الرئيسية | سرديات | الخروج من سورية | فاطمة ياسين

الخروج من سورية | فاطمة ياسين

في مطار إسطنبول، حيث تزدحم الجنسيات واللّغات توجد لوحات كبيرة واضحة تحدّد أعلام الدول التي لا يطلب من حامليها سمة دخول، أعلام كثيرة عددها يكاد يقارب عدد دول الأمم المتحدة.. الطوابير الطويلة أمام موظفي المطار تسير بسرعة فلا يكاد موظف الجوازات يرفع رأسه أمام القادم الجديد، لكنه يمنحه من الأسفل نظرة سريعة كما يليق بموظف حكومي بيروقراطي، ويناوله الجواز ليتجاوز الخط الأحمر إلى الناحية الثانية من المطار..

تململ الطوابير الطويلة يقابله النفس العميق الذي يأخذه مَنْ يقف إلى الطرف الآخر، وكأنه نفسٌ خارجٌ من عملية غوص بحرية، والحدود البرية الجنوبية مع سورية شيء مشابه للمطارات، لكن الأعداد هناك أكبر وسير الطوابير أبطأ.. تتحرك الموجات البشرية على شكل جماعات متراصة لتحصل على الختم الدائري وتصبح داخل الحدود الآمنة مخلفةً وراءها القذائف والانفجارات والحواجز الكتيمة.

عبر «زهير» المطار الدولي منطلقاً من سورية بعد مرور مؤقت ببيروت قابل خلاله «ميساء» التي كانت تخطط، مثله، لإقامة سريعة في إسطنبول ثم الانتقال إلى أزمير ومحاولة مقابلة مهرب لخوض عباب البحر إلى الضفة الأوروبية ذات السمعة الحسنة.. ولكن التخطيط شيء والتنفيذ شيء آخر. أمضى زهير وقته مُتسكّعاً في محلات الشاورما السورية الكثيرة المنتشرة في حيي الفاتح وأكسراي في إسطنبول، وأحب الجلوس طويلاً إلى المقاهي زهيدة الثمن، حيث يقابل شباناً يشبهونه بأمور كثيرة كطريقة الخروج وأسبابه وانتظار معجزة المهرب الذي سيصل بهم إلى الضفة المقابلة.. بعد أن يحسّ بامتلاء معدته بقطع الشاورما وقد تناول لفافتين وكأساً مترعة بالعيران كان زهير يجلس وحيداً يراقب القطط المتجوّلة بين أرجل الجائعين وهي تبحث عن قطعة صغيرة ضائعة وسط حشائش الرصيف..

يأخذ زهير نفساً عميقاً من سيجارته ويتذكر أوراقه البيضاء قياس A4 التي يسجل عليها كل ما يخطر في باله.. كان يفضل أن يعبِّر شعراً، فيكتب ويملأ الأوراق بسرعة بعد عودته من المشاركة الأسبوعية بالمظاهرات، لكنه فيما بعد تقاعس، وفضَّل المتابعة على التليفزيون الممل قبل قراره الرحيل عندما تمدّدت قطعات الجيش خارج ثكناتها ووجدت لدباباتها موطئاً بين بيوت المدنيين..

الشوارع الحمراء والجثث الكثيرة على الشاشات أشعرته برعب ضاعف من إنتاجه الشعري، هربت فكرة الذهاب إلى أزمير ومعها فكرة الهروب إلى أوروبا من رأسه، في العامين اللذين قضاهما في إسطنبول، حيث لم يسأله أحد أين هويتك؟، ولم يصادف حاجزاً واحداً، وحتى الحوادث القليلة التي حدثت للسوريين هناك كانت بعيدة عنه، شعر بأمان بعد أن وجد موقعاً إلكترونياً ينشر قصائده لقاء مئة دولار للقصيدة الواحدة.. ووجد فتاة تشبهه وتعجب بقصائده، أحبها، وأصبحا يلتقيان دورياً، يقرأ لها وتضحك فيشعر أنه امتلك كل أوروبا.. أما ميساء التي رافقته في الطريق فكانت مُصمّمة على الخروج. خططت جيداً وبقيت في إسطنبول أسبوعين فقط، شاركت خلالهما برحلة برية مرّت على معالم إسطنبول، لم تستهوِها المناظر ولا الأنهار، كانت ترمق الغابات والأشجار بنظرات عدائية مفضلة الشوارع المرصوفة والإشارات الضوئية..

