الرئيسية | فكر ونقد | الجنس بين الثنائي والجماعة في فلسفة جورج باطاي | علي أوعبيشة

الجنس بين الثنائي والجماعة في فلسفة جورج باطاي | علي أوعبيشة

علي أوعبيشة

 

 علي-أوعبيشةلماذا نحب ممارسة الجنس دون حضور آي كان؟، نريد أن نعيش اللحظة وفقا لطقوس خاصة، رفقة الشريك فقط، في الظلام ما أمكن، بعيدا عن الحضارة إذا تحققت شروط البعد؟ في المقابل، لماذا نكره أن يشاركنا أحد ما العملية الجنسية التي نسعى بكل ما أوتينا من أنانية لتملّكها، لماذا نتقزّز من الجنس الجماعي أو على الأقل الجنس العاري (العملية الجنسية التي تكون محط فرجة)؟ يضعنا باطاي أمام هذا النوع الغريب بالنسبة إلينا  للمضاجعة، ليحرّر الجنس من سطوة الذات/ الأنا (كوجيطو الجنس: أمارس الجنس وحدي)، ومن الظلام أيضا، ليرهن إحساسنا باللذة بأمور بذيئة وغير مستساغة، فهل يبقى الجنس جنسا إذا تشاركا فيه أكثر من مثيل في مواجهة مختلف واحد أو أكثر؟ في هذا الصّدد يقدّم لنا باطاي وصفا لمثل هكذا ممارسات جنسية قريبا جدا من طقوس الممارسات الجنسية الجماعية السرية التي عُرفت بها كنائس أوروبا في العصر الوسيط، وكذا بعض الطقوس التعبدية القديمة. يتمم باطاي سرديته الماجنة:

“قـالـــت صاحب الحانة:

– نِكهــا يابييــرو.

بسرعة، أحـاطوا بالضحيـة

تركت ماري رأسها يهـوي وهي متضايقة من تلك الاستعدادات. أما الآخرون فقد مددوها وفتحوا ساقيهـا فيما كانت هي تطلق أنفاسا صاخبة سريعة.

كان المشهد في طوله يشبه ذبح خنزير أو قتل إلـه.

وفيما قلع بييرو سرواله طلب منه الكونت أن يتعرى كاملا.

وثب الفتى الجميل وثبة عل. سهل الكونت ولوج الأيـر. ارتعشت الضحية وتخبطت: جسـم لجسـم، مجابهة بحقـد لا نظير له.

أمـا الآخرون، فقد كانوا يتأملون المشهد بشفاه ناشفـة يتجاوزهم ذلك الهيجان المسعور. كانت الأجساد التي شدها ذيل بييرو تتدحرج متخبطة على الأرض. أخيرا قذف الخادم المني وهو يثبت قدميه إلى أن أوشكتـا على الانكسار. استجابت له ماري بانقباضـة مميتـة.”[1]

الحب للواحد توحش وكذلك حب الإله، وممارسة الحب انفتاح على الموت: لماذا كرّست الثقافة الحب الواحد، أو على الأقل أن نحب شخصا واحدا، أو بدرجة أخفّ ألاّ نمارس الحب إلاّ مع الشخص الذي نحب أو تربطنا به العلاقة الشرعية أو الرسمية؟ لماذا الخيانة مذمومة، في حين شكّلت في ما قبل عنصرا مقدسا أو طقسا تعبديا، كما هو الشأن بالنسبة لبعض الديانات القديمة، إذ كانت مثلا “الأكادي القاديشتو” أي النساء المقدسات أو الطاهرات مجموعة من الكاهنات الدائمات في معابد عشتار اللواتي كرّسن انفسهن على الدوام لممارسة الجنس بغرض الإبقاء على جذوة الحب متقدة كشعلة النار المتقدة دوماً في معابدها لقد كانت هذه النساء يمارسن الجنس مع مختلف الرجال ولا يخلصن لرجل واحد ولا يتزوجن وأولادهنّ يبقون دونما أب[2]، إذ تحفظ لنا الكتابة المسمارية بعض طقوس التعبد عند السومريين، منها:

“”تقول إحدى الكاهنات(القاديشتو)  أمّا من أجلي، من أجل فرجي، من أجلي، الرابية المكومة عالياً، لي أنا العذراء، فمن يحرثه لي؟ فرجي، الأرض المرويّة، من أجلي، لي أنا الملكة، من يضع الثور هناك؟

احرث فرجي يا رجل قلبي.[3]

