الرئيسية | فكر ونقد | السؤال الفاتن في شعر مبارك الراجي | حسن الرموتي

السؤال الفاتن في شعر مبارك الراجي | حسن الرموتي

حسن الرموتي 

 

كلما استبدت بي الرغبة  في أن أكتب عن مبارك الراجي، أجد نفسي عاجزا، لأن الراجي شاعر حقيقي يكتب في الصمت بعيدا عن هذا النقيق الذي يملأ اليوم الساحة الشعرية. إننا وفي كثير من الأحيان لا نلتفت إلى ما هو جميل في ظل هذا الواقع الذي تحكمه في الغالب المحاباة… منذ صدور ديوانه الأول و الوحيد – ضد اليابسة أو بهاء النسيان – في سوريا ولم يوزع في المغرب، الديوان فاز بجائزة البياتي للشعر برئاسة سعدي يوسف و الشيخ حسب جعفر  وغيرهم، وهو المغربي الوحيد الفائز بهذه الجائزة، منذ ذلك الحين ظل الراجي يكتب بعيدا عن الضوضاء ، يكتب في صمت الشعراء الكبار دون أن تلتفت له أي جهة  داعمة لنشر أعماله، وشكرا لدار الوطن التي عملت على إصدار طبعة مغربية لهذا الديوان بمساهمة أصدقاء الشاعر. ما زال الراجي يواصل الكتابة الشعرية بأرق الشاعر الجميل و الصادق الساعي إلى الكشف عن تناقضات الذات وارتباطها باليومي وبالحياة في قلقها الوجودي والروحي المشبع بالألم والحزن والتشرد وبالمكان، خاصة البحر في هدوئه و صخبه. ثم الريح العاصفة بمدينتة الهامشية، كاشفا عن سرها حيث سكنته  سكنها رفقة كائنات أخرى ، كاللقطط و الكلاب الشاردة، وحلزون المقابر وديدانها والنوارس.. هذه الكائنات الأليفة و المنبوذة هي صديقة الشاعر في تيهه الأبدي.. اليابسة عالم موبوء لا يمنح فرصة للحلم ليصبح البحر نقيضا لليابسة، مكانا للخلاص، يمنح للذات فرصة انطلاقها  نحو الأعالي  كما النوارس. الشاعر يسترجع طفولته فوق السطوح مع النوارس، وهي تحلق عكس الريح، حالما ببطل بحار على غرار الأساطير القديمة، لكن الخيبة تلاحقه  وسط عالم لا يعترف بالذات، و تصبح الذات مفتوحة على الوجود بأسئلتها المؤرقة والبعيدة ..هذا الشاعر الطفل الذي كان يدفن محفظته المدرسية في رمال الشاطئ يدفن كتابي التاريخ والجغرافيا، لأنه لا يعترف بالحدود أمام البحر المفتوح على الانطلاق نحو الآفاق البعيدة، يصعد للسطوح ليشاغب بيض النوارس ليشقها، ليجعلها تنطلق نحو الفضاء: يقول

–         سراً  شقّقنا البيوض  / في سطوح البيوت المٙنارات / سراً جنّحنا النوارس

منبتين لها في الأعالي الرّفرفات / سراً أيقظنا في الأرحام نطفة زرقاءٙ

لسُلالة بحارة من ريح / سِراً أبْكٙيٙانا في العزلة البعيدة /في زوايا الأسئلة والقصائد .

القصيدة عند مبارك الراجي كما يقول، هي كيمياء وجود الشعر، هي ملاذ الشهقة الأولى.. القصيدة هي امرأة جميلة تسوق الليل نحو قارورة كحلها وهو طفلها.. القصيدة امرأة مدلال، يستعصي فك طلاسيمها، لكن الشاعر مبارك يعرف، كيف يطوع القصيدة واللغة بكل استعاراتها وانزياحاتها ودلالاتها  ويخلق عالمه الحزين، عالم تيمته الموت،  فالمقبرة سرير أبدي  للكائن الإنساني.

