الرئيسية | فكر ونقد | الترافع النقدي في كتاب العقل الحكائي | محمد شهبون

الترافع النقدي في كتاب العقل الحكائي | محمد شهبون

محمد شهبون

         

    إثبات الحقيقة الواضحة أصعب مهام المحامين..                                                           

        ليس يخلو تاريخنا النقدي من أحكام مبتسرة تحولت إلى يقينيات تراكمت عليها مجلدات وأسفار، تجعل مجرد الاقتراب منها مغامرة محفوفة بالمخاطر والمحاذير.. يقينيات اكتسبت هالة القداسة، وكل اختراق لحماها قد يعرض صاحبها للعنة تطارده أبدا.

       لكن تاريخنا النقدي أيضا ليس يخلو من مغامرين شجعان تسوروا هذه القلاع الحصينة، وأعلنوا ولاءهم الوحيد وتقديسهم الفريد للحقيقة وحدها.. ولم يبالوا بما نالهم فداءها من عناء وعنت.

     على هذه الخلاصة طويت آخر صفحة من كتاب العقل الحكائي للأديب الناقد حسام الدين نوالي[1]..

فعلى مسار 140 صفحة، قدم الناقد مرافعة محكمة أتى بها على بنيان مرصوص تعاقبت الأزمنة على بنائه وتحصينه، حاشدا في سبيل ذلك كل ما أوتي من سعة العلم وبراعة التحليل لتقويض أركانه.

 لقد قدم نوالي في هذا الكتاب مرافعة مفحمة تدافع عن أصالة السرد وقيمته الكبرى في الموروث الإبداعي العربي، ولم يذر لمخالفيه نقيرا ولا فتيلا يتعلقون به أمام محكمة النقد العليا.

وفي تفصيل هذه المرافعة يأتي هذا البيان:

  • فكرة المرافعة:

     فأما فكرة المرافعة فهي مركزية الفعل السردي في الحياة الإبداعية للإنسان عموما، وللعربي على وجه الخصوص.

     لقد أتى على القول النقدي العربي زمن طويل اعتقد إلى حد اليقين أن العرب أمة شعر، لا هوية لها بدونه، ولا عنوان لها خارجه، بل لا وجود لها خارج دفتي ديوانه.. وأن عقلها شعري بالدرجة الأولى.. هذا القول تأسس على تركة شعرية مهولة بكل المقاييس، وعلى انتشار غطى الزمان والمكان العربيين لقرون..فأصبح الاقتراب من هذه المسلمات بمثابة سير مقامر في حقل ألغام تكاد تنفجر بقنابل التسفيه والتحقير والهجوم على كل مغامر يسول له عقله الجسور اقتحام هذه المحمية المغلقة.

     غير أن نوالي يركب مركب هذه المخاطرة، ويتسلح بعدة قرائية واسعة ومتنوعة، ليعيد قراءة الوقائع والسياقات القديمة والحديثة، بما يكشف الحقيقة المغيبة.. لقد كان العرب أمة سرد بامتياز.

منذ الاستهلال يلقي الباحث في وجوه قضاة المحكمة بأسئلة مثيرة تهز الركود اليقيني لدينا: “ماذا لو لم يكن هناك سرد أبدا؟ ولم تكن الحكاية؟ هل كان العالم سيعرف ما للزمن، أو للمكان وللتاريخ؟ هل… وهل…ثم ما الذي..أليست…أليست..فماذا لو……”[2]

“نحن والحكاية” فصل أول من الكتاب، تصدى فيه الناقد للإجابة على هذه الأسئلة المشاغبة في ساحة اليقين القديم.. فالأمانة التي حملها الإنسان بعد اعتذار بقية المخلوقات، لم تكن سوى حكاية هبط بها آدم عليه السلام إلى الأرض، وتلقفتها منه ذريته في مسار طويل من الخصب تجلى في حياة شعوب الأرض قاطبة.

حتى العرب الذين أغلق عليهم الدارسون حُـقَّ الشعر كي لا يغادروه، يهوي الباحث بفأس البحث على هذا الحق ليخرجنا إلى فضاء الحقيقة.. كل شعر العرب قبله وخلاله وبعده سرد وحكاية.. فليس ثمة إذن غير السرد.

ولتأكيد هذا الجانب في المرافعة، يدفع الباحث بالأمر بعيدا، حين يحث القراء على اكتشاف الحكاية/السرد في جل أنواع التعبير والإبداع البشريين.. فروائع الرسم والنحت والمعمار والموسيقى لا حياة لها ولا جمال خارج سياقها الحكائي الأول.[3]

      هذه الفكرة التي يجرد الباحث نفسه للدفاع عنها، ليست مما استجد في ساحة النظر النقدي اليوم، بل هي أثيلة قديمة، لكن أريد لها أن تظل صوتا خافتا لا يشوش على النشيد الرسمي للثقافة العربية: الشعر ديوان العرب.

