الرئيسية | ترجمة | الشخصية سيّد، والمؤلف مبتدئ | خوسيه ساراماغو ، ترجمة: محمد عيد إبراهيم – مصر

الشخصية سيّد، والمؤلف مبتدئ | خوسيه ساراماغو ، ترجمة: محمد عيد إبراهيم – مصر

خوسيه ساراماغو 

ترجمة: محمد عيد إبراهيم

من محاضرة (نوبل) 1998، للروائيّ البرتغاليّ: خوسيه ساراماغو 

“حينما يتأخّر النوم، كانت تسكن الليل قصص يرويها جدّي: خرافات، عفاريت، أشياء مرعبة، ملاحم عجيبة، وفيات قديمة، صراعات بعصيّ وحِجار، كلمات أسلافنا، شائعات لا تهدأ عن كريات تجعلني يقظاً وهي تهدهدني بهدوء.
لا أعرف قطّ إن كان جدي قد صمت حين أدرك أني رحتُ في النوم أم أنه ظلّ يتكلّم حتى لا يتبقّى عندي نصف سؤال عن سبب توقّفي بما أقوله عمداً خلال هذا كلّه: (وماذا حدث بعدها؟)، ربما كرّر القصص لنفسه، حتى لا ينساها، أو ليثريها بتفاصيل جديدة. في ذلك العمر وكما فعل معظمنا، لستُ بحاجة أن أقول، كنتُ أتصوّر جدّي سيد المعرفة في العالم أجمع.
حينما تشقشق الطيور، مع أول نور، أستيقظ، ولا يعود جدّي هناك، فقد مضى للحقل مع حيواناته، تاركاً إياي أواصل نومي. ثم أنهض، أطوي البطانية الخشنة وأمشي عاري القدمين، كنتُ أمشي في القرية دائماً عاري القدمين حتى بلغتُ 14، وبالقشّ في شَعري، أمضي من الجزء المزروع إلى الجزء الآخر، جنب المنزل.
كانت جدّتي تسبق جدّي، وأمامي وعاء قهوة كبير بقطع من الخبز، تسألني إن كنتُ نمت جيداً. إن بلغّتها: أحلامي رديئة، تحمّل قصص جدّي السبب، وهي تؤكّد: ليست الأحلام صلبة. كانت جدّتي حكيمة، لكن لم تستطع تسنّم الذرى التي ارتقاها جدّي، ذلك الراقد تحت شجرة التين، وجنبه حفيده، حيث يحرّك الكون أمام صغيره بمجرد كلمتين. وبعدما مات جدّي، قالت جدّتي مرة، وهي تحدّق في أكبر نجم وأصغره فوق رؤوسنا: (العالم جميل جداً، ومن الأسى أننا سنموت).
عندما أصوّر والدَيّ وجَدّيّ بألوان أدبية، أحيلهم من أجسام ذات لحم ودم إلى شخوص جديدة، وأتتبع الطريق الذي ستسير فيه تلك الشخوص من بعد، في الربح والخسارة، فأتعرف أكثر على نفسي، خالق تلك الشخوص، وخالق حيواتها.
أعرف الآن أسياد حياتي، من علّموني ضرورة العمل الشاقّ في الحياة، أراهم يمشون أمام عينَيّ، رجالاً ونساءً من ورق وحبرٍ، من ظننتُ أني كنتُ أرشدهم ويطيعونني كمؤلف، كالعرائس الناطقة، من دون تأثير عليّ أكثر من تأثير الخيوط على يدي التي أحرّكهم بها.
يفكّر المؤلف المبتدئ: (نحن عميان)، وجلس يكتب (العمى)، ليذكّر من يقرأونه أننا نضلّ عن السبب الذي نستذلّ به الحياة، أن كرامتنا الإنسانية تُهان كلّ يوم بقوة العالم، تحلّ الكذبة محلّ الحقيقة، ويسعى المبتدئ إلى التخلّص من وحوشه التي ولّدها عمى العقل، ويبدأ كتابة أبسط القصص: شخص يفتش عن آخر، فقد أدرك أن الحياة لا تساوي شيئاً أهمّ من الاحتياج إلى كائن بشريّ.
أسماؤنا كلها هناك، أسماء الأحياء وأسماء الموتى. والصوت الذي يكتب هذا يمثّل صدىً لأصوات شخوصي، بصوتٍ أعلى من أصواتها، فاغفروا لي إن كنتُ لم أسطّر إلا أقلّ القليل، فهو بالنسبة لي كلّ شيء”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.