الرئيسية | أدب وفن | المعنى ولمعانه في لوحة عبد الله الهيطوط | عبد الواحد مفتاح

المعنى ولمعانه في لوحة عبد الله الهيطوط | عبد الواحد مفتاح

عبد الواحد مفتاح:

 كاتب وناقد مغربي

كاتب وناقد مغربي

عزلة واضحة هي ما تجدني إزاءها وأنا أقف أمام لوحة عبد الله الهيطوط

عزلة لأن لغتي لا تستطيع خلع حبها، لتفصح عن ثنائيات شيء مضيء، في لوحة لا أجد تعريفا لها قواعديا غير ما يتدلى من فتنة بياض يستوعب ما تصبوا له براعة، ما يحاوله عبد الله الهيطوط، من تجريد مصبوغ بألوان توليدية هي أخت اللغة وتوأمها، في سيرة المعنى الباذخة.

التجريدية الجديدة، هي ما تطبع اللوحة هنا، كتناص مهم بين انفتاح كوني مستقبلي ورمزية تعض عاريا في جسد المغربي، كموروث، ينتقي عبد الله الهيطوط عبقريته، وما نتجاوزه دائما لينثره عاليا ملمعا بالمعنى في سماء لوحته التي ترفض الامتثال للنمطي والمقنن كرشوة للاعتراف السريع .

تتخذ المعالجة التشكيلية عند عبد الله الهيطوط، رمزية صداحة ومحسوسة: كأسلوب وتقنية في نفس الوقت، في خليط بين الفني والثقافي، ينضج باللمعان الأيقوني المترجم لغويا: -وإن تعذر- بالحسن أو الجمال أو الفتنة أو الغواية، واعذروا خبلي فما تشغله فينا لوحة عبد الله الهيطوط ألحانا بصرية ومعرفية، عليك أن تسمعها لأبرهن عن تلعثمي هذا.

تصاميم وتكاوين اشارية لها ارتباط تفصيلي بالمعنى، وإشراقات أصدقائنا الصوفيين:

عمل الهيطوط1هي متن اللوحة هنا، في امتلاء ضاج باللغة البصرية الأصعب : تفاعل وتساؤل شديدين، هو مفتاح نفاذها إلى جوهر الأشياء، وكل ما يستطيعه الإمكان الفني. هَمها الأساسي هو ذلك: المحاورة الفعالة للوجود والقيم عبر ثابت وحيد، هو الجمالي الحر.

البعد الثالث واللافت، الذي يحضر دائما بمنطق المعالات، هو هنا بعد المعنى وتعدده على لون، جندي يرفع رشاشه ولا يخطئ، متراس في استقامة البياض الذي هو الأكثر حضورا في أعمال عبد لله الهيطوط، البعيد عن كل ما هو ضيق، حتى في الحقل التنظيري والهوياتي: كارتكاز لأصالة البحت والتجريب و التأمل، لفنان لا يحفل بكل رسومية جاهزة سواء في البعد الواقعي أو حتى التخييلي، ذلك ما يهب العمل بهاءه الفذ الطافح عن علبة التجريب، وهي علبة قلما خرج منها أصدقاء كثيرون سالمين.

عبد الله الهيطوط فنان يشتغل في صمت، ترقص لخفة هدوءه ،لا يفتح فمه أوسع من فرس نهر- كما يفعل عَديدون وتافهون-. يلقن العين سلطة حرية – هي خيمته العليا –ليعيد الرائي، ترسيم الدلالي والرمزي للون والعلامة التشكيلية.

فبالإضافة إلى إبدالات اللوحة عنده، وتشفيراته الإيمائية، فهي تناغم حسي بين اللون والمعنى والشكل، ومساحة من دلالات أنا أقطر أخطاء لغوية فادحة في تشبيهها.. بحاجة إلى معجم هو نفسه معجم الوجود لأبلغ عن نفسي.

عمل الهيطوط2فاللوحة تثير مشهدية فده، الوضوح وأدواته الحارقة هي: لونها الذي يتماوج على تفاعل السند والمواد. يغتصب عن الزمن برهة لينشئ محاكمة عادلة.

شيء ما يجعلني استحضر عبد الله زريقة، كنص يعلي من تحيته لهذه الأيقونات، ولمستها الغرافيكية Graphique، كوسيط بصري بين سلطات المعنى ومن يرى إليه.

فأعمال عبد الله الهيطوط، تجعلك تعيش لحظة مواجهة مسالمة مع الوجود. أما الجمالي فهو ذلك الذي يجعل مصيره هنا بين يديك، في التقاط باذخ وغير ادعائي لمسودة المعنى: كنسغ للسند واللون وعبد الله الهيطوط في آن.

وهو هو .. لا يحاول تقليد الضوء، الذي ينعكس عليك أنت والأن، بقدر ما ينثره هنا، كضفاف شديدة الاضطراب، تجاه السائد واليومي، فالضوء المكون فيزيائيا من جزئيات صغيرة تستطيع من خلالها أن ترى الأشياء، يحضر هنا كبياض نوراني في انسياب مع الأشكال اللطخية، أما كيانية السند فتسمير براعة اللون، على صليب تنظر إلى عليائه، بقدر ما هو مفتضح سفر، تتزود منه تجسير بين أسئلة المغربي، وراهنية قلقه، وافق كوني ضارب في الإنساني المشترك, والثاوي في أبجديات الوجود.

في اهتمام بالغ بتشدير اللوحة المشهدية، راعى معه جاذبية اللون ونسقيته الكيميائية، لون سائل باقتدار معرفي وضاج بالحركة يخترق السائد والإعتيادي، لتقديم العالم وكل أشيائه في صورة عارية وغير مغلقة، بشكل جميل كأن اللوحة مساحة خضراء، على مستقبلي جد متألق.

لوحة تصطفي الأبيض، كتمثيل لكل الألوان على قرص نيوتن، وكرمز للنقاء، وهو مأرب وتأثير رمزي، يحاكي التساؤلية في نقائها وانطلاقة تحولاتها البصرية فوق السند.

تشكيلية عبد الله الهيطوط هي ذهاب وإياب بين الأثر وتركيب دلالته.

كتأليف حسي يضيف إلى العالم شيء جديدا وجميلا يتجسد فيه اعتمال ما أضمره وأضرمه الفنان في السند في مغايرة لأسلوب التفكير الفني وإعلائه مع محاورة الوجود وملامسة المتغيرات الانطولوجية والإبستمولوجية للإنسان والعالم.

عمل الهيطوط3مند معرضه الأول بالرباط …مرورا بمعرضه الثاني بالدر البيضاء: عرف عبد الله الهيطوط اعترافا نقديا، لا يدين فيه إلا لأصالة بحته ولوحته، وهذا ما يترجم حسن التلقي الذي عرفته أعماله في ظرف وجيز
إني هنا أتابع أن جانبا مهما مما تنظره الحركة التشكيلية الجديدة بالمنطقة المغاربية يتقاطع مع أعمال عبد الله الهيطوط.

في افتتانية كبيرة رأيت ما جرده وسائله التشكيلي والناقد عزيز أزغاي عن مسار عبد الله الهيطوط عبر ورقته الأنيقة (الأثروانزياحاته).

وهي ورقة سجلت عاليا، في مرمى التشكيلي المغربي، بروز تجربة جديدة، وجد متميزة، راوغت فخاخ التجريب، وفجاج تجاويف مربعات ما بعد الحداثة، في اشتغال يعلي من اشتعاله.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.