الرئيسية | حوار | الشاعر برنار نويل: عندما لا نعرف أين يوجد العدو | محمد بنيس

الشاعر برنار نويل: عندما لا نعرف أين يوجد العدو | محمد بنيس

حاوره :محمد بنيس

شاعرٌ وناثرٌ وكاتبٌ ورسام أيضاً، الفرنسي برنار نويل. غزيرُ الانتاج بشكل لا يوصف، و”ماهر شاطر” بطريقة تفوق الوصف. فالأمور واضحة في ذهنه كما يقول التعبير الفرنسي. شاعرٌ من طراز خاص، إذ جعل من الجسد البشري بتعقيدات عمله، مطرحًا لغنائية استثنائية في غير ما كتاب. ولا يبدو في كتبه النثرية أقل إبهارًا. بيد أن جانبه النقدي للرأسمالية والعولمة، الذي يجلو وجه المثقف ابن عصره وزمنه، غير معروف عربيًا على ما يبدو. لذا كان أسّ الحوار هنا ولبّه. حوار مختلف غير مألوف، بين الشاعر برنار نويل ومترجمه / صديقه الشاعر محمد بنيس.

 مجموعة نصوصكم التي تمت ترجمتها وصدرت مؤخراً بالعربية، تحت عنوان “الموجز في الإهانة” ذات طبيعة سياسية. هل يمكن أن تفسروا لنا كيف أن رؤيتكم السياسية هي قبل كل شيء رؤية نقدية؟

 النصوص المجموعة والمترجمة في هذا الكتاب لها بالفعل طبيعة سياسية، لكنها قبل كل شيء تأمل في حالة المجتمع وقت كتابتها، وهذه الحالة ذات صلة بالسلطة أو تستدعيها. والمفارقة هي أن السلطة اليوم قامعة أكثر فأكثر وسياسية أقل فأقل، أي أنها لا تمثل المجتمع بخلاف ما يبدو لأنها تتحرك لمصلحة قوى اقتصادية، متقنّعة بدورها القديم لإدارة المؤسسات والمصالح العمومية.

 إلى أي حد تمثل هذه الرؤية النقدية، بالنسبة لكم، جانباً من أخلاقيات الكتابة؟

الكاتب شخص يرتبط بعلاقة مستمرة مع اللغة وهذه بالضرورة متأثرة بالاستعمال الذي تخصها السلطة به لتدافع عن الإجراءات التي تتخذها وتتباهى من خلالها بالهدف أو النتائج. إن السلطة تحيط نفسها اليوم بضجيج إعلامي لتمجّد ما تقوم به أو لتخدعنا في النظر إليها. من ثم يصل الكاتب إلى التساؤل عن الفرق بين هذا “الضجيج” وبين “المعنى” ويحاول بالتالي أن يرجع المعنى إلى أصله من خلال نقد الوضعية.

تضعون “الإهانة” كعلامة على سلطة شمولية تقود إلى استعباد الأغلبية. يجد القارئ العربي صعوبة في فهم كيف أن سلوكاً كهذا للدولة مفروضاً في فرنسا، بلد الحقوق والحريات، بما فيها حرية التعبير.

نعم، فرنسا تتفاخر بأنها بلد حقوق الإنسان لأنها كانت أول بلد يعلن عنها طيلة الثورة الفرنسية الشهيرة لعام 1789. لكن هذه الحقوق لم تمنعها قط من الاستعمار ولا من شن حروب استعمارية مع العنف الذي نعرف، بالأخص في الجزائر، منذ وقت ليس بالبعيد. فكيف لا نشعر بالخجل من الذي يدمّر الشرق الأوسط على مرأى ومسمع الغرب بكامله وهو يعظّمُ حقوق الإنسان.

الخصاء الذهني

ما رأيكم، والحالة هذه، في الأغلبية التي لم تعد تقدر على أن تعبر بحرية عن رأيها وتدافع عن كرامتها؟

هل تبحث الأغلبية عن التعبير؟ آملُ ذلك، لكن جميع وسائل التعبير هي الآن في يد رجال الأعمال بالنسبة للصحف؛ وفي يد الدولة ورجال الأعمال بالنسبة لقنوات الإذاعة والتلفزيون. وهذا يحدّ، يوجّه ويسيّر بطبيعة الحال التعبير العمومي، الذي ليس له من العمومية سوى النشر وليس العمل على إعداده. هكذا، فإن هذه الحرية، في البلدان التي تكيل المدائح لحرية التعبير، نسبية جداً. أثارتني هذه الوضعية حوالي 1975 بالمقارنة مع البلدان التي كانت تسود فيها الرقابة، عندها إذن، ومن أجل أن أعبّر عن نسبية هذه الحرية، ابتكرتُ كلمةَ الرقابة على المعنى، التي تتضمن الحرمان من المعنى بالمقارنة مع الحرمان من الكلام.

 تحليلكم الحالة الحالية لخضوع الأغلبية، يتركز في الخطر الذي يمثله تدفُّق الصور على الدماغ البشري. كيف وصلتم إلى صياغة هذا التحليل؟

لم أتوقف عن رؤية تعاظم تأثيرات الحرمان من المعنى بعد سقوط جدار برلين حتى أنني وصلت منها إلى ملاحظة “خصاء ذهني” مُعمَّم بفضل التلفزيون بالدرجة الأولى. هل كان الخصاء الذهني ناتجاً عن تخطيط مُسبَق؟ لم أعتقد في ذلك عند الوهلة الأولى إلى أن شرح مدير القناة التلفزيونية الفرنسية الأولى، وهي القناة التي تتمتع بمشاهدة عالية، أن وظيفته هي أن يصنع “دماغاً جاهزاً” للرسائل الإشهارية (لم يقل الرسائل السياسية لكن ذلك كان مفهوماً). منذ ذاك الوقت، لم تتوقف الوضعية عن التفاقم مع مضاعفة أنواع الشاشات التي أصبحت بحجم الجيب. هذا الاحتلال الذهني بالصورة يغوي، ويبدو في الظاهر أنه لا يتسبب في أيّ ألم. لا نعرف بعد هذا أين يوجد العدو ما دام لا يرغمك ولا شيء يدل على الإرغام.

 تحليلكم يذهب أبعد وضد كل إعلاء من شأن الوسائل الإلكترونية، التي تعطي الأفضلية للصورة على حساب الصفحة والكتاب، خاصة. تَسارُع الصور، بالنسبة لكم، لا يتطلب أيّ تعلّم. فالصور مضادة للتعلم ومضادة للإبداع. فهل معنى هذا أننا نعيش نهاية الكتابة وبالتالي، نهاية المعرفة والإبداع اللفظي؟

لا أعرف هل نعيش نهاية الكتاب، لأنه يبدو لي وسيلةٌ لا غنى عنها تبعاً للعلاقة التي يحافظ عليها حجْمُ الكتاب مع دخيلتنا. المسألة هنا هي أن القراءة تتطلب مجهوداً مُعيّناً وأن استعمال الشاشات لا يتطلب أيّ مجهود. التفكير يتطلب بدوره مجهوداً، والتأمل أيضاً، فيما النقر على شاشة يفتح لك إمكانية ولوج جميع المعلومات والاكتفاء بنقلها / لصقها. ليست هذه نهاية المعرفة لكنها تتحوّل إلى نظام آلي. أما بالنسبة للإبداع اللفظي، فإنه شأن حميم، لكن هل سيحافظ الإنسان على حميميته؟

إذن، كيف نقرأ التسابق الملاحظ بين المؤسسات المدرسية والجامعية إلى الاستعمال المفرط للوسائل الإلكترونية؟

يبدو أن الوسائل الإلكترونية تسهّل تعميم ولوج المعرفة المباشر. هو وهْمٌ بطبيعة الحال، لكن المستوى المدرسي، في فرنسا على الأقل، لم يتوقف عن التدنّي، ونعتقد جازمين أننا نحسّنه بالاقتصاد في عدد المدرّسين.

 هل يمكن أن نتوقع، في زمن هيمنة الصورة، توفّر حظ للمحافظة على المعنى؟ وضمن أيّ حدود يمكن مقاومة هذا التضخم في استهلاك الصورة؟

لا يمكن أن نقاوم إلا بحملة توعية، غير أن كل شيء معمول لمنعها، والأدهى من ذلك أن المنع يتم باسم الدمقرطة. أظن أن الوعي يملك لحسن الحظ طاقة التمرد. يبقى أن تشتعل الفتيلة.

 فرنسا، مهدُ ثقافة الثورة، توجد حالياً في وضعية الهجوم على مكتسبات اجتماعية تحققت بفضل النضالات التي قادها اليسار. فأين هو اليسار اليوم؟

المسألة هي أننا محكومون منذ ما يقرب من خمس سنوات من طرف اليسار الاشتراكي، وأن هذه الاشتراكية كل مرة تصل إلى السلطة تستعجل خيانة المُصوّتين عليها. العلامات السياسية خادعة بخلاف البرامج التي تعلن عن اختيارات وأفعال. نحن الآن في مرحلة البرامج ما دمنا في مرحلة انتخابات، لكن الكذب للأسف لا يهشّم وجه الكاذبين.

 كنتم دائماً إلى جانب القضية الفلسطينية: خلال فترة الشباب دافعتم عن القضية الجزائرية؛ ثم منذ ذلك الوقت أصبحتم تدافعون بحماس عن القضية الفلسطينية. أيُّ معنى تعطونه لدفاعكم عن الشعب الفلسطيني، في سياق دولي لا يتوانى عن توفير الامتياز لتفوق إسرائيل رغم خرقها الذي لا يتوقف للقانون الدولي؟

ماذا أقول؟ سلوك إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني فضيحة للغرب كله الذي يدعّم إسرائيل حتى في جرائمها. لكن المملكة العربية السعودية ومصر لا تتّبعان سلوكاً أفضل، إلاّ إذا زدْنا أن القيادة فيهما مبيعَة للغرب. وهذا يستمر منذ أكثر من سبعين سنة. أنا معجب بمقاومة الشعب الفلسطيني، وأخجل من أن أكون شاهداً عاجزاً على احتقارها الذي لا حد له.

المصدر

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.