الرئيسية | أدب وفن | الفن | تشكيل | التجريدية منطلق الحداثة التشكيلية بالمغرب | عزالدين بوركة.
محمد المليحي، زيت على قماش، 75 × 118 سم (1968)

التجريدية منطلق الحداثة التشكيلية بالمغرب | عزالدين بوركة.

عزالدين بوركة.

 

في خضم العقد الثاني من قرن العشرين، عرف العالم منعطفا حادا وحازما حدث على مستوى فن التصوير (التشكيلي): ألا وهو الاتجاه نحو الفن التجريدي. إذ يُنْسب الفن التجريدي إلى الفنان الفرنسي (من أصول روسية) فاسلي كاندانسكي وذالك في بدايات العقد الثاني من القرن الماضي. فتُعتبر لوحة هذا الفنان، التي رسمها حوالي سنة 1910 (أكواريل والحبر الصيني على القماش) أولى الأعمال التجريدية التي رسمها فنان، كاختيار مستقل لهذا الاتجاه الفني. إذ منذ زمن بعيد (الإغريقيين مثالا)، كان اسْتعمال الأشكال “اللاتشخيصية” كموضوع تزييني: الأرابيسك وغيرها… مرتبط بالأسطح الخارجية للمعمار، وتجميل الأماكن والأشياء، لا كموضوع فني مستقل بذاته.

أحمد الشرقاوي

أحمد الشرقاوي

فالمنطلق الذي ميّز البدايات الأولى للتجريدية مع بداية القرن العشرين، ارتبط باقتراح، بشكل خالص وبسيط، “الصور التجريدية” كمنجز فني خالص. هذه الصور مستقلة غير عائدة إلى أية مرجعية وليست بتفصيل Détail داخل العمل الفني التشخيصي، إنها شيء في ذاته. إنها بوحٌ عن واقعٍ لامرئي وغير محدد ومجهول، فيكون لكل فنان أن يركبه ويعبر عنه بطريقته الخاصة، تبعا لياقينياته Convictions، ومساره وثقافته. فبالعودة للفنانين الأربعة المؤسسين للفن التجريدي: فاسلي كاندانسكي، فرانتيسك كوبكا، كاسمير مالفتش، وبيه موندريان، نجد أن كل واحد منهم قد انتهى إلى تركيب تجريدية مستقلة عن الآخرين. فبالتالي يمكننا أن نقول أن الآباء الروحيين للفن التجريدي اقترحوا شكلا جديدا للفن، ينطلق من رؤيا صوