الرئيسية | سرديات | المختفون: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

المختفون: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

حنان الدرقاوي

 

كنا لا نزال نعيش في تنجداد “جنوب شرق المغرب”. كان الجو خريفا وكانت ريح الشاموم  قوية. ريح تهب من جهة الصحراء وتقتلعنا اقتلاعا. تنجداد تقع غير بعيد من الصحراء الكبرى وتحميها من زحف الرمال جبال الأطلس الصغير والقصبات الطينية. كنا في مهب الريح طيلة الصيف والخريف، رمال حارقة تغطي وجوهنا وتسد أنوفنا الصغيرة. كنا نسمع عن زحف الرمال جهة أراضي البور في اشتام ومناطق أخرى. كان وجودنا هشا ويتوقف على أهواء الريح والرمال. سيأتي يوم نختفي فيه خلف الكثبان الرملية. كان تخيل  منظر بيتنا تحت الرمل يصيبني بالهلع كأنه مرآى يوم الحشر. أن تموت اختناقا تحت الرمل، موت فظيع لماذا لا يوجد في جهنم عقاب بالرمل؟

كنا صغيرات لكننا كنا أمهات قبل الأوان، نحمل إخوتنا الصغار على ظهورنا. كانت مهمة متعبة فأخي السمين يعضني دائما على ظهري وأخ فاطمة يبزق على شعرها. لم تكن بيدنا حيلة فقد كان علينا أن نساعد أمهاتنا المقتولات في الواجبات المنزلية ثم إن هذا قدر البنات في الواحة. سنتعلم أصول الإعتناء بالبيوت وبالأطفال لأن ذلك هو ماينتظرنا في المستقبل. كانت البنات يزوجن لأول خاطب ويمضين في قدرهن المتعب. لم نكن نحلم بشيء آخر لأن الأحلام لم تكن ممكنة فأمهاتنا البدويات يغلقن علينا شرفة الأحلام ويصورن لنا الحياة بالنسبة للنساء ككأس مرارة تشربن منها كل يوم في انتظار الموت. كانت الأمهات يطوعن أجسادنا الصغيرة لنصلح لخدمة أزواجنا وحمواتنا في المستقبل. لم نعرف اللعب كما الأطفال في كل بقاع العالم. دخلنا عالم الكبار مبكرا وأثقلت كواهلنا بمهام لاتنتهي وبمشاكل الأمهات التي كنا نفكر فيها طيلة الوقت وتحول بيننا والإستمتاع بالحياة.

 كان ذلك ذات يوم من خريف 1977 كانت البيادر ممتلئة بالثمر الذي جنيناه وكانت لا تزال هناك خطوات عديدة من حمل الثمر إلى المنازل وتخزينه. كنا نحن في محنة إذ لم يكن لنا حمار أو بغل ولا رجال في البيت. كانت أمي وحيدة بعد أن سافر أبي إلى الدراسة في العاصمة ومنعت جدتي أبنائها عن مساعدتنا. كان ذلك في إطار خطة طويلة الأمد من الايذاء المجاني لزوجة إبنها الذي يصرف عليها هي وأبناؤها وزوجها. لسبب غريب كانت جدتي تكن حقدا دفينا لأمي ولي أنا بالذات. كانت تسميني اليهودية بسبب إسمي القريب من إسم “حنا” اليهودية التي عاشت في قصر آيت عاصم ذات زمن. الحق أن دمي كان يغلي حين أراها تسب أمي وتسيء إليها فأنهض وأحمل الحجر وأسب جدتي وأهددها به. كنت طفلة لاتعرف التواصل إلا عبر لغة الحجارة. كنت طفلة حجارة وكل مشاكلي كنت أحلها بالحجر المتوفر في تنجداد. أقذف بالحجارة باتجاه كل من يعترض سبيلي وسأظل على سيرة الحجارة حتى سن متأخرة فقد عالجت مشكلتي مع صديق في الثانوي بالحجر.  كان ذلك نوعا من الجنون الذي يحرج أمي. الحق أنني كنت خارجة من نوم طال خمس سنوات إذ أنني في الخمس سنوات الأولى من عمري بقيت مستلقية على ظهري أغلب الأحيان وكان الكبار يأتون إلي، يزيلون الأغطية الخشنة ويقولون ” لا زالت هاته البنت حية” كنت أعرف أنني سأموت لا محالة. في القرية يموت الأطفال بالجملة خلال فصل الصيف بسبب أمراض كثيرة كانت تفتك بواحة يغيب عنها التطبيب. حين أفقت من نوم الخمس سنوات دبت حياة غريبة متوثبة في كل أعضائي فصرت أتحرك طيلة الوقت، أساعد في البيت وأحمل الثمر إلى السطح وأحمل أخي على ظهري وأعدو إلى ساقية الفيض لأبلل قدمي الصغيرتين. صارت الحركة الزائدة دليل حياتي وكنت أبالغ في الحركة لأقول “أنا حية “. كانت أمي تستفيد من تلك الحركية الزائدة بتكبيدي أشغالا منزلية لاتنتهي.

