الرئيسية | بالواضح | المعرفة الأدبية | رشيد طلبي

المعرفة الأدبية | رشيد طلبي

رشيد طلبي   

إن مطارحة مسألة “المعرفة الأدبية”، تعرف تعالقا بين المعرفة والأدب. هذه المعرفة التي ترتبط بالواقع، والعقل سواء كان تجريديا يراهن على الفكر الفلسفي. أو تجريبيا قوامه العلم. وبهذا، يحاول الأدب أن يبني معرفته الخاصة انطلاقا منهما معا، مع فارق التفاعل بينهما.

فالأدب باعتباره “كيانا وظيفيا” ، ومادام “محاكاة بواسطة اللغة (…)”  فهو لا ينقل الواقع، بل يحاول التقليد، وبذلك، فهو تخييلي ذو كيان بنيوي يسعى إلى إقامة علاقات أخرى تسهم في تشكيل كياناته الداخلية. ومع هذا بقي مفهوما شائكا، خاصة بعد أن وسع من مساحات اهتمامه. وإذا كانت المعرفة تعمل فيها المخيلة لصالح الفهم، فإن العكس هو الصحيح بخصوص الفن ويعد الأدب أحد فروعه –بوجه من الوجوه- يعمل الفهم لصالح المخيلة .

ويظهر أن الإطار الفلسفي من بين المجالات المتحكمة في هذه المعرفة، رغم تاريخ الصراع الذي تعرفه هذه العلاقة منذ “أفلاطون”، ليستمر مع “ديكارت” و”توماس لن بيكون” في (عصور الشعر الأربعة)، وحتى مع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، واستمرت نفس النظرة في القرن العشرين مع “جورج بواس” في محاضراته (الفلسفة والشعر) ومع “نيتشه” الذي نبه من سيطرة العاطفة على العصر.

 وعلى الرغم من هذا، لا أحد ينفي أن الفلسفة تشكل الإطار التنظيري للأدب مع تطور نظرية المحاكاة، ونظرية الخيال مع الاتجاه الرومانسي ونظرية الانعكاس مع التيار الماركسي وغيرها.حيث كل نظرية مؤسسة لاتجاه في الأدب وكيفية التعامل معه نقديا انطلاقا من خلفية نظرية تؤطر عمل الناقد، ولم يكن هذا إلا ضمانا “لشرط الصرامة العلمية” .

ولا يمكن أن يكتمل هذا المبتغى دون الربط بين المعرفة الأدبية والعلم. وقد بدأ هذا التقارب بينهما مع بداية القرن التاسع عشر، بناء على تاسيس (الفيزياء الاجتماعية) ل”أوكست كونت”، وظهور المنهج الاستنباطي الرياضي مع “ديكارت” والمنهج التجريبي مع “فرانسيس بيكون” و”نظرية النشوء والارتقاء” مع “داروين”… وغيرها. وقد تم الارتباط بينهما من خلال اعتماد المناهج التي يعمد إليها الناقد في دراسته للنصوص الأدبية، وقد تمثل هذا من خلال مجموعة من المناهج إذا ما أمعنا النظر في واحد منهم وجدنا له امتدادا على مستوى العلوم الحقة.

من خلال ملامسة هذه العلاقة الارتباطية بين المعرفة الأدبية والفلسفة والعلم، نستحضر إشكالا يتمحور حول العلاقة بين المعرفة الإبداعية والنقدية، مع العلم أن هذا  لايعني السبق الزمني للإبداع عن النقد، لكن نروم أنهما متزامنين.إن النقد بارتكازه على الفلسفة والعلم، سعى إلى إنتاج معرفة علمية بالظاهرة الأدبية، وتجلياتها النصية، وقد ارتبط هذا اولا بتاريخ النقد، وثانيا بالتصورات النظرية التي حاولت إيجاد موقع له في سلم المعرفة انسجاما مع موضوع الظاهرة الأدبية. وثالثا ارتبط بالتصورات المنهجية التي عملت على ضبط إوالياته الإجرائية.

