الرئيسية | فكر ونقد | بنية المجتمع و مثالية هيجل

بنية المجتمع و مثالية هيجل

رشيد طلبي

إن الثورة التي عرفتها العلوم الطبيعية، باعتمادها على الأمبريقية منذ القرن التاسع عشر الميلادي، أثر بشكل كبير على العلوم الإنسانية في ظل بحثها المستمر لتحقيق هويتها العلمية المتمثلة في الابتعاد عن الذاتية، وملازمة الموضوعية  قدر الإمكان.

و”علم” التاريخ، باعتباره علما ينتمي إلى حظيرة العلوم الاجتماعية، و يعتمد العقل البشري الذي نحا منحى علميا، في رصد حركة تاريخ تطور المجتمعات، والوقوف على بنياتها كمحرك أساسي في حركة التاريخ، قد خطا خطوات عملاقة في تحرير شروط علم يهدف إلى  فهم أوضاع الحاضر في ظل الماضي، واستشراف التطورات التي يمكن أن تعرفها مستقبلا، بالوقوف على بنيات المجتمع، ورصد حركة التناقضات المولدة لتطور المجتمعات البشرية على اختلاف أزمنتها وأمكنتها الجغرافية وأنظمتها التي تحكم سيرورتها؛ سواء كانت بدائية أو إقطاعية أو رأسمالية أو اشتراكية.

إنه “علم” حاول أن يضع له موضوعا هو “الكائن البشري”، و منهجا علميا يضمن له الصرامة في التفسير و التحليل والخلوص إلى نتائج موضوعية مقبولة. يقول “عبد الله العروي” معقبا على مسألة العلمية: “معنى كلمة -علم- في كل التأويلات (…) نجد إما علم الماضي (تاريخ تطور الجتمعات)، وإما تحرير شروط علم سيكون، ولا نجد أبدا علما اكتشافيا يزيد في فهمنا للأوضاع الحاضرة و يمكننا من استشراف التطورات المقبلة القريبة – في هذه الحال- العلم الوحيد الذي يتفق عليه الجميع، شرقا و غربا في العالم الاشتراكي و العالم الرأسمالي هو علم الطبيعة الذي لا يفتأ يهيئ لنا و على كل المستويات عالم رعب و تدمير”.

ومن أهم الاتجاهات المعاصرة في علم التاريخ التي حاولت الوقوف عند بنيات المجتمع وارتباطها بحركة التطور؛ نجد على رأسها، ومنذ البداية، الاتجاه المثالي- الهيجلي. فكيف ينظر هذا الاتجاه لبنية المجتمع وبنائه؟ وكيف ينظر إلى التحولات التي تعرفها المجتمعات، خاصة العربية ومنها المغرب في الوقت الراهن؟ وما دواعي الانتقال من مثالية هيجل إلى مادية جدلية لماركس؟

إن الفيلسوف “فريدريك هيجل” (1770م-1830م)، من جملة المثاليين الذين يؤمنون أن الفكر هو أساس الوجود، و مصدره مشيئة علوية يوحي بها الله لمن يشاء، و يظهر هنا تأثره بتعاليم المسيحية، و هي مسألة قد بسطها في كتابه “عن روح المسيحية”[1].

و إذا كان غيره، خارج هذه المدرسة، يعتبرون الرأي هو الذي يحكم العالم (l’opinion gouverne le monde) حيث يعطون للعقل مكانة و أهمية أكثر مما يستحق. فإن “هيجل” كان مُزْدَوَجاً في نظرته،فلم يقف عند حدود الفكر أو العقل أو الروح، بله البدن؛ لأنهما يجتمعان في روح أو فكر واحد، هو العقل المطلق. و تذهب مثاليته إلى ربط هذا العقل بالظواهر التي تخضع لقانون الكون، و التي بدورها تحدث لدينا ضربا من الوعي. و ما وصلت إليه الحضارة الألمانية، له ارتباط وثيق بما أعطاه للعقل من مجد ومكانة سامية؛ و يظهر هذا من خلال قولته الشهيرة: ” عندي ينتهي التاريخ”.

من هنا، نجد أن “هيجل” قد استفاد من الفكر اليوناني المتمثل في “أناكسا جوراس” (Anaxagore)، الذي يعد أول من ذهب إلى اعتبار أن العقل هو الذي يحكم العالم. لكن “هيجل” في نظرته للأحداث التي تعرفها المجتمعات يماثل بينها و بين قوانين الظواهر الطبيعية. و يذهب في تفسير هذه الثنائية (المادة/ الروح) المتجسدة في “العقل المطلق”، بقوله: “و ليس المقصود بذلك هو الذكاء من حيث هو عقل واع بذاته، كلا، و لا هو روح بما هي كذلك، فلا بد لنا أن نفرق بعناية بين هذا و ذاك. إن حركة النظام الشمسي تحدث وفقا لقوانين لا يمكن أن تتغير. هذه القوانين هي العقل الكامن في الظواهر التي نتحدث عنها، لكن لا الشمس و لا الكواكب التي تدور حولها وفقا لهذه القوانين، يمكن أن يقال إن لها أي ضرب من ضروب الوعي”[2].

و بذلك، فالعقل المدبر للكون هو المدبر لحركة التاريخ في المجتمعات، إنه العقل المطلق الخاضع لناموس الكون. فقولة: “العقل يوجه العالم” فهي مرتبطة بحقيقة دينية، تعتبر العالم ليس مترعا للمصادفات و العلل الخارجية العرضية، و إنما يخضع في حركته الدؤوبة لعناية إلهية (Providence). و منهجه في هذا السبيل، لم يقف عند حدود الحاضر، بل ينطلق من الحاضر إلى الماضي، خاصة أثناء حديثه عن الدرجات المختلفة للوعي بالحرية، ذلك (أن المنهج التاريخي هو جزء لا يتجزأ من نظرة متكاملة عن المجتمع في التاريخ. حيث يمثل المنهج حينئذ أسلوبا في التفكير و البحث ملتزما بتتبع الظواهر الاجتماعية التاريخية، سير من الحاضر نحو الماضي تدريجيا -مع الأخذ في الاعتبار ما بين هذه الظواهر من علاقات-“[3].