الشاعر مبارك الراجي هو شاعر الألم و اليتم بامتياز، بعد فقده للأب و الأم مبكرا،.. أسئلة الموت سترافقه إلى اليوم.. وتصبح الكتابة وسيلة لمقاومة هذه الأسئلة المفتوحة على التيه،  وعلى الجدوى من السؤال، سؤال الموت. الأم غائبة صورتها في ذاكرة الشاعر… الأم هي هذه النبتة الملتوية في المقبرة الداغلة. هذا الموت الذي يختطف الأحبة فيصبحون مجرد ذكرى، مجرد اسم على الشاهدة لا معنى له، يقول الراجي:

–         اسم الميت في الشاهدة ../ الحلزون الذي يزحف / وئيدا فوق حروفه / يقول :

هذا ليس اسمه الآن / كل عشبة تمنحه اسما / وكل قطرة ماء …

في المقابل الموت الذي تحيل عليه كلمات أخرى كالمقبرة مثلا، فإن الحياة كنقيض له حاضرة في الديوان، من خلال التجسيد  الشجرة، فهي رمز للحياة، تقاوم من أجل البقاء، تكره الحطاب لأنه بدوره سالب للحياة، الشجرة  تعشق الحياة وتبحث عن من يبعث اللذة في جسدها كما الأفعوان وهو يتسلقها ويجعلها تحس بوجودها. شعر الراجي مفتوح كذلك على التيه و التشرد ومرافقة الحيوانات التي تغدو أنيسا مشاركا وسط هذا الفراغ المفضي إلى الضياع… صولو الكلب الذي صاحب الشاعر في تيهه ووحدته وقاسمه الحب ولقمة العيش معا، أثناء حراسته للمؤسسة الكهربائية لتنعم المدينة بالكهرباء، الراجي هنا من طينة الشعراء الصعاليك، يبحث عن الحقيقة، عن السؤال الفاتن بعيدا عن القبح و الرداءة، منتشيا بالسيد درويش والموسيقى الراقية  لفيفالدي وسمفونية الفصول الأربعة، مشاركا كلبه صولو، طامحا إلى الحرية  لأنها عنوان الوجود الإنساني… يقول الراجي  موجها خطابه لصولو كلبه الوفي :

         أعرف تلك الكلبة الساحرة المغناج / التي سلبت منك نباحك الجميل /

انبح انبح أنت أيها الرائع / فيما أنا سأصرخ / حر كلانا يا صولو …

مبارك الراجي  واع في شعره  بماهية الشعر، الشعر ليس ترفا زائدا، الشعر هو الحلم الذي يجعلنا نسمو نحو الكمال الإنساني… الشعر هو الألم هو الإحساس بمرارة الفقد والتيه  في عالم لا يسمع.  الشعر هو السلام… الشعر هو الحياة، الشعر هو السؤال الذي مازلنا نبحث  عنه… لذلك كان الشعر نفسه موفقا حين اختار هذا الشاعر القادم من الهامش ومن الجنون واليتم والتشرد الحقيقي، كونه أدرك روح القصيدة حيث يترك روحه، يقول :

في اللذعة تترك النحلة روحها / كذا عند كل قبلة أترك روحي / وأعود لأرتشفها فوق جبينها حيث الزهور لا تنقطف / في أي ماء أغسل جسدي الآن / وعليه روح القصيدة.

 ذلك هو قدر الشعراء الكبار سلالة الشعراء الصعاليك الباحثين عن هوية الوجود الإنساني في عالم لا يرحم ولا يسمع، والباحث عن سؤال في أعماق هذا الوجود.

         أنا النجم الذي هوى / ليس لأنه مات / و لكن لأن في الهوة السؤال الفاتن .

مبارك الراجي شاعر أنيق في صوره وشعره، شاعر قادم من حدود الألم و المعاناة، عاش اليتم الفعلي مكتويا بنار الواقع، جاء شعره تعبيرا خالصا عن هذه المعاناة.. ديوانه ضد اليابسة لم يحض بالاهتمام الكافي… لأنه شاعر من الهامش..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.