كيف أصبح الحب ملكية للمحب الواحد، سواء كان عاشقا أو زوجا…؟ وهل هدم هذه الملكية سيهدم الحبّ؟ يقدّم باطاي إجابة لهذا السؤال في كتابه “الإيروسية” معتبرا أن تحريم مثل هذه الطقوس التعبدية كما فعلت الكنيسة في القرن الثالث والرابع الميلاديين، -من خلال محاربة “الممارسات الوثنية التي استمرت في المسيحية”- كان الغرض منه –حسبه- إبعاد الموت من تجربة الجنس، وإنهاء البعد الصوفي للجنسانية، ف”إذا ما رأينا في المحرمات الأساسية، الرفض الذي يضع الكائن في مواجهة الطبيعة بحيث ينظر إليها على أنها نوع مفرط من الطاقات الحية وعربدة الإفناء، فإنه لن يظلّ بإمكاننا التمييز بين الموت والجنسانية، فالجنسانية والموت ما هما  إلاّ لحظتان حادثتان لعيد تحتفل فيه الطبيعة مع الكثرة التي لا تستنفذ للكائنات المفردة فكل منها يحمل معنى الهذر اللا محدود حيث تعمل هذه الطبيعة ضد ديمومة الرغبة الخاصة بكل كائن[4].

ليس الجنس بطقوسه الماجنة إلاّ رغبة في اكتشاف تجربة الموت، تماما مثل ما أن ماري شخصية باطاي العاهرة خرجت من طقس مجون الحانة بهذه القناعة، يحكي لنا باطاي:

” “لـــــم يكـن ما قرأته ماري في عيني الرجل القصير إلا إلحاح الموت. فذلك الوجه لم يكن يعبر عن شئ آخر غير أمل يحوله الوسواس إلى خيبة كلبية. رجفت رجفة حقودة. وبما أن الموت كان يقترب منها فقـد أحست بذعر شديد.

انتصبت أمـام الوحش الجاثي وهي كازة على أسنانها.

وقفـت، فارتعشـت.

تـراجعت، ونظرت إلـى الوحش، ثم قـاءت.

قــالت للكونت: أرأيـت؟

سـألهـا: أ أحسست بالراحـة؟

قـالـت: لا.

أبصـرت القي أمامها. كان معطفهـا الـذي تمزق داخل الحانة يكاد يغطيهـا.

سـألت: إلى أين نحن ذاهبان؟

أجـاب الكونت: إلى بيتـك.”[5]

      كل هذه الفضاعة الغارقة في المجون، ليست لغرض آخر، غير إدراك الموت، ومحاولة التقرب منها ومعايشتها والتماهي معها. يعترف باطاي في ديوانه “القدسي وقصائد أخرى” أن الموت هو الظاهرة الكبرى التي شغلت كل كيانه:

 “في داخلي

 في أعماق هاوية

كون شاسع هو الموت”[6]

 لذلك كان باطاي يقارن دائما بين “ولع الصوفية وانتشائهم الرباني بالرعشة الجنسية ذاكرا أسماء القديسين الذين كاد يتماهى لديهم الأمران (سان تيريز دافيلا خير مثال على ذلك)”[7]، غير أن الإيروسية التي يقصدها باطاي والتي عاشها، ليست دينا، هي ” دين ليس بدين[8]، وباطاي ليس متدينا وليس صوفيا بل قديسا مختلفا كما يقول: “إنني لست فيلسوفا، بل قديسا ولعلني مجنون… إن منهجي على طرف نقيض من أفكار الخلاص الصوفية ومن كل صوفية[9].

يريد باطاي أن يجعل من التجربة المعيشة درجة أرقى من المعرفة، والتجربة الباطنية التي كتبها وعاشها تسكن اللا معرفة، لكن ثمّة فرق، ففي التجربة الصوفية يؤدي طريق اللا معرفة إلى ما وراء ما، يقبع خلف الظلمة، إلى إشراق نهائي. أما عند باطاي فالطريق لا يؤدي إلا إلى الظلمات. والتجربة عنده، محايثة للكائن، ماثلة فيه دائما: إنها رحلة إلى أقاصي إمكانياته وقدراته، وهي لا تتبع نسقًا خطّيًّا بل تشكل شرخًا داخل التطور الخطي.

       إن الجنس بمختلف تجلياته الإيروسية إذن، أو الحب في معناه اللذوي “الحب التهتكي[10]، انفتاح على تجربة الموت ومحاولة لاكتشاف المجهول، ذلك الذي سماه باطاي بالمستحيل، ومنه فالمجون وسيلة لبلوغ المطلق أو على الأقل محاولة لمعايشته، فمادام أنه “لا توجد معرفة دقيقة ومحسوسة بالموت، وإنما توجد طرائق عرضية للاقتراب منه، (فإن) هذه الطرائق لا تشكل مجموعة بل تنحصر في طريقتين اثنتين: النشوى والمتعة، وكلتاهما تنجم عن التجربة الصوفية والتماس الجنسي، وكلتاهما أيضا وجه للمطلق[11].