ميساء تحب الضوضاء والجموع الكثيرة تخاف الوحدة وزادها خوفاً الأسبوع الذي قضته في أحد أقبية الأمن في الشام عندما أخذوا أخاها وأخذوها معه، خرجت من السجن كومة من الحطام، ورحلت بأول فرصة، كانت تتذكّر النافذة الحديدية العالية والأرضية الرطبة المتسخة ووجوه زميلاتها في المعتقل، فتصاب بقشعريرة شديدة وتنظر إلى ساعتها كأنها ترغب أن تركض العقارب بسرعة، لتصل إلى هدفها النهائي.. وجدت المهرب والقارب المناسب، وبرحلة بحرية سادها الهدوء، لم تواجه موجة واحدة، وخلال أقلّ من ساعة كانت على الشاطئ اليوناني، خلعت سترة نجاتها بثقة وقذفت بها إلى الكومة البلاستيكية الكبيرة واستقلّت باص الأمم المتحدة إلى ألمانيا…

الخروج عادةً ليس سهلاً فقد يتكلّل بكثير من المصاعب والهروب عبر الحدود البرية، حيث عليك أن تتفادى رجال العصابات وقُطّاع الطرق والمهربين وحرس الحدود، لكن حظ ميساء كان جميلاً فقد أتت بعد مظاهرات ألمانية وأوروبية شعبية داعمة لحقوق اللاجئين فلم تضطر لقطع أي مسافة سيراً، أما دون ذلك فيجب أن ترقيك والدتك وربما تُحمِّلك حجاباً يحميك من كل شيء.. هكذا فعلت أم محمد، لم تقوَ على مغادرة سورية، ولكن ابنها محمود غادر مبكراً عبر الطريق البري متجهاً شمالاً صوب تركيا، عبْر الحدود الدولية وعندما تعرّض لإطلاق الرصاص من أحد الكتائب التي لم يعرف لمن تتبع في ولائها تمسّك بحجاب والدته أكثر، لم يدر أن الرصاص في الهواء بل أعتقد أن الحجاب فعل فعله السحري.

وصل قرية الريحانية جنوب تركيا مريضاً، تحلّق حوله السوريون والأتراك، أحضروا له طبيباً وصف له حبوباً وسوائل مُلوّنة يحضرها له زملاؤه ليشربها، ولكنه بقي مريضاً، تحسّس الحجاب السحري وشدّه على جسده فتذكّر رائحة أمه ودعواتها، غير المنمقة، فدبّت به حياة دفعته أن يهبّ على قدميه ويغادر الريحانية إلى مرسين، من هناك بدأ بالبحث عن المهرب، حيث يذهب الجميع.. لمْسُ الحجاب وتَحَسُّسه أصبح عادة تلازمه قبل أن يُقْدِمَ على أي شي..

عرضت محطة تليفزيونية معارضة مركزها مدينة غازي عينتاب العمل على زهير كمعدٍ لبرنامج صغير فطار فرحاً قبل أن يفكّر بأنه لا يرغب بالخروج من إسطنبول وقد بدأت الجالية السورية بالتعرّف إليه شاعراً تجذب طريقة إلقائه الجمهور.. يضم يديه ويرفع رأسه عالياً ويأخذ نفساً عميقاً ويحلق بحُدائه الغنائي كشاعر جاهلي يصف رحلته وناقته ولا ينسى وقوفه على الأطلال، المحطة التليفزيونية المعارضة سخيّة وافقت أن يبقى حيث هو، يرى في كل شارع من شوارع إسطنبول توأماً لشارع في دمشق، رغم الاختلافات الكبيرة، وفي كل مقهى مقهى يشابهه، يستعين بمخيلته الشعرية لتكوين هذا التآلف العاطفي المريح، وتتكفل ابتسامة صديقته اللطيفة بالباقي، تعلّم الكثير من الكلمات التركية وأصبح يقيم المباريات اللغوية مع صديقته في لعبة الكلمات كان يربح دائماً، فيوقف المباراة ليلقي المزيد من الشعر:

