الرئيسية | شعر | المحو | علال الحجام

المحو | علال الحجام

علال الحجام

 

لا عليك، أيّها الماءُ

خذْ نصيبَكَ من بيدرِ الشّوك،

وراوغْ منعطفاتِ رحلةٍ

اشتعلتْ أذيالُها على مشارفِ الإشراق،

وأحرقتِ الضّوضاءُ والأضواءُ خرائطَها،

ومحتْ مسالكَها الفِجاجْ…

هو وحدَهُ أدْركَ في الصّباح الغامضِ

أنّ أغنيةَ الحسّونِ انفرَطتْ يواقيتُها

        عندما لم تصدّقْ أنّ الكأسَ بكتْ

          في محراب كرْمةٍ ثكلتْ عناقيدَها،

وأنّ القلبَ كبا في عتَبَةِ الفردوسِ

     عندما لم يصدّقْ وعيدَ الجسَدِ،

                   فأوغلتِ الأسئلةُ

في عتمة الأدغال تبحث عن سراجْ

حينما انسلّتِ الرّوحُ ثابوتاً إلى قبر السّكانير

علّ الحروفَ تطمئنُّ على مكتبةٍ يهدّدُ حبرَها النّسيانْ،

وما حيلةُ الحسّونِ                      بين مَخَالبِ الشّركِ؟

ومن يدْري؟

ربما كادَتْ درّاجةٌ ناريةٌ أمام متاجرِ “لافاييتْ”

                           تدهْسُ قافيةً له خاشعة

                             غوتْها النّسمةُ والوترُ.

ربما اشتعلتِ البصيرةُ صدفةً عندما انطفأ البصَرُ،

ومشتْ نائمةً يترنّحُ عكّازُها

من شارع “ألزاسْ لورينْ” حتى شارعِ البريد،

واهتدَتْ وحدَها إلى عُشّها

برنينِ رويٍّ يساقي القرنفلَ

ما زالَ يردّدُ أنغامَهُ الشّجرُ،

أو قبسِ عينينِ زرقاوينِ أشرقتا خلف الزّجاجْ،

أو حتّى بصيصٍ باقٍ في الوجدانْ.

ربما صادفَ قنديلٌ متثائبٌ في الأعماق،

لحُسن الحظّ،

ملاكاً يحرّضُهُ على الطّيرانِ قبل انطفاء العنفوان.

ربما تمدّدتِ الفكرةُ مُنهكةً تحت جناحٍ أفردَهُ القمرُ

على مقعدٍ في حديقة “فكتور هيجو”

كعرّافةٍ تقرأ طالعَ الأزهارِ في تنهيدة الأنهار.

ربما تحرّشتِ الرّغبةُ بقبّرةٍ

هشّم إلفُها بمنقاره رأسَ الرّغْبَةِ غيْرَةً

                          ثمّ لاذا بالفرار.

ربما انتحرَتْ وردةٌ

كان يحملُ الورّاقُ مسرّاتِها في الجرابْ

وانتشرَتْ رقائقُها من ظلّ الأراكةِ يرقّشُه نمشُ الشّمسِ

حتى عشّ سمّانةٍ تدثّرُهُ دجنةٌ مُفْزِعَة،

تاركةً على سِفْرٍ مخرومٍ بقعةَ دمْ

بحجمِ نصرٍ صاخبٍ في حبكة الخرافة

شاهدةً على ارتداءِ الحدْسِ جبّةَ اليقين…

ـ هل يذْبلُ الحلمُ الذي يمتدّ في برعومِه

والسّحْبُ لم تتعوّدِ الخذلانَ فوقَ حقوله؟

ـ ما همّ أن يمحُوَ القصيدةَ أو تمحُوَهْ،

إن لم يحلّق نورسٌ في فيافي الجنوب

قبل أن ترتوي بنداءاته موجةٌ في الشّمالْ…

ـ على أيّ حالْ،

فهو يتذكّرُ بتأكيدٍ

أنّه كان طوالَ الأصيل في مطعمٍ

لا يعرف اسمَه على مرْمَى حجَرٍ من محطّة القطار،

وأنه أكل شريحةَ لحم نصفَ نيّئةٍ،

وخُضَراً وبطاطسَ مقليّةً.

وهو يكتُب طلسمَ “المَحْو” ويمزّقُه مرّات

على إيقاع التراموي يذهبُ ثم يؤوب،

يتذكّرُ جيّداً،

أنّ برميلاً كان ينادِمُهُ

منتشياً بمبارزة الغابِ للمنشارِ على شفير الهاوية،

وأنّ كتيبةً من القناني الفارغة كانتْ تخفرُه،

يتذكّرُ أنهُ دفع 30 يورو

لنادلٍ مثلِ جميع النّدُلِ لا تفارقُه بسمتُهْ،

ونفحَهُ بإكراميةٍ

لا تجود بها إلا أريحيّةُ الدّالية،

                  قبل أن يفتحَ البابَ مودّعاً

لفراشاتٍ جذْلى تسرَحُ في أرصفة المقاهي

                      ثم تضيعُ في الدّروبْ…

ـ لكن، في الدّهليز الممتدّ بين بابِ المطعم

وبابِ التّاكسي الأسودِ الذي أقلّهُ

بجُرحٍ غائرٍ في القلب،

هل يتذكّرُ

أنّ الليلَ الدّامسَ في أبديةٍ تُنكرُها الذّاكرة

                 ظلّ يحفُرُ في غفلةٍ منهُ كهْفا

                       تنطفي الذاتُ في قرِّهِ عَدَمَا،

فإذا به حجرٌ                  يتجرّدُ من ذاته قطعةً قطعةً

ثم يتدحرجُ نحو فراغٍ بطعم الطّينِ من قمّةٍ ما لها قاعدة،

وإذا به لا شيءَ…

يمرُقُ سرّاً إلى أصلِهِ المحْضِ في لحظةٍ شاردة…

راقصْ إذن أيّها الماءُ وعدَ الغدِ،

فسيّان أن تدلّ السّلحفاةَ على الجدولِ

قطرةُ ندى أو نقيقُ ضفدعَة،

واضْرِبْ عميقاً في المدى

خلفَ الضّبابِ لكيْ توافيَ منبَعَهْ،

وخُذْ نصيبَكَ من زوبعَةِ الغيبِ

وأنتَ تشْرَبُ قهوَةً

في حديقةِ “لاباستيي” قبل الغروبْ،

تسألُ المدينةَ عن نغمٍ ضاعَ في هرَجِ المهرجانْ،

                    وتقرأ طرْسَ “المَحْو”

يتابعُ رسمَ جنونٍ يؤجّجُه الزّعفرانْ

           على شطحات شواردِهِ

                بما تساقَط من ريشٍ

على إيقاع التراموي يذهب ثم يؤوبْ…

غرونوبل ــ الهرهورة، صيف 2016

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.