كنا فطيمة وأنا نحمل إخوتنا على ظهورنا ونلعب بالمساتيك، نخبؤها في الرمل ونبحث عنها والتي وجدت المساتيك هي الرابحة. في بعض الأحيان تغشني فأمسك بالحجر فتعتذر وتعيد الي المساتيك.

في اليوم الذي ستختفي فيه فطيمة كنا أمام بيتنا الجديد، البيت الإسمنتي الذي سهرت أمي ونحن على بنائه إلى أن اكتمل  وحسبناه بيتنا إلى أن اكتشفنا أن أبي سجله باسم عمي لسبب غريب لم يفهمه أحد في الواحة كلها. كنا قد غادرنا   البيت الطيني وسكننا البيت الجديد وكان فيه شيء يشبه المعجزة: كنا نحك أزرارا فيعم نور كنور النهار، البيت  مضاء ليلا وقد شكل ذلك لي تحولا كبيرا في علاقتي بالأشياء.  أعتقد أنه أكبر تحول لي في علاقتي بالعالم ولكنه ليس أكثر من النظارات الطبية التي مكنتني من رؤية العالم بوضوح والتي امتلكتها في سن التاسعة بعد أن قضيت أربع سنوات في شبه ظلام  في المدرسة.  بفعل الإنارة كنت أرى الاشياء بوضوح أكثر وخوف أقل.