ما بيننا ليل تضيء نجومه

وهياكل للمسرحية

بيننا السيّاف يشحذ سيفه

ويداه تحملان بندقية

ما بيننا درب تراقبه الكتائب

والحواجز طائفية

وصلت ميساء إلى ألمانيا وكساعة سويسرية فائقة الضبط نفذت الخطط المرسومة.. قدّمت طلب اللجوء، كان الألمان مضيافين، ليس كحاتم الطائي الذي قرأت عنه في الكتب المدرسية، بل الكرم الحضاري المرفق بأوراق ووثائق يجب كتابتها والتوقيع عليها مع غرفة تسلمتها مرفقة ببضع وصايا من المحامي.. كانت مرحلة المرور من تركيا سريعة وسهلة لم تذكر منها شيئاً ولم يستحوذ عليها إلّا الموجات الرقيقة التي عانقت قارب الهروب والرسو السلس على الشاطئ الصخري قليل العمق.. أرسلت رسائل طمأنة إلى أهلها وأسندت رأسها إلى مخدة مريحة.. كانت آثار النافذة الحديدية العالية تبخّرت من ذاكرتها وتبخّر كل شيء خلف الحدود الألمانية واعتبرت نفسها هنا ولدت من جديد.

لم يبقَ أمام محمود إلا ركوب القارب.. أخذ جولةً طويلةً مشياً على طول كورنيش مرسين العريض المليء بالمقاهي، توقّف قليلاً في وسط ساحة مُطلّة على البحر محاطةً بأعمدة تراثية، نظر إلى البحر الهادئ المسطّح كشرشف سرير، ابتسم وهو يقرأ كتابات بالعربية على العمود الأثري المحيط بالساحة «ذكرا شريف ومحي الدين»، لم يحاول تحويل الألف الممدودة إلى مقصورة ترك الخطأ العفوي الذي تمحوه قوة التعلّق بالمكان.. شدّ يده على حجاب والدته وانطلق إلى الميناء الصغير، حيث تجري مراسيم الهرب البحري.

وجد السوريون في تركيا مكاناً أنيساً وكأنه امتدادٌ طبيعي لا يتوقّف حتى يصل إلى الجزء الغربي من إسطنبول، ووجدت تركيا بمساعدة نظام سياسي فريد لم تشهد مثله سابقاً صنواً ديموغرافياً مكافئاً، لم يتأثر الاقتصاد التركي بملايين السوريين القاطنين والعابرين، ولم تتأثر مصالح الأحوال المدنية وازدادت حركة السوق، وحتى المخيمات التي انتشرت مع بدايات الثورة على الحدود كتوقّع سياسي لسلوكيات الديكتاتوريات.. تَمّ كل ذلك وفق تحرُّكٍ رصينٍ وإنسانيٍ من تركيا وتحمُّلٍ كاملٍ لمسؤولية إقليمية أمام كارثة إنسانية تقع على مرمى السمع والبصر.

ازداد ضغط محمود على حجاب والدته وهو يتأرجح بقوة في وسط القارب المطاطي الصغير وصخب الأمواج يغطي على أصوات التضرُّع العالية، فيما كان زهير يحلّق بأمسيته الشعرية الأخيرة فيشد على يديه ويرفعهما وكأنه يتضرّع هو الآخر، ثم يسرق نظرة أخيرة من عيني حبيبته ويقول:

ما بيننا حدود ألف كتيبة

ودفاتر السفر الغبية

بيننا

كل العواصم والمطارات التي لا تنتهي

وقوارب التهريب والموت المسجّل بالمياه الأجنبية..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.