قبل الناقد نوالي، همس الفضل الرقاشي(200 هـ):”ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون..”[4]، وهو ما ضمته أوابد العرب من قصص وأساطير وأيام وحكايات، لم يسقطها غير التنخيل المتواطئ الذي وقع في عصر التدوين.

وأمام هذا المعطى، ينهار الاتهام القديم حول مسؤولية الدين الجديد في ما أصاب الشعر من ضعف أو قصور، لينهض سؤال جديد عن حقيقة الدور الذي بناه الموقف الديني نحو الصناعة السردية العربية؟[5]

يخلص الباحث في معرض الإجابة على هذا السؤال إلى تسجيل مفارقة عجيبة: فإذا كان القرآن قد نفى عن النبي الكريم صفة الشاعر، وندد بالذين ينسبون الكلام الإلهي إلى وديان الشعر، فإنه بالمقابل يحتفل بالخاصية القصصية والسمة السردية غاية الاحتفال، في مغايرة حاسمة للاتجاه العام للثقافة العربية التي كانت تتنفس شعرا وقتئذ.

هكذا إذن يتوغل الباحث في هذا الحقل المحفوف بالحساسية ليعلن بوضوح عن الاختيار القرآني للسرد آلية لتشكيل ميزان إبداعي/ أخلاقي يتورع عن كثير من الشعر، مقابل انطلاق واسع في مضمار القص، لنعيد معه ترتيب الحكاية وفق إضاءة – تحتاج مزيد سطوع- مفادها رفض الدين للشعر (على الأقل نوع منه) بالنظر إلى مصادره التي ارتبطت بالجن والشياطين والوديان..وفي الضفة الأخرى رد الدين كثيرا من السرد بالنظر إلى بعض مضامينها المناوئة للعقيدة الجديدة.

  • تقنية المرافعة:

    لكل محام ناجح مهارات منتقاة للترافع.. فكم من القضايا العادلة يخسرها محامون فاشلون، لعوز في تقنيات الاشتغال.

ههنا يختار الباحث نوالي متوالية الهدم والبناء، لينتصر للمحنة التاريخية التي عرفتها الحكاية في موروثنا الأدبي.. ورغم التقادم الذي طال القضية، وجبال المأثورات النقدية التي تراكمت لتحسم المعركة ضد السرد، فإن نوالي أتى على كثير من أركان هذه المسلمات بمعاول النقد وفؤوس النقض، وتركها قاعا صفصفا.. ليعيد بعد ذلك بناء يقينيات جديدة تأخذ فيها المسرودات مكان حجر الزاوية.

    لقد نجح الناقد/المحامي في اختيار تقنية الترافع المناسبة لخوض غمار موج نقدي مضطرب.. فليس أسهل لإثبات الفكرة من هدم نقيضها..

فطيلة الفصل الأول نحن أمام دعوة صريحة لإعمال النظر ومعاودة التأمل في محفوظاتنا القديمة حول الشعر والنثر العربيين القديمين.. نحن أمام نقب صبور، ونبش متأن، وطرق متوال لهدم سور الوهم العظيم.

     فالشعر لم يعد مع نوالي ديوان العرب ولا عنوان إبداعها الوحيد، بل هو السرد ابتداء وانتهاء.. بل لا وجود لشعر خارج اشتغال سردي يسبقه ويحفه ويشيعه.. وتجربة المجنون مثلا لم تكن إلا أخبارا أضيفت إليها أشعار،[6] وقيمة الشعر وقداسته لم تكن فيه تأسيسا، وإنما لحاجة النحاة والمفسرين إليه..[7] وأجود الشعر القديم ينبني وفق أفق وآلية سرديين واضحين.. ورفض الدين للشعر لم يكن من حيث طبيعته الإبداعية كما توهم كثيرون/ وإنما من حيث مصادره “الغيبية” التي تشوش على مصدرية النص القرآني.

    يمتد الهدم إلى معتقداتنا النقدية الموروثة حول تمايز الأجناس الإبداعية.. حيث يظهر الخيط السردي الثاوي بين ثنايا كل هذه الأجناس.

والعصر الجاهلي لم يكن عصر قحط سردي كما تصور الكثيرون، بل تضمن خلاصة الثقافة العربية أصيلها ووافدها..[8] . أما المقياس الإيجابي الذي كان يوزن به عصر التدوين باعتباره عصر تثبيت الإبداع العربي على جدار التاريخ البشري، فلم يكن غير عصر متواطئ ضد السرد المظلوم.[9] الذي لم يكن للشعر عليه من مزية جمالية أو تعبيرية تجعله محط تكريم وتقديس، بل هي صفقة مشبوهة تحت طاولة الإبداع انتصرت لجنس على آخر دون موجب حق من تحليل أو تمحيص.

مقابل هذه الضربات الهادمة، ترافع نوالي بقوة وصدق ليثبت بالنقول والأدلة المكانة المميزة التي تبوأها السرد في النص الإسلامي المقدس، بما يؤكد قيمته الإبداعية، ويحسم الموقف لصالح الدين الجديد الذي تبنى الحكاية واتخذها مطية للبلاغ والإقناع.[10]، في أفق تشكيل عقل إبداعي جديد ينتقل من البداوة إلى المدينة، ومن الشفاهي إلى الكتابي.

ولدعم هذا البناء وشد أركانه إلى أوتاد قوية، لجأ نوالي إلى الفنون والإبداعات الأخرى ليكتشف فيها الخاصية السردية المهيمنة على النشاط الإبداعي الإنساني عموما.. فلوحات جيوفاني براغولين، والغرنيكا لبيكاسو، والحذاء لفان غوخ، والمقطوعات الموسيقية العالمية منذ حرائق نينوى، وانتهاء برقصة أحيدوس الأطلسية، والمنحوتات المعمارية التاريخية.. كلها تستضمر حكيا لابد منه لتفكيك عناصرها وتركيب فهم مناسب لها.[11]

بنهاية الفصل الأول يكون نوالي قد أتى على جزء كبير من يقينيات النقد حول هيمنة الشعر، ليقيم مكانها بنيانا جديدا تتكلم لبناته لغة السرد.

  • أدلة المرافعة:

هل يمكن لمرافعة ما أن تستحضر شرط الإمتاع في بنائها وعناصرها؟ وهل يُنتظر منها ذلك ابتداء؟

كثير من بحوث النقد الأدبي شبيهة بغرف عمليات الجراحة، حيث الهدوء المخيف إلا من قعقعة المشارط المنبئة بالموت الوشيك..

لكن كتاب العقل الحكائي، يحق أن يصنف في خانة النقد الممتع المحتفل بالجمال والبهاء.. رغم ما يتجشمه الناقد في سبيل ذلك من عناء البحث والتنقيب لتوسيع المصادر وتنويع الإحالات، وإعادة قراءة وموقعة الشواهد، وتراخ في قبضة التحليل الصارم.

إن النفس الحجاجي الذي يتأسس عليه الكتاب، والغاية الإقناعية التي يرومها، والحُمى الملحوظة في تجميع أدلة المرافعة.. لم تحل بين الناقد وبين إمتاع القراء.. بل إن أدلة وشواهد الكتاب هي نفسها الينابيع الثرة التي انفجر منها ينبوع المتعة النقدية.

لقد اعتمد نوالي على أدلة مختلفة من حقول معرفية متنوعة:

  • فمن المتن القرآني طائفة من النصوص: عن حكاية آدم عليه السلام، و سقوط إبليس، وعن الموقف من الشعر، والقصص، والقراءة والكتابة..

  • ومن الأدب العربي: حمى مطاردة الحكاية في ألف ليلة وليلة، ومأساة المجنون، ومقامات الهمذاني..

  • ومن التراث النقدي العربي: نقول من مكتبة الجاحظ، وأغاني الأصفهاني، العقد الفريد، صبح الأعشى، العمدة، دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة..

  • ومن المكتبة النقدية الحديثة إحالات نوعية على مراجع غربية وعربية، من قبيل: النقد البنيوي للحكاية، وشعرية المسرود لبارث، الثابت والمتحول لأدونيس، بناء الرواية لسيزا قاسم، في نظرية الرواية لعبد الله مرتاض، آليات السرد بين الشفاهية والكتابة لسيد إسماعيل ضيف الله،

الخبر في الأدب العربي لمحمد القاضي، المحاورات السردية، والسردية العربية، والتلقي والسياقات الثقافية لعبد الله إبراهيم، الشعرية العربية لجمال الدين بن الشيخ..

كما يسند الناقد مرافعته إلى مقروء ثقافي واسع ومتنوع، يقطف من كنوز الحكمة الشرقية القديمة، والأدب الغربي القديم والحديث، والفنون المتنوعة.[12]

إلى جانب هذه المرجعيات النظرية التي يؤسس بها الناقد لفكرته، فإنه ينتقي من المجموعات القصصية متونا متنوعة وغنية[13] أخضعها للتحليل التطبيقي، واستنطق مضامينها ليحصل على خلاصات نقدية متنوعة.