في اليوم الذي كانت ستختفي فيه فاطمة، كنت وإياها نلعب حين هبت ريح قوية. امتلأت أعيننا بالرمل فعدوت أنا إلى داخل البيت تاركة صديقتي على قارعة طريق الوحدة التي كانت تمر من أمام بيتنا. إستمر هبوب الريح ربما نصف ساعة، هكذا أقول  الآن لكننا لم نكن أيامها نمتلك ساعة لأعرف الزمن  بالتحديد. المعيار الوحيد الذي كنا نمتلكه عن الوقت هو وقت بدء إرسال التلفزيون في الساعة السادسة بعد الزوال وهذا يعني أننا نقضي الوقت قبل هاته الساعة خارج الزمن. كنا نقضي معظم الوقت في الصيف مثلا خارج الزمن. من أجل مقاومة الحرارة كان علينا أن نقضي اليوم الطويل في البيت بدون حركة. نبقى مستلقين على ظهورنا ونحن ننظر للسقف أو ننظر لبعضنا البعض ونضرط لقضاء الوقت.  كنا نتنافس في الضراط ونحسب طولها وصوتها ونرى من المنتصر في إخراج أطول ضرطة. كنا أيضا نتنافس في الخراء ونعد عدد الكويرات السوداء التي نخرجها من أحشائنا. كانت هاته ألعابنا إذ لم نكن نتوفر على أية ألعاب  من دمى ومسدسات وغيرها من الألعاب التي يعرفها الأطفال في العالم. كانت حياتنا خشنة ومليئة بالحرمان من كل شيء. حين توقفت الريح خرجت. كان أخ فاطمة جالسا ورجله مربوطة بالحمال الى شجرة تالكووت أمام البيت. كان رأسه ممتلئا بالرمل والمخاط نازلا من أنفه أنهارا متدفقة. كان يصيح ” فاطمة عن عن ” لم أفهم قصده. فكرت أن فاطمة سئمت من حمله فوضعته على الأرض وتركته. كنت أنا أيضا أفكر دائما أن أفك حمال أخي وأهرب إلى أي مكان آخر، مكان أمتلك فيه دمية وألعب كما يليق بطفلة بدل حمل ذلك الوغد الثقيل على ظهري النحيف. حملت أخ فطيمة وذهبت به إلى بيت أمها “تشاويت”  تسمى كذلك لأنها أتية من منطقة تاشوين. أمازيغ من المغرب الشرقي، رأيتهم فيما بعد بملابسهم الزاهية وقصة شعورهم المختلفة. النساء كن يضعن قصات  كثيفة ويضعن فوق شعورهن خرقا بألوان فاقعة. حين سكنت في ميسور رأيتهم ينزلون إلى المدينة ويمارسون التسول. كانوا عائلات بأكملها تجوب شوارع ميسور وتطلب الصدقة. أم فاطمة كانت من تلك القبيلة لكنها لم تكن تمارس التسول بل هي ربة بيت عتيدة وتصنع الزرابي الأمازيغية بالصوف البلدي فيما زوجها بائع متجول، يبيع العكر الفاسي والصابون البلدي وخيش الحمام ومقابط الباتشا. سألتني تشاويت عن فطيمة وقلت لها أنني تركتها أمام البيت حين هبت الريح ولم أجدها حين خرجت. حاولت أن تسال الطفل ذي العامين لكنه كان يقول فقط “فطيمة عن عن ” قلت لها ربما يقصد أنها ركبت سيارة تقول عن عن. كنت قد سمعت فطيمة تقول له أن السيارات تحدث صوتا هو “عن عن ” ولولت تشاويت  وصرخت “إبنتي ركبت سيارة، هذا يعني أن أحدا خطفها يا ويلتي ماذا أقول لأبيها وأعمامها, أضعت البنت ياويلتي” سرى الخبر في تنجداد كلها عن اختفاء فطيمة الفجائي وتردد أنها ركبت سيارة الى وجهة غير معلومة. فكرت أن فطيمة حققت حلمنا السري في ركوب سيارة وأنها بدون شك قد ساهمت في عملية خطفها. كنت أنا أفكر أيامها أن الوسيلة الوحيدة للهروب من الكدر اليومي هو أن يخطفني أحدهم وأن يذهب بي إلى أي مكان آخر في العالم فيه متسع لقلب طفلة حزينة. كان اللعب أمام المنازل الجديدة خطيرا جدا إذ أنها محاذية لطريق الوحدة وهي طريق تمتد من طنجة الى الكويرة ويعبر منها غرباء كثيرون ولا أحد يعرف مايمكن أن يحدث لطفلات يلعبن على قارعة الطريق. الأمهات لم تكن حذرات يما يكفي ثم إنه لم يكن هناك وسيلة للتسلية خارج مراقبة السيارات التي تمرق بسرعة . كنا نتخيل وجهاتها فنجكي لبعضنا البعض حكايات السيارات التي تعبر من الواحة. كنا نحلم أن نذهب بسيارة إلى أي مكان فقط لنرى هل هناك عالم آخر وأناس آخرون خلف جبل تنجداد. كنا نريد أن نهرب من واقع الحال في تنجداد فالأنهار بدأت تجف وأساكم في غردميت نضب  ولم يبق منه غير خيط رفيع وتتعب النساء لملئ القلل من مائه ناهيك عن الأسماك التي لم تعد تعيش فيه نهائيا. رحيل الأسماك عن أساكم كان نذير شؤم فهذا كان يعني أن الصحراء تزحف علينا بأقصى سرعة وأننا يجب أن نرحل جميعنا عن هذا المكان. كان واضحا أن ذلك سياتي فمعظم الرجال غائبون عن الواحة  من أجل العمل في المدن ولن نتأخر في أن نصبح جميعا مختفين من تنجداد أو مختفين تحت اكوام الرمل الذي يملئ عيوننا كلما هبت الريح بل إن الرمل استقر في اراضي البور كاشتام وغيرها. كنت أنتظر أن يتم أبي دراسته من أجل أن نختفي نحن ايضا من الواحة ولكي أكتشف الأشياء العجيبة التي في المدن كالماء الذي يسيل من شيء اسمه الروبيني. كنت أتعب في تخيل هذا الشيء الروبيني ويعني الصنبور. في رحلته الأخيرة سخر مني أبي لأنني لم أستطع تخيل ذلك الشيء الآخر العجيب قال إنه قصعة معلقة إلى جدار ويمكن غسل الوجه واليدين فيها وقال أن إسمها لافابو. فيما بعد حين رحلنا إلى ميدلت اكتشفت اللافابو: المغسل.