إن هذا العقل هو مكمن السعادة، و مسعاه هو تحقيق الحرية. و هذه ليست رغبات فردية يمكن الحديث عنها، بل هي كيانات كلية بالمعنى الدولي و الشعبي. و بذلك فالشغل الشاغل هو توجيه الجهد نحو معرفة طرق و أساليب العناية الإلهية في التاريخ. لذلك نجد أن “هيجل” يطابق بين العقل و الحرية والله؛عند الانتقال من لغة الدين إلى لغة الفكر. و النتيجة من هذا كله هي “الحرية” التي بذلت من أجلها كل التضحيات و المذابح على وجه الأرض. و بهذا الصدد يقول “هيجل”: “و لكن الله هو الوجود الكامل على نحو مطلق، و من تم فلا يمكن له أن يريد شيئا غير ذاته أعني سوى إرادته الخاصة و طبيعة إرادته- أعني طبيعته ذاتها- هي ما نسميه هنا بفكرة الحرية”[4].

فالوسائل في نظر “هيجل” التي استعملها الإنسان في مجتمعه لتحقيق الحرية و تطويرها هي المولدة لفكرة التاريخ، و يظهر أنها وسائل ظاهرة مرتبطة بالحاجة و النفعية و الانفعالية و السعي لتحقيق المصالح  و ربما وجدت هذه العوامل بعض الأهداف ذات طبيعة خيرية لكنها قليلة و محدودة و عند هذه الأقلية يتحقق المثل الأعلى للعقل، و لكن الحدث في جوهره، قدري بطبعه، و أن العالم تحكمه العناية الإلهية. و في معرض حديثه عن الدمار و الحروب التي عرفتها البشرية على وجه الأرض؛ كمسعى لتحقيق هذه الحرية، يقول: “ما حدث لم يكن من الممكن أن يكون خلاف ذلك، إنه القدر الذي لا يمكن ان يرده أي تدخل، و في النهاية نفر بأنفسنا من هذا الضيق الذي لا يحتمل و الذي تهددنا به هذه الأفكار المؤلمة، منسحبين إلى بيئة حياتنا الفردية التي نجدها أكثر إرضاء لنا -أعني إلى الحاضر الذي شكلته غاياتنا و مصالحنا الخاصة، أي أننا بالاختصار نرتد إلى الأنانية التي تستقر على الشاطئ الهادئ”[5].

من هنا، يتبين أن منهج “هيجل” المثالي في رصد حركة التاريخ داخل المجتمع، لم يضع الأصبع على مكامن الداء، و العوامل المحركة لعجلة التاريخ في ارتباط هذا الأخير بالإنسان. على اعتبار أن الإنسان هو محرك عجلة التاريخ، بل يعتبر الاعتماد على العوامل الخارجية و الذاتية أنانية، إضافة إلى أنه ينظر إلى العقل المطلق كعامل في تحقيق الخير. و التاريخ في مجمله خير و شر، مبعثه الإنسان،وغايته الإنسان، و العامل المدبر له هو الإنسان، بكل تجلياته الروحية و المادية.

إن مثالية “هيجل” لا يمكن أن تستوعب منطق التاريخ، و الوقوف على تفسير مقنع لحركته الدؤوبة،بقدر ما نقف عند فلسفة يكشف فيها العقل و الجدل عن ذكاء خارق، و دقة في الذهن، “و لكننا عندما ننتهي من استيعاب مذهبه و نفهم ان الفكر أو الفكرة أو العقل المطلق أو المثال؛ هو أساس كل موجود أو روحه، بتعبير أدق، و أن المادة نفسها ليست صورة من صور وجود العقل أو الفكر، نجد أنفسنا قد خرجنا من ميدان التاريخ تماما”[6].

و إذا كان هذا التطور يعطي أولوية للفكر كصانع للتاريخ و قائده الأعلى، فالغرائز و المطامح والمطامع أيضا لها تأثير كبير في مسار التاريخ الإنساني. و إذا كان المثاليون أو الثنائيون قد فسروا تاريخ المجتمعات في نطاق البحث عن التوازن بين توجيه العقل المطلق الرفيع و نزعات البشر، فهناك مؤرخون آخرون قد نظروا إلى التاريخ نظرة العلماء للمادة، و اعتبره فرعا ن فروع التاريخ الطبيعي. وبذلك حاولوا بمؤلفاتهم ملامسة الواقع، و الوقوف على حقيقته، و إن كانوا قد أهملوا الجانب الروحي أوالديني أو الفكري، فنظروا إلى العامل المادي وحده “فعرفوا باسم الواحديين (Monistes) أو أصحاب المذهب الواحد، بخلاف المثاليين”[7].

هوامش:

[1] – حسين مؤنس؛ التاريخ و المؤرخون (دراسة في علم التاريخ). دار المعارف. القاهرة. 1984. ص75.

[2] – نفسه. ص97.

[3] – سامية محمد جابر؛ منهجية البحث في العلوم الاجتماعية. دار المعارف الجامعية. الاسكندرية. 1993. ص214.

[4] – حسين مؤنس؛ سابق. ص104.

[5] – نفسه. ص105.

[6] – نفسه. ص111.

[7] – نفسه. ص112.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.