وعلى الرغم من التفاعل الحاصل بين الأدب ومعارف أخرى، فإن التعارض الحاصل بينهما، يجعله يستقل بمعرفته، باعتبارها معرفة أدبية تستند إلى كيانه. وإذا كان النقد أحد الأقطاب التي تنبني عليه، فإن المحفز لهذا القطب هو الإبداع، وإن كان موضوعا عويصا، يستحق البحث، منذ أفلاطون الذي ربط الإبداع بربات الخير، مرورا بالثقافة العربية القديمة التي ربطته بالشر. فقد تمت مقاربته في الثقافة المعاصرة بنظريات حديثة؛ نفسية واجتماعية وبنيوية وسيميائية وغيرها.

وتبعا لهذا السياق، فرغم الاختلاف المثار حول مسألة الإبداع، من حيث الأصل؛ فهناك من يعتبره موهبة ربانية، أو وساوس شيطانية، أو غيرهما. وقد كانت هذه المعتقدات سائدة عبر العصور وفي ثقافات إنسانية مختلفة. لكن مع الاحتكام إلى العقل والعلمية، أخذت المسألة تتضح عبر مجموعة من النظريات التي حاولت أن تستكشف هذه الجغرافيات المعتمة في الثقافة الإنسانية السالفة، علما أن المبدع هو إنسان عادي، يمارس حياته اليومية مثل باقي البشر، لكن الاختلاف بينهما يكمن في عواطفه الجياشة، والتعامل مع الظواهر بشكل مختلف. وتبقى للمعرفة والذوق والخيال أدوار فعالة في ترشيد المبدع نحو استكشاف مكامن الجمال ومواطن القبح، علاوة على الخبرات والتجارب التي راكمها ويعمل على تحليلها بشكل مختلف، تبرز في شكل كتابات أو رسومات أو ألحان أو حركات أو نصوص إبداعية، يدعو من خلالها القارئ إلى مشاركته في هذه النظرة والمعرفة المختلفة لذوقه وتجربته.

ومن أهم النظريات التي حاولت أن تجيب عن سؤال المعرفة عند المبدع، نستحضر “نظرية التناص” التي “أثبتت أن أي نص هو عبارة عن نسيج من اصوات آتية من هنا وهناك: من الشعر والكتب المقدسة ومن لغات الحياة اليومية… وأن أي نص يمكن أن يقرأ قراءات متعددة” . وإن حكمت هذا المصطلح سياقات أخرى غير سياقات التناص.

هذا، بالإضافة إلى “نظرية السيميوطيقا” التي جاء بها “بورس” وهي تقوم على مبدأين اثنين هما “مفهوم المؤولة” “Interprétant” ومفهوم السيرورة الدلالية اللامتناهية “Sémiosis”. فالمؤولة تكون على كل أصل وفرع “وكل ما يأتي بعد النواة، وهكذا في عملية غير متناهية على مستوى الإمكان، وفي عملية متناهية بمؤولة نهائية على مستوى النص” ، وهكذا تعد هذه النظرية من بين مرتكزات نظريات الذكاء الاصطناعي التي تحاول وصف وتفسير عملية الإنتاج والتلقي والتأويل.

يعد الذكاء الاصطناعي، تساؤل عن كيفية اشتغال الذهن البشري، مستفيدا من كيفية اشتغال الحاسوب، وكأن الأمر سيان اعتمادا على البرمجة “Programmation” وضمن هذه النظريات  نستحضر “نظرية الإطار”. والإطار يعرف أنه: “تنظيم للمعرفة ضمن مواضيع مثالية وأحداث قالبية ملائمة لأوضاع خاصة” . فالذهن هو بناية بأقسامها وكل قسم تصنيفات وأدراج، واعتمادا على هذه البرمجة المنظمة التي يمكن أن يتحكم فيها الشخص بناء على التحكم في زمن التعلم والكيفية التي يتلقى بها الأفكار والمعلومات وفق ما يناسب ذكاءه، تنبني مقومات الإبداع بشكل أو بآخر.

إن المعرفة الأدبية مثل باقي المعارف، تسعى إلى استكناه جوهر الإنسان، والقوانين التي تحكم سيرورة حياته. وذلك من خلال اعتماد مجموعة من العلاقات التي حاولنا رصد بعضها. مع العلم أن الأمر لازال مفتوحا على مجموعة من الإشكالات؛ أهمها “علمنة الظاهرة الأدبية” بمنطق العلوم الحقة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.