 إنتبهت الأمهات أخيرا أن لعبنا بمحاذاة لطريق أمر خطير خاصة خلال فترة الصباح التي كنا فيها  وحيدات أمام طريق تعج بالعابرين. كانت طريق الوحدة إمتدادا لتاريخ العبور بتنجداد إذ أن تنجداد تسمى كذلك لأنها كانت تعرف بتين انجدا أي مدينة الرجال العابرين إلى التوات والسودان منذ غابر العصور. لم نكن معنيات بتاريخ العبور في تنجداد لكن اختفاء فطيمة جعل الأهالي يلتفتون إلى خطورة لعب البنات قرب الطريق. هكذا صرنا نلعب  داخل بيوتنا أو نذهب إلى قصر آيت عاصم ونلعب بمحاذاة أعفير أي الأخاديد المحفورة خارج القصبة لحمايتها في الزمن الماضي. سيطرت على القرية حالة من الرعب بعد اختفاء فطيمة ولم يعد هناك من حديث غير تلك الحادثة. صارت تاشويت أكثر حزنا منذ أن غابت إبنتها. كانت في الغالب تلبس أعبان تيكشبيلة الأسود وتضع خرقة سوداء على شعرها بالرغم من أنها في الزمن  الماضي كانت تضع ألوانا فاقعة هي ألوان قبيلتها  البعيدة. كانت تبدو في حداد دائم على ابنتها. كانت تتحدث عنها طيلة الوقت وتذكر محاسنها وتتغزل بجمالها وتتسائل إلى أين حملتها السيارة الغادرة. كنا نذهب عندها من حين لآخر وأراها وهي تمخض الحليب ليصير لبنا. كانت تغني أغنية حزينة ليست أغنية المخض العادية. كانت أغنية حداد تقول “استرحلد يا الراحلة ياكمديغيت ربي دا النبي ايغان اعراب” ” هل رحلت ياراحلة ليغثك الله والنبي العربي”. الغوث في المناطق الأمازيغية لايمكن أن يأتي إلا من العربي والنبي أجمل العرب فعليه يعول في الغوث. رأيتها في عزاء أخ زوجها وهي تبكي هذا الأخير وتبكي فطيمة في نفس الآن. كانت تعرف بحدسها أن إبنتها ماتت مقتولة. ماكان يخيفها ويقطع أوصالها هو  أن تكون ابنتها قد اغتصبت قبل ذلك. مرت الأيام وعدنا إلى اللعب بمحاذاة الطريق كما في السابق. عدنا إلى لعبتنا الأثيرة: تخيل الراكبين في السيارات وتخيل حيواتهم البعيدة عنا. كنا نحن بدون سيارات وكان أي شخص راكبا سيارة يبدو لنا شخصا خارقا للعادة. كنا نلعب ونحن نعرف أن في الأمر خطورة لكن كنا نفعل ذلك بإحساس بالتحدي, تحدي تهميشنا نحن أبناء تنجداد الفقراء والمفتقدين لأية وسيلة ترفيه وتسلية خارج الرمل وأكوام الحجارة التي كنا نخترع منها ألعابا. مرت السنون وسكننا مدينة آزرو وعادت ذكرى فطيمة ملحة علي. لا أعرف لماذا سيطرت علي فطيمة واختطافها منذ اللحظة الأولى التي سكنا فيها آزرو. كنت أتخيلها وقد كبرت وأتسائل هل ذهبت إلى المدرسة أم أن اللذين خطفوها استخدموها في بيتهم وجعلوها عبدة لهم. كنت أفكر لو التقيتها هل أتعرف عليها. كنت أنا نفسي خائفة أن أخطف في مدينة آزرو التي بدت لي كبيرة وموحشة وتغص بأحاديث النساء عن الخطف والإغتصاب وحوادث الحمل.  أتى يوم جاءت إلى زيارتنا سيدة, خلت أنني أعرفها. سألت أمي فقالت ” ألا تذكرينها إنها تاشويت جارتنا في آيت عاصم لقد وجدت إبنتها, فطيمة في آزرو” . بعد الغذاء أحطنا بتاشويت وحكت لنا عن ظهور ابنتها