     كتب باطاي في مقطع من مقاطع نصّه الماجن الموسوم ب”الميّت” بلسان ماري وهي توافي الميت تحت التراب “إذا كنت تخاف كل شيء، اقرأ هذا الكتاب ولكن قبل أن تفعل، أصغي إليّ: إن ضحكت فهذا يعني أنك خائف. فالكتاب، على ما يتراءى لك، إنما هو جماد. هذا ممكن. ومع ذلك، ماذا –وهذا افتراض جائز- لو كنت تجيد القراءة؟ أ عليك أن تخشى…هل أنت وحدك؟ هل تشعر بالبرد؟ أو تدرك كم أن الإنسان هو “ذات نفسك” أبله وعار؟[12]. ما الذي يود باطاي أن يقوله؟ هل يريد أن يعترف في الأخير بأن كل هذا المجون بكل فظاعاته وطقوسه لا يساوي شيئا وأنه مساوٍ للموت لا أقل ولا أكثر؟ من الجائز أن نفترض بأن باطاي يسخر من الجنس المثخن بالمجون في النهاية، معتبرا إياه إثما وفحشاء، لكن مع ذلك يعتقد كما يحكي باطاي في كتابه “المذنبLe coupable[13]، كيف أن الإحساس بالذنب ملازم للذة، وأن الحلّ الجذري للبراءة من هذا الذنب (التخلص منه) هو الغلو في اللذة إلى آخرها. إذ يتمحور مضمون كتاب» المذنب « Le coupable بأكمله حول تجربة صوفية مغايرة، الربط “حيث يمتزج ارتكاب الفحشاء جنسيا باللذة المتناهية، إنه عبارة عن مقاطع يجسدها تساؤل حول الذنب العالق بالكائن، والكائن هو مذنب أو لا يكون، لا يصبح كائنا إنسانيا إلاّ بابتعاده عن الطبيعة. ونعلم أن المسيحية لا تسمح بهذه القطيعة مع الطبيعة إلاّ شريطة أن يتولى الكائن لاحقا، طلب المغفرة، لكن حسب باطاي، ليس ثمة من براءة ممكنة إلاّ بالإغراق في الإثم[14]

    هل هذا يعني أن باطاي قد تحّوّل إلى قسّ أو كاهن؟ أبدا. إنه صوفيّ ملحد (تصوُّف من غير إله)، يؤمن فقط بأن الجنس والموت وجهان لعملة واحدة، كلاهما يحملان وسم العار والدناءة والفظاعة. وأن سرّ الحب لا يعرفُه إلاّ من عاش اللا-حب، يقصد العاهرة الماجنة، تلك الطاهرة التي ابتليت بكلّ أوساخ الحياة لتعي معنى النقاء، نقاء “التجربة الباطنية”.

 

[1] جورج باطاي، المرجع نفسه، http://aslimnet.free.fr/traductions/articles/j_bataille.htm

[2]  س. ه. هوك. ديانة بابل وآشور ترجمة نهاد خياط. دار العربي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1987ص. 24.

[3]  صموئيل كريمر. طقوس الجنس المقدس عند السومريين. ترجمة نهاد خياط. دار مختارات، الطبعة الأولى، 1987. ص.135.

[4] Georges Bataille, L’Erotisme, éditions de Minuit, Paris, 1975, Res UGE  0181, in Ouveres complètes, tome x 1967, p 64

[5]  المرجع نفسه، http://aslimnet.free.fr/traductions/articles/j_bataille.htm

[6]  جورج باطاي، القدسي وقصائد أخرى، ترجمة محمد بنيس، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2010، ص: 41.

[7]  دومينيك غريزوني، الحب والموت عند جورج باطاي، ترجمة كمال فوزي الشرابي، مجلة المعرفة السورية، العدد 272، بتاريخ 01 أكتوبر 1984. ص: 87

[8] المرجع نفسه، ص: 84

[9]  إدوارد الخراط، من الصمت إلى التمرد، دراسات ومحاورات في الأدب العالمي، سلسلة كتابات نقدية من إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة، وزارة الثقافة المصرية 1994، ص: 360

[10]  ظاهرة الحب » مقدمة  المترجم«  ص 17

[11]  دومينيك غريزوني، الحب والموت عند جورج باطاي، ترجمة كمال فوزي الشرابي، مجلة المعرفة السورية، العدد 272، بتاريخ 01 أكتوبر 1984. ص: 90

 

[12]  جورج باطاي، حكاية العين، قصص،ترجمة راجع مردان، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، كولونيا-ألمانيا2001 ص:131.

[13] Georges bataille, Le coupable, Gallimard, 1ere Edition, 1944

[14]  جورج باطاي، الجنون المتنقل بين الفلسفة والقداسة، مجموعة من المؤلفين، ص:28

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.