هذه الفسيفسائية الجميلة في التكأة النقدية للكتاب تجعل قارئه يقبل على صفحاته بنهم لذيذ لا يشعر معه بوعورة التضاريس التي تجتازها فكرة الكتاب.

  • أسلوب لافت:

انعكس النفس الحجاجي بجدلية الهدم والبناء على الأسلوب اللغوي المستعمل في الكتاب.. فجاءت بنيته وعناصره منسجمة مع هذا النفس بشكل لا تخطئه عين القارئ.

واللافت في أساليب هذه المرافعة صيغة النفي الحاسم الذي يمحو أثر الرائج ويُزهقه بالكلية(الهدم)، ثم إتباعه بأساليب الاستثناء و الاستدراك والإضراب لتقديم الحقيقة الجديدة التي يريد الناقد إقامتها محل ما نفى(البناء).

ويكاد هذا الأسلوب يهيمن بصورة كلية على القسم النظري من الكتاب بما ينبئ عن شيء من القصدية اللغوية المعتمدة من طرف الناقد لبسط مرافعته وبلوغ مراميه في النفي والإثبات.. هكذا يمكن المرور على شواهد كثيرة من هذا الأسلوب، كما في قوله:

  • … حيث الشعر لا يتحقق أصلا إلا استنادا للسرد[14]….

  • ….لم تعد نصا…..بل جزءا…بل إن الرواة[15]..

  • لم يعد الشعر.. وإنما أصبح الخبر[16]..

  • والحق أنه ليس الشعر… ولكن لا[17]..

  • لا يمكن تلقيها….إلا[18]..

  • فلا يمكن تذوق…. من غير..[19]

  • …لم يعنوا… إلا..[20]

  • …لم يدركه التقنين إلا..[21]

  • …لم يكن اختراقا… ولكنه..[22]

غيرُ هذه الشواهد في الكتاب كثير.. وإنما كان القصد من إيراد هذا العدد منها التدليل على انتقال هذا الاستعمال اللغوي في الكتاب إلى مستوى الظاهرة اللافتة ذات التردد الملحوظ،  دون أن يعني ذلك خلو الكتاب من أساليب لغوية تمتح من جمال المجازات وروعة التشبيهات، مما يخفف على القارئ وعثاء رحلة نقدية بين محاذير وعرة ومتقادمة.

ختاما.. فإن أقل ما يستشعره قارئ الكتاب وهو يغلق دفة النهاية، هزة قوية في الطبقات العميقة للأفكار الأدبية والنقدية التي ترسبت عبر تاريخ قرائي طويل.. لكنه أيضا يستشعر حلاوة هذه الرحلة الوعرة التي رافق فيها الناقدَ بين وهاد ونجاد اليقينيات النقدية التي جثم عليها التاريخ القديم.

وإن اقتداء النقاد بهذا الصنيع الشجاع للناقد حسام الدين نوالي لكفيل بإعادة قراءة واعية لتاريخنا النقدي، ومحاولة تأسيس لبناته من جديد على أسس موضوعية لا تحابي عصرا، ولا تداهن مكانا، ولا تعلن ولاءها المطلق إلا للحقيقة.

[1] – كتاب العقل الحكائي، قراءات في القصة القصيرة بالمغرب، حسام الدين نوالي، فالية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2017

[2] – العقل الحكائي ص 05

[3] – نفسه..ص: 14-15

[4] – نفسه ص 17

[5] – نفسه ص 20

[6] – نفسه ص 12

[7] – نفسه 12

[8] – نفسه ص 18

[9] – نفسه ص 19

[10] – نفسه ص 23

[11] – نفسه ص 14-15

[12] – يحيل الناقد في دراسته إلى أبحاث مختلفة في دراسة فنون مختلفة كدراسة تاريخية للموسيقى في بلاد الرافدين لحسام سفان، مما يشي بالنظرة الشمولية للفعل الإبداعي البشري.

[13] – هي مجموعات قصصية لرواد القصة القصيرة بالمغرب  ولعدد من الكتاب التابعين لهم بالسرد الجميل.. من الرواد: أحمد بوزفور، عبد الحميد الغرباوي، إدريس الخوري.. ومن الأجيال الموالية: عبد الرحيم التدلاوي، حميد ركاطة، محمد العتروس، محمد مباركي…

[14] – العقل الحكائي: ص: 13

[15] – نفسه. 13

[16] – نفسه 13

[17] . نفسه 14

[18] – نفسه 14

[19] نفسه 15

[20] – نفسه ص 19

[21] – نفسه ص 20

[22] – نفسه 20

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.