير من بين نهاية أحد الأغصان، وراح يحلق بعيدا في السماء. لم أكن أعرف أي نوع هذا الطائر من أنواع الطيور الجبلية. اقتربنا من الشجرة، وقد استولت علينا دهشة لا مثيل لها أن نرى روعة منظر مهيب أجبرنا على الصمت، إذ كانت تمتد أمامنا سلسلة جبال خضراء تتماوج على مدى النظر من قمم إلى سفح، ثم من وديان إلى منحدرات. كان نظرنا يمتد إلى خيال حلم دنيوي محفز أن تتشبع به عيوننا، وليغزوها سحر يكاد يكون أسطوري خالد يسمو بخصوصيته وتفرده بعيدا عن المدن المكتظة المزدحمة كما لو أن الحياة تفيق هنا من جديد. في هذه اللحظة تقدم البروفيسور مقتربا من حافة الفسحة التي تطل على الوادي العميق الطويل الذي كان يهدر فيه الشلال، فرجوته أن لا يتقدم أكثر لأن حافته كانت ندية.

تلك كانت برهة رائعة، وإطلالة أمام منظر فاتن أثير لأنه وحدنا معه بأبهى وأجمل ما تحفظه الذاكرة أن نطيل الوقوف أمام هذا المشهد الكوني الذي لم نر مثله من قبل، فهو أشبه بلوحة خضراء في أرض بهية مغبوطة بالجمال بضياء وظلال تشرق في الذاكرة، تطفح في الإدراك أننا أمام الدفق الأرضي بجماله الفائق، بشموخه، بكماله.

اقترب منا طفل، وقد تحدثت معه، أدركت أنه لم يفهم لهجتي العراقية، فصار لنا دليل طريق ورفيق يمتاز بمهارة الحركة، ومعرفة بشعاب الجبال، فأرشدنا إلى طريق قصير كي نمتع نظرنا، ونكتشف أشياء مجهولة. مشينا بحذر وراءه من جهة اليمين ونحن نقف تارة ونتأمل الشلال تارة أخرى، إذ صرنا نرى الشلال بوضوح، وهو يدفع مياهه من أعلى إلى أسفل هادرا بقوة إلى وهدة، ثم ينساب من جديد إلى أسفل ليبلغ ارتفاعه 110 متر، الذي صبيبه ينابيع نهر العبيد حيث ما يلبث هذا النهر أن يتحد مع نهر أم الربيع الذي يبلغ طوله 600 كيلومتر، وهو أطول نهر في المغرب.

نزلنا إلى أسفل ببطء، وباحتراس في منحدر حاد الذي استغرق وقتا ليس طويلا ثم تجاوزنا صخورا فوق المياه المنحدرة من الشلال، وعبرنا جسرا من جذوع أشجار، لنصعد إلى أعلى ونتحول إلى الجهة الثانية من الوادي، وندخل مطعما قد شيدت جدرانه وسقفه من القصب.، فصرنا نرى الشلال أمامنا من بداية انبثاقه إلى نهايته حيث كانت تنزل مياهه إلى وهدة بعدة فروع ثم إلى الوادي بعد أن تتوحد بهديرها مسترسلة متواصلة لتكون مجرى مائي صافي نقي.

جلسنا في المطعم، وقد تركنا الطفل إلى عالمه المرح، فحجزنا الأكل، ورحنا نتأمل شلال أوزود الذي هو بالأمازيغية يعني الرحى الذي يدور بقوة دفع الماء، والبعض يرجع معناه لكثرة أشجار الزيتون القريبة من الشلال. على حين غرة ونحن في تأملنا الصامت لاحظنا طيورا تقترب مرفرفة من الشلال، وتصفق بأجنحتها قرب المياه كأنها تداعب رذاذ المياه أو تشرب منه ثم تحلق مبتعدة عن المياه. هذا، وقد أطلنا جلوسنا في المطعم المكتظ بالسياح خاصة وقد راحت غيوم تحاول أن تحجب الشمس عن الجبال البعيدة، وتتلاقى مع قممها لتبهر عيوننا بمنظر أعمق مما ينبغي، ولتكون الشمس ذهبية بنفسجية فريدة في ضيائها الخافت، وكذلك لترشف وجودنا زخة خفيفة من المطر.