” كانت أخت زوجي في زيارة قريباتها في آزرو وذهبت معهن إلى الحمام. حين كانت تخلع ملابسها كانت هناك شابة تنظر إليها. حين بدأت في فك شعرها من ربطة إخربان   تقدمت إليها الشابة وسألتها من أية بلاد هي فقالت لها من تنجداد. استطردت الشابة وقالت لها أنها تتذكر امرأة كانت تصفف شعرها بنفس الشكل لكنها لاتتذكر من تكون تلك المرأة ” رغم أن تاشويت من تاشوين إلا أنها كانت تصفف شعرها على طريقة إخربان كما نساء تنجداد” . استمرتا في الحديث فقالت لها الشابة أنها تتذكر قرية صغيرة كانت تلتف حول طريق طولية وكانت هي تلعب بمحاذاة الطريق, تذكر أنها كانت تحمل طفلا صغيرا على ظهرها يبزق على شعرها طوال الوقت. تتذكر دراجة نارية توقفت وحملتها إلى مدينة كلميمة ومنها إلى الراشيدية وآزرو. كبرت ولم تنسى طريقة تصفيف الشعر تلك التي تشبه تصفيفة السيدة التي التقتها في الحمام. فاضمة أخت زوجي تعرفت مباشرة على فطيمة. أخبرتها بالحقيقة وأنها بنت تاشويت وقد اختطفت قبل خمسة عشر سنة. عانقتها وفرحت بها. أخذت عنوانها وها أنا قد جئت لأتعرف على ابنتي ولآخذها معي”

كنا نبكي ونحن نسمع تلك الحكاية العجيبة. كنا أيضا متحمسات لمعرفة اللاحق من الأحداث. هل ستعود فطيمة إلى حضن أمها؟ هل ستفضل أن تبقى مع الناس الذين ربوها؟ هل ستعود إلى تنجداد أم أنها ستفضل الإستمرار في العيش في آزرو؟

كانت تاشويت متأكدة أنها ستحمل إبنتها معها وتمضي بها إلى تنجداد, هناك ستعيش معها وتعوضان الزمن الضائع. لا شك أن لها أحاديث لاتنتهي تحكيها لإبنتها. لاشك أنها تريد أن تأخذها في حضنها ولا تتركها تغيب عنها لحظة واحدة. كانت التساؤلات تملؤني وأنا أفكر  أي موقف سيكون لفطيمة الآن وقد كبرت في آزرو وربما تعلمت.

مر اليوم وأنا انتظر عودة تاشويت من عند ابنتها. عادت في المساء وحيدة ” أين فطيمة؟ سألتها وردت بصوت أقرب إلى النواح ” فطيمة سرقتها مني المدينة الغدارة, إبنتي لاتريد أن تعود معي إلى تنجداد. إنها ممرضة الآن وحياتها في آزرو كما قالت. قالت أنني أمها التي ولدتها ولكنها لن تستغني عن الأم التي ربتها وعلمتها. قالت أيضا أنها لو بقيت معي لما تعلمت ولما صارت ممرضة كبيرة. لم أكن بالفعل أريدها أن تشتغل. كنت أريدها ربة بيت مثلي, أن تتزوج إبن عمها وتكون سيدة بيت ناجحة وتحافظ على سير حياتنا. نحن لانعلم البنات.”

 فطيمة اختارت قدر الشغل وعيش المدن ماذا كان لها أن تختار؟ أن تعود إلى وقفتها أمام طريق الوحدة الخطيرة أم إلى ريح الشموم أم إلى قدر الجفاف الذي سيجعل كل أناس تنجداد يتمنون أن تخطفهم سيارة عابرة لتعبر بهم إلى الهضاب والسهول. كانت تاشويت تبكي وهي تقول ” نحن فقراء ولا شيء لدينا نعطيه لفطيمة, ربما لو فكرت جيدا أن تطلب تعيينها بمستوصف تنجداد, هكذا تداوي أناس واحتها؟ “

 لم يكن ممكنا أن تعود فطيمة إلى ما كان, كانت قد اختارت أرضا سهلة, أرضا من ماء ومن مطر, هل تحاسب لأنها خانت تنجداد؟ ألم نخن جميعنا تنجداد؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.