بعد استراحة الغداء في المطعم صعدنا إلى أعلى عبر دكاكين منتشرة على حافة طريق جبلي ملتو، تبيع منتجات محلية من التحف والملابس الصوفية بألوان زاهية بعضها مزركش بالورود، فوصلنا إلى أقرب مكان زلق منحدر من الشلال. آه، يا لها من إطلالة رائعة! كنا نرى الشمس قد توردت منبعثة من جديد، سابحة في السماء، وقد انسحبت الغيوم التي حجبت الشمس لفترة وجيزة بوشاحها الرمادي، فصارت الآن تلامس أشعتها قمم الجبال، وأغرقت العالم في تألق بأفقه، وبعده الجمالي، إذ راحت كل شجرة، وكل حجر ملتصق بالأرض يمتص ضياء الشمس. هذا أصابنا بدهشة بالغة لأن في قلوبنا حنين لا مثيل له إلى الشمس مثل حنين الأرض إليها. كان دوي مياه الشلال الساقطة، والمندفعة إلى أسفل بسرعة وقوة هائلة على شكل قوس ينثر رذاذ خفيف ناعم بارد على وجوهنا، وتدغدغه قطرات براقة متلألئة بحنان. بعد لحظات واصلنا صعودنا، لنجد مجموعة من السياح يقفون في طريق المشي، وهم يتهامسون، ويتطلعون إلى قمة جبل مندهشين برؤية قرود تقفز مرحة ثم تتعلق بأغصان الأشجار ثم تقفز ثم تتطلع حولها، وتنظر إلينا.

وصلنا إلى مكان السيارة، فصعدنا إليها، وكانت تراودنا أفكار عديدة عن جولتنا التي منحتنا معرفة بعالم خفي قابع بين الجبال. قاد السائق السيارة بمهارة عالية عائدين إلى مراكش، وكانت تتردد الكلمات صامتة في داخلنا:

ـ هنا، في هذه الجبال كدح الأمازيغي الأول بيديه الخشنتين، وقد نز جبينه بالعرق، ونبض دمه وهو لا يكل من التعب. هنا كدح الأمازيغي حين شيد الطواحين، وحين استخدم المحراث ليزرع، والمنجل ليحصد، وحين كن العذارى يقطفن الزهور، وحبات الزيتون، ووجوهن تطفح بالنعيم والسرور. هنا بذر الأمازيغي انتماءه الأول في صفاء روحي تلاءم مع بساطة العيش، وانبعث نشيده الأثري الجليل الخالد حين كانت الدببة والأسود والنمور والأيل والغزلان تمرح في ذرى الجبال وغابات البلوط والصنوبر والأرز.

اليوم هو نفسه الأمازيغي تنطق روحه نفس النقاء الذي توارثه من الأولين في كل شفق فجر جديد، في كل شفق غروب. هو نفسه لا يذوي أو يذبل نقاء روحه منذ أزمان سحيقة غابرة في هذه الأرض الغنية المفرطة بالسخاء، فثمة تواصل للروح الخالدة منذ أن تفتحت، واندفعت من شرنقتها إلى الوجود، فها هو الأمازيغي راضيا مقتنعا ببساطة العيش لأن روحه تنطوي على حب الأرض.

اليوم الرابع: حكايات قصر الباهية

كانت السيدة حكيمة في كل يوم تلتقي بنا ببشاشتها وحيويتها تسألنا هذا السؤال المتكرر:

ـ إنشاء الله مرتاحين في بلدكم المغرب؟

ثم ذهبنا متجولين في طرق المدينة حذرين من ازدحام السيارات، والمرور الخاطف للدراجات النارية التي يقودها الفتيان والصبايا ببراعة، ونحن نتفادى الاصطدام بها، إذ لم نكن قد اعتدنا هذه الحركة المرورية المزدحمة بعد، فكنا متوجهين إلى قصر الباهية الذي قرأت عنه الكثير حيث كان دارا للحاج موسى بن أحمد البخاري، وهو الحاجب الملكي، ولقب الصدر الأعظم أبان فترة حكم المولى الحسن. وقد ترعرع ابن الحاج موسى وهو أحمد في هذه الدار التي كانت تجاورها منازل، وتحيطها رياض تزدهر فيه أشجار النخيل والزيتون والتين والرمان، وقد أحمد قضى فترة صباه فيها، وذات مرة وهو في عز شبابه رأى فتاة في غاية الجمال اسمها الباهية تتجول في رياض أهلها بعد أن خرجت من قلعة والدها  للتنزه في منطقة الرحامنة القريبة لمدينة مراكش آنذاك، وقد سلب جمالها شغاف قلب الابن أحمد الذي حالما وقع نظره عليها، فابلغ والده برغبته الاقتران بها، وهذا ما حدث بالفعل ليكون زواجا سعيدا مفعم بالحب والود والحنان، وكان للزوجة باهية تأثير كبير في إرساء النظرة الجمالية عنده خاصة وإنها ترعرعت في بيت طغت عليه أجواء العلم والمعرفة والأدب والتقوى والمجد والنفوذ، فكانت باهية قد ألمت بالشعر الوجداني الأندلسي والموسيقى والفن  كما تعلقت منذ نشأتها بألوان الزهور البراقة الزكية الروائح من الخزامى والزعفران والبنفسج، وكذلك تعلقت بشدو الطيور في الصباح مثلما تعلقت بخرير المياه المنسابة في السواقي، فمن المتتبع لشخصية باهية نجد كان لها شغف كبير بالحضارة الأندلسية. هذا وقد استطاعت أن تكون لشخصيتها تأثير في ذوق بناء القصر سيما وأن أحمد الذي صار يلقب با حماد بعد وفاة والده ولتتفتح أمامه سلطة جديدة بعد وفاة المولى حسن عام 1894، ويخلفه ابنه عبد العزيز الذي لم يكن عمره آنذاك الرابعة عشر عاما، وبعض المصادر تشير إلى اثني عشر عاما، فتولى أحمد زمام الوصاية في إدارة شؤون الحكم فصار يلقب بوزير السلطان،  والصدر الأعظم، وهذا ما جلب له الثراء والسلطة والشهرة خاصة وإن بعض الباحثين يشيرون إلى أنه اتصف بحسن التدبير والدهاء والحزم والفطنة والقسوة أحيانا، وقد اهتم بالعلماء وقربهم إليه ثم وكانت وراءه زوجة متعلمة مثقفة شديدة الذكاء التي كان لها دور جمالي وروحي في جعل با حماد يتعلق بها، لذلك شرع ما بدأه والده عام 1866 في توسيع الدار القديمة خاصة وإن والده وفاه الأجل. أجل، استدعى با حماد المهندس المغربي البارع           محمد بن المكي المسفيوي الذي كان يجيد الهندسة المعمارية، وفنون صناعة الخشب وفن النقش على الجبس مع أمهر الصناع والحرفين في البناء والزخرفة والنقش من مختلف حواضر المغرب، وتبدأ عملية تحويل الدور المجاورة إلى توابع للقصر الرئيسي الذي هو قصر الباهية، وليكون القصر تحفة فنية ـ معمارية تتألق بتجليات تقاليد أهل المغرب التي تمتزج بأصالة النظرة الجمالية للطبيعة والتاريخ المعاش، وليسمو اسم القصر باسم الزوجة النبيلة الفاضلة مجسدا هذا الحب الخالد لصاحب السلطة الأولى لزوجته ليس فقط كذكرى وجدانية وإنما ليتردد أشبه بصدى يترنم به العشاق، فقد استمر تشيد القصر ست سنوات ( 1849 ـ 1900 ) متواصلة من العناء الشاق ليأخذ دقته، وحداثة طرازه آنذاك مندمجا مع عراقته المغربية متوجا اسم الباهية.

اقتربنا من المدينة القديمة بالقرب من ساحة الفنا، لنقف أمام باب قصر الباهية الذي تلتف حوله فروع لأزقة أسواق تضج بالسياح، ونحن نرى حشودا من السياح تدخل من باب ضخم مما استدعانا ذلك أن ننتظر الدخول، وفي نفس الوقت رحت أتأمل جداره المتين الذي شيد بالحجر والآجر، وهو يتوافق مع العادات الشرقية الإسلامية، فانا الذي أتطلع إليه من الخارج لا أستطيع أن أرى ما في وراء هذا الجدار العالي، وقد أراد مشيد القصر أن يكون هذا الجدار أشبه بسور للقصر، ولم أر أيضا فتحات كبيرة تتيح من خلالها رؤية ما في الداخل، وكذلك لم أر دفاعات عسكرية لحماية القصر كالأبراج مثلا مما أوحى لي من أول نظرة أن هذا القصر هو قد شيد على الطراز الشرقي الإسلامي. حينئذ بدأ ذهني  يغور في تلك الحكايات التي ترويها بعض النصوص عن أسرار هذا القصر، فلم اعتبرها أحداثا وقعت في القصر لأن أغلبها لا تستند إلى مصادر دقيقة، ولذلك اعتبرتها مجرد حكايات  وأقاويل لا سند لها تناولتها الألسنة، وتوارثتها الناس نقلا دون أي مصدر موثوق بالرغم من أنها تشيد بالفن المعماري للقصر، إذ منها ما يتداول أن الباهية كانت تعشق الغناء والموسيقى، وتلبية لرغبتها كان با حماد يجلب لها فقط العازفين والمغنيين العميان، وإذا لم يكونوا عميان، فيفقئوا عيونهم كي لا يروا زوجاته الأربعة وجواريه الأربعة وعشرين، ثم كان له ستة آلاف خادم، وقد أمر با حماد بخصيهم، وعندما وقفت عند هذه المعلومات المشوهة رحت أردد مع نفسي:

ـ هؤلاء الكتاب يريدون أن يجعلوا من قصر الباهية قصر عميان وخصيان.

ولم يكتفوا في هذا وإنما راحوا يوصفون الباهية بأنها متسلطة على رقاب الزوجات الثلاثة كما هي متسلطة على الجواري مثلما با حامد لا عمل له سوى أن يخصي الخدم الجدد ويفقأ عيون الموسيقيين كأنه طاغية، ويوصفونه أيضا أنه كان قصير القامة، بطنه تمتد مترا إلى أمام من فرط السمنة لأن شهيته مفتوحة ليلا ونهارا. هذه النصوص لا تليق بالبحث والدراسة على الإطلاق لأنها غير موثوقة ويغلب عليها عدم المسؤولية في تناول معلما تاريخيا عريق يرمز إلى الثقافة المغربية، ولأنها غير تحليلية في دراسة الواقع الاجتماعي آنذاك، ولا تتناسب مع كينونة با حامد وزوجته الباهية صاحبا هذا الذوق الرفيع في بناء هكذا قصر يزدهر بالجمال، إذ من يشيد مثل هكذا قصر لابد أن تكون له ثقافة جمالية إبداعية التي امتاز بها مهندسه ومن يقف وراءه.

لم تمض برهة طويلة، وإذا بنا ندخل القصر، ونسير في ممر فناء مكشوف طويل تتوزع على جانبيه أشجار ونباتات وزهور ثم وقفنا لحظات مدهوشين قبالة واجهة القصر، إذ أوحى ذلك لنا قدم هذا القصر. بعدئذ دلفنا إلى ردهة القصر، وإذا بي أفاجأ مبهوتا لروعة ما أراه حيث الجدران المزخرفة بالنجوم الدائرية والورود والنباتات. جدران لها فتحات صغيرة ليتخلل منها ضوء الشمس في النهار وضوء القمر في الليل أما السقوف فكانت معقودة بالخشب المنقوش بدقة متناهية. ذلك جعلني أقف متطلعا متأملا كما لو كان كل شيء عبارة عن لوحة فنية معمارية رائعة ابتدعتها اليد المغربية، وقد أخذت بذهولي إلى عالم خفي. هذا، وقد وجدت أن هذا التصميم البديع  يتوافق مع التقاليد الشرقية الإسلامية في التمام والكمال، فتعلقت عيناي بتلك الزينة المحفورة على الخشب برقة فريدة، والمزينة ببداعة الألوان المتناسقة متكيفة مع ذلك الزمان.

فيما بعد ذلك رحنا ندخل قاعات نقشت على جدرانها كلمات مباركة بالخط الكوفي، وتطل بأبوابها ونوافذها المزخرفة بألوان زاهية متعددة تطل على صحن القصر بفنائه الواسع، لنخرج إليه عبر بوابة، فنجد أنفسنا في صحن مستطيل تتوسطه نافورة ماء رخامية، تحيطها من الجهات الأربعة أروقة بأعمدة كثيرة تعلوها أفاريز خشبية وأقواس. أرضيتها كانت من رخام ملون منقوش.

مشينا بعد ذلك عبر مجاز قصير تغطيه قبة مقوسة، لنجد أنفسنا في روضة زاهية بأربعة أحواض مغروسة فيها أشجار وزهور، ولها سياج رباعي الشكل تفصل بين واحدة وأخرى ممرات في غاية الأناقة. حينئذ اكتشفت أنني أرى الزليج المغربي المشهور الذي سمعت عن براعته ودقته، وألوانه الناعمة البراقة، وتشكيله الجذاب. ها أنا أبصره منظوما في جدران الأحواض وأرضية الروضة، وهو يفشي لي سر جماله، وضروب سحره مع ألوان قوس قزح وألوان الزهور من أزرق بلون السماء، وأبيض بلون الدرر، وأخضر بلون العقيق، وأحمر بلون الشقائق، وأصفر بلون أوراق الخريف، وأسود بلون الليالي العتمة العميقة، إذ كل هذه البراعة أبدعته اليد المغربية المحترفة في الفن مما جعلني ذلك أردد مع نفسي:

ـ الفسيفساء روماني، والقاشاني فارسي، والزليج مغربي في أحسن إبداع عجيب.

خرجنا من قصر الباهية مبهورين، ونحن في طريقنا لتلبية دعوة السيدة حكيمة إلى الغداء في بيتها، وأنا أترنم مع نفسي بصمت:

  يا قصر الباهية مضت عليك أزمان ودهور

وأنت ما زلت متشحا بمجد وبنيان معمور

أنت كالشمعة في الليل الصامت توقد النور

تمتع نظر السياح بحسنك وتبتسم  لك الثغور

فكأن شمس النهار ونجوم الليل فوقك تغور

وتحن الخواطر، وتبكي على أزمان القصور

أين أهلك؟ كأن لم يبق منهم إلا أنت المذكور

رياضك مزهرة بالأشجار وعطر الزهور

وفوق أغصانك البهية النظرة تغرد الطيور

أين سكانك؟ وأنت في حلة الزهر المنثور

كنت أتوق إلى رغبة جامحة لأتعرف على البيت المغربي المعروف بكرمه وحسن ضيافته، وحين وصلنا إلى بيت السيدة حكيمة استقبلتنا عائلتها بحفاوة لا مثيل لها من الترحاب، هم يرددون:

ـ أهلا بكم في بيتكم المغربي.

ذلك جعلنا نشعر بنبل هذه العائلة التي دار معها حديث متشعب وطويل عن جغرافية المغرب، وتاريخ نشوء مراكش، وكذلك توسع الحديث عن التراث المغربي والفلكلور المغربي، ثم جلسنا سوية للغداء، وإذا نفاجأ بصحن فخاري كبير يوضع على طاولة الغداء، ونحن ننظر إلى أكلة ( الكسكسي ) المغربية المشهور حيث حوت اللون الباهر، والرائحة الشهية، إذ بدأنا نتذوق طعمها اللذيذ الذي جعلنا نأكلها بشهية بالغة.

ثم فيما بعد رحنا نحتسي الشاي الأخضر وسط أجواء روح المحبة والتآلف كأننا نعرف العائلة منذ سنوات طويلة مما جعلت أنفسنا تبتهج لهذه الروح النبيلة التي تتحلى بها العائلة الكريمة. غادرنا البيت بتوديع بشوش متوجهين إلى الفندق، وقد انتابنا ارتياح ومحبة لهذه العائلة المغربية المتآلف السعيدة.

اليوم الخامس: مصيف أوريكا

انطلقت بنا السيارة في صباح هذا اليوم الخامس التي يقودها  السائق الشاب الوقور الصموت إبراهيم إلى مصيف أوريكا في رحلة فيها معالم شمس، وازدهار ثمرات رؤى، ومتعة نظر، وبهجة قلب. رحلة تحملنا إلى عبور آخر خارج حدود مراكش أي عبور إلى الجبال والخضرة والمياه والنسيم العليل، والسيارة بدأت تتجاوز محطة السكك الحديدية النظيفة البهيجة بسعة مدخلها، وعلو سقف بهوها، والتي يقابلها من الجهة الأخرى عبر ساحة كبيرة المسرح الملكي البهيج، ثم راحت السيارة تنطلق بسرعة حين دخلت شارع محمد السادس الطويل العريض الذي تكثر على جانبيه أشجار النخيل بسموها وألقها، إذ لهذه الشجرة وقع بهي حالما أراها، فهي تجعلني اشعر بالغبطة مما جعلني ذلك أقول في نفسي بعد تنهيدة صامتة مخاطبا إياها:

ـ أنت شامخة قوية تمتد جذورك عميقا في الأرض، تكافحين من أجل ازدهارك الحر والبرد. أنت يا شجرة النخيل تكافحين بصمت لا مثيل له، لا حدود له، ما أجملك أن أراك زاهية في المغرب، تعانقين الأرض بحنان!

ثم فيما بعد، ونحن نتجاوز شارع محمد السادس الذي يمتد عدة كيلومترات، ونتجاوز قرى، وقصور، وحدائق، ومزارع صغيرة، ومطاعم، وأبنية في طريق ملتو لتتضح لنا أننا ندخل إلى عالم جديد تسمو فيه الجبال. توقفنا للاستراحة في قرية صغيرة، فأثار انتباهي  أن أجدها أشبه ببستان من أشجار الزيتون والتفاح والرمان والمشمش والخوخ، تتورد في المياه العذبة الصافية. فجأة تقدم إلينا رجل كبير السن وهو يحمل على يده أنواع من القلادة والأسوار من الفضة والخشب الثمين النادر مما جعلني أقتني مجموعة منها بأسعار زهيدة كذكرى  ممتعة إلى هذه القرية التي استمالت قلبي ، ثم بعد استراحة قليلة انطلقت بنا السيارة من جديد إلى أوريكا.

هذه أوريكا بحوضها بين سلسلة جبال الأطلس ذات الانحدارات الحادة الذي يشمخ فيها جبل الأطلس الكبير بقمته (توبقال) والذي شكل حوضا يكلق عليه أوريكا. هذا الحوض يخترقه نهر يسمى أيضا نهر أوريكا الذي يجري هادرا بمياهه الصافية حيث كنت أرى حصى قعره، وأرى تثنيه فوق الصخور، إذ هذا النهر يتغذى من ذوبان الثلج في قمم سلسلة جبال الأطلس الكبير، لذلك فمياهه عذبة ناصعة البياض. أجل، هذه أوريكا قد أدهشت نظري واستمالت قلبي، إذ كنت أراها فاتنة ساحرة ساكنة في حضن الأطلس الكبير بروعتها، تغطيها خضرة أشجار الصنوبر الممتدة إلى حافات سفوحها.

كنت أرى بيوتا أشبه بفنادق، ومطاعم، ومقاهي تزدحم بالسياح، وأرى مزارع صغيرة على جانبي نهر أوريكا، وكذلك أرى قرية معلقة في سفح وادي بالجانب الآخر من ضفة النهر، وعندما سألت إبراهيم عنها أشار لي بأن فيها طريق يصعد إلى شلالات أوريكا. ثمة شيء آخر أثار دهشتي ألا تلك الإبل التي قد بركت على الأرض، وراعيها الملازم لها. نعم، كنت أرى هذه الإبل، وأتذكر القول الكريمة: (أفلا تنظرون إلى الإبل كيف خلقت). هذه هي الإبل عاشقة الشمس، الكريمة الطباع، العارفة بالطرق، المهتدية بالنجوم، الغيورة في طباعها، والصبورة على تحمل العطش والجوع، والقادرة على حمل الأثقال مسافات طويلة دون كلل هي هنا بسنامها في طول ظهرها كالسرج من وبر، فهي مطيعة لكل من يمتطيها، وهي راحلة لكل من يركبها، وهي زاملة لكل من حملها. التفت إلى إبراهيم، وسألته بخفوت:

ـ ماذا تفعل الإبل هنا؟

فأجاب مبتسما بصوته الوقور:

ـ غالبا ما يعتليها السياح للنزهة.

مرت علينا لحظات ونحن نعبر إلى الضفة من النهر، ونمر صاعدين إلى أعلى من خلال مطاعم، وبيوت، ثم نقفز فوق صخور مبتغين شلالات أوريكا. قطعنا مسافة لا بأس بها حتى استوقفتنا شجرة صنوبر على حافة مجرى مائي يهدر أسفلنا، وقد اكتفينا أن نجلس على صخرة كبيرة، ونتأمل الشلالات التي تجوس إلى أسفل في خريرها، وتتثنى بين الصخور براقة تحت أشعة الشمس.

تلك كانت متعة روحية أن ننسجم مع جمال هذا الفيض الخلاب. ذلك لم يدم طويلا، فرجعنا نازلين، لنستقر في مطعم على ضفة النهر، ونتطلع إلى النهر لكن ما جذب نظري أن أرى قبالتي في سفح الجبل راعيا يرعى قطيعه، فتمتمت مع نفسي:

ـ هذا هو الراعي في الجبل يكتفي برغيف خبز، وحفنات من حبات زيتون. هذا هو الراعي يتحمل الحر والبرد بعيدا عن ضجيج المدينة. ألم يكن أغلب أنبياءنا مارسوا مهنة الرعي؟

نهضنا بعد فترة استراحة طويلة لنعود إلى مراكش، وقد تناغمت أرواحنا مع أريج روائح الجبل والخضرة والمياه مبتهجة بنشوة حوض مزهر بأهله والسياح، وذلك الراعي الذي تتناغم روحه مع الجبل، ومع أصوات أجراس قطيعه، وهو يكافح من أدل حياة بسيطة، ويتضاحك مع كل ما نبته الجبل من نبات التي تحلق فوقها الطيور، وتتخذ من أغصانها أعشاش، وهي تشدو، وتصفر مثل الراعي النجيب.

اليوم السادس: حديقة ماجوريل

ذهبنا اليوم إلى حديقة ماجوريل في طقس رائع مشمس، فوجدنا طابورا طويلا من السياح لشراء تذاكر الدخول، فتطوع البروفيسور أن يقف في الطابور حتى يأتيه الدور بشراء التذاكر بينما جلست مع السيدة حكيمة في مقهى نحتسي القهوة. حينئذ انتابني فضول أن أعرف شيئا عن الحديقة، فسألت السيدة حكيمة عن بعض التوضيحات التي تخص الحديقة، فبدأت تتحدث بصوتها الرقيق الخافت:

ـ الحديقة كانت بستان نخيل لأحد الأشخاص، فاشتراها الرسام الفرنسي ماجوريل عام 1924 ، وكان مولعا بالنباتات والأشجار والزهور كفنان تشكيلي، فراح يجلب ضروب مختلفة من فسائل وبذور من القارات الخمسة الدافئة التي يتناسب نموها مع مناخ مراكش. حلمه الفني قد تحقق بمرور السنين، ثم قام بصبغ جدران الحديقة، وملحقاته، والبيت الذي كان يسكنه باللون الأزرق اللامع، إذ غالبا ما كان يجلس في شرفة البيت المطلة على الحديقة ويتأمل الأشجار، ويسمع أغاني الطيور لكنه تعرض إلى حادث سير، فنقل إلى فرنسا، ومات هناك سنة 1967 ، فاشترى مصمم الأزياء إيف سان لوران، والكاتب بيير بيرجي الحديقة بتوابعها عام 1980. حينئذ صار الناس يدخلون إلى جزء من الحديقة لرؤيتها.

بعد فترة رأينا البروفيسور يلوح لنا بيده مشيرا إلى أنه قد اشترى التذاكر، فنهضنا بسرعة، ودخلنا إلى الحديقة، ورحنا نتمعن الرؤية بأشجارها ونباتاتها وأزهارها. نعم، وجدتها طافحة بالخضرة، تنعش النظر، وتنعش النفس حتى لو كانت في ذبولها. كنت أفكر بهذا الرسام الذي حول حلمه إلى حقيقة، مجسدا ذلك على الأرض. ذلك كان بذرة خياله أن تكون الأرض خضراء تصوب إليها أنظار السياح من مختلف أنحاء العالم. أجل، غمرتني سعادة، وأنا أتخيل ماجوريل كأنه يفتح جفنيه في نظرة خاشعة إلى حديقته، وتترنم شفتاه:

ـ أحبوا ماجوريل الخضراء!

كنت أتجول فيها بهدوء وصمت، وقد تولاني العجب أن تكون هذه الحديقة ملتقى ثقافات القارات الخمسة بطبيعتها، مقترنة بالثقافة المغربية وتراثها الإسلامي الوطني في التصميم، واللون، والضوء، والظلال كأنها لوحة طبيعية لمجموع القارات الخمسة، فهي تحتوي على المميز والنادر من النباتات والأشجار والزهور، والأحواض التي تتوسطها نافورات ماء صغيرة. هذا جعلني أترنم بكلمات دون أن يكون لها صوت. ربما كانت تتناغم مع تغاريد الطيور التي جعلت قلبي غارقا في أحلام:

أي رسام أنت يا ماجوريل، يا صاحب العقل اللبيب؟!

حديقتك نور بشر يستقبل الزائرين، ويسقيهم سرورا مثلما تسقي الرياض بالسلسبيل كأنها عروس من إكليل، تلبس حلة خضراء في تهليل. هذا يستوجب علي الثناء بتحويل حلمك من خليل إلى خليل في أرض الطيب حين تظهر فوقها الشمس، وحين يظهر الأصيل وحين تجنح لتغيب. لا تلمني يا ماجوريل، فأنا انتشي في حديقتك الهواء العليل، وأترع نظري بأغصان الأشجار كأنها تشفق لي في انعطافها دون تعليل، فأنت يا ماجوريل تريني بشائر خمس قارات جمعتها في حديقتك أشبه بنشيد أخضر يوغل في روحي أثيرا جليل. بنفسي يا ماجوريل أن تقطر عيناي دموعا مثل السحاب يدفع أمطاره كي تسيل، فأنت ما تركته لنا من تحفة خضراء عجز أن ينسج مثلها كل السلاطين. يا لدهشتي! ها أنا أرى ماجوريل في مخيلتي ينطق من صمته، وينبأني بالنبأ المستنير، ويفشي لي بالسر المكنون العجيب:

ـ جمعت خمس قارات في مراكش ـ أرض الطيب ـ فهذه الأرض نسجت بالرياحين، وترقص أوراق أشجارها حين يهب النسيم فوق غصنها الخضيب، وتظل طيورها تغني بلحن الحنين.

فيما بعد، دخلنا بيت ماجوريل الذي تحول إلى متحف أمازيغي يظهر طبيعة الحياة والتراث والثقافة الأمازيغية من ملابس وأدوات منزلية وصور لرجال ونساء معلقة في الجدران وهم بملابسهم الشعبية، وقد جلب انتباهي تلك الألوان البراقة للملابس ثم الحلى الفضية التي صيغت بمهارة متناهية، وكانت نهاية ممر المتحف تؤدي إلى فناء الشاعر.

هكذا انتهت زيارتنا إلى حديقة ماجوريل، وقد تملكتنا دهشة لهذه العناية من قبل الجهات المختصة عن الحديقة لأنها تراث وطني مغربي، وتحفة خضراء مغربية ثم فيما بعد، ذهبنا إلى مطعم السمك الذي تغدينا فيه ، وقد كان يزدحم بالمغاربة، فلم أرى سياحا فيه. ربما لم يعرفوا بمكانه أو لربما لا يحبون السمك مثلما نحن نحبه في حين كان يحتوي على مختلف الأسماك البحرية والنهرية ذات الطعم الطيب الشهي اللذيذ. لم تمض فترة طويلة على وجودنا في المطعم، فتوجهنا إلى حدائق المنارة  التي وجدناها بستانا من أشجار الزيتون، تقابل جبال الأطلس الكبير، يتوسطها حوض سباحة واسع وكبير كان يتدرب فيه الجنود، وحين سألت السيدة حكيمة عن المياه التي تصب في هذا الحوض العميق، فأجابت:

ـ المياه تصل إليه من الأطلس الكبير.

أصابني الذهول لأن جبال الأطلس الكبير تبتعد عن الحوض بمسافات طويلة جدا.

دخلنا البناية، فوجدناها تمتاز بتصميمها على غرار التراث الإسلامي، وهي أشبه ببيت راحة، وحين صعدنا إلى الطابق الثاني، وجدنا أنفسنا بشرفة كبير تطل على الحوض، وعلى بساتين أشجار الزيتون. يا يا له من منظر جميل جدا أن ترى أفقا يمتد أمامك!

هكذا كان يومنا مفعما بالبهاء المشرق في ظل الخضرة كأنها تحت الشمس ظل ظليل.

اليوم السابع: الكتاب

ذهبت إلى مكتبة الشاطر التي تقع قريبة من الفندق حيث كانت لي رغبة جامحة أن أقرأ لمؤلفين مغاربة في الأدب سيما لم أقرأ لكتاب الحداثة في المغرب في الفترة الأخيرة نتيجة صعوبة وصول الكتاب من البلدان العربية إلى بلدان المهجر مما جعلني أفتقد المتابعة في قراءة الكتب الحديثة.

دخلت إلى مكتبة الشاطر، وطلبت من صاحبها أن يرشدني إلى الكتاب المغربي، إذ أشار لي أن أصعد إلى الطابق الثاني لأن الطابق الأول كان مخصصا للكتب في اللغة الفرنسية. هكذا صعدت إلى الطابق الثاني آملا أن أجد ما يلبي طموحي. رحت أقرأ عناوين الكتب المنظمة في الرفوف. اقتنيت بعض الكتب، كان منها  رواية (العطر) لباتريك زوسكند التي تحولت إلى فلم سينمائي، وكتاب (شجرة القنفذ) لأنطونيو غرامشي التي ترجمها وقدم لها عن الايطالية أمارجي، وكتاب (جلجامش) لفراس السواح، ثم اقتنيت رواية واحدة قصيرة من عدة روايات بعنوان (لحظات لا غير) لكاتب مغربية اسمها فاتحة مرشيد. نزلت إلى الطابق الأول، ودفعت ثمن الكتب، ثم خرجت عائدا إلى الفندق كي أرتب حقائبي، وأغادر الفندق إلى المطار مع صديقي البروفيسور بغية العودة إلى السويد.

بعد ترتيب حقائبي وجدت أن هناك لدي متسعا من الوقت لأباشر في قرآه الرواية، وهذا ما فعلته بالضبط، فرحت أقرأ الرواية، ولم أتركها حتى انتهيت منها، فكانت المؤلفة تتناول في روايتها (لحظات لا غير) موضوع الاغتراب في المجتمع،  الذي تناوله الفلاسفة وعلماء النفس الاجتماعي برؤيا ودراسات واجتهادات مختلفة من خلال الصراعات والتناقضات الاجتماعية التي قد تؤدي بالإنسان إلى الكآبة، وقد يقوده إلى الانتحار ما لم يعالج بسرعة وتواصل مستمر من قبل طبيب نفساني. هذا الموضوع من حيث حيثياته تناولته المؤلفة بجرأة كبيرة خاصة وإن أسلوب الرواية كان شيقا يتجاوز معارف السرد في الرواية العربية.

نظرت إلى الساعة، فوجدت أن الوقت قد حان أن أنزل إلى بهو الفندق، وحينما نزلت في المصعد الكهربائي وجدت البروفيسور كان ينتظرني، فذهبنا إلى الموظفين، وقدمنا لهم الشكر على حفاوة الاستقبال والعناية الجيدة التي يتمتع بها الفندق إزاء الزبائن خاصة وقد ربطتنا علاقة حميمة مع موظفي وعاملي الفندق. هكذا خرجنا من الفندق، ووجدنا السيدة حكيمة تنتظرنا لتوصلنا إلى المطار بسيارتها. ذلك لم يستغرق وقتا طويلا حيث وصلنا المطار، وودعتنا السيدة حكيمة، وهي تردد بلغة متآلفة حنونة:

ـ أهلا بكم دائما في بلدكم الثاني المغرب.

لم يبق أمامي وأنا أغادر مراكش إلا أن أقول عن هذه الرحلة الموفقة مخاطبا إياها:

يا مراكش، رأيتك كالربيع الناضر غطاؤك نجوم السماء

كرقرقة الماء العذب بين الأشجار يسقي الجذور البيضاء

كفك النقي فيض من الندى، ونور أنور من حسن الضياء

بوركت أرضك المنثورة بالزهر والجود يا مكرمة العطاء

يا هذه الزهرة تأبى عيناي أن تفارق وجهك من فرح اللقاء

 

 

 

تعليق واحد

  1. أكثر من رائع يا أبا كاظم. يحس القاريء بأنه كان معكم في رحلتكم الموفقة. دمت لنا مبدعآ مثل ماعرفناك في أيام الجبل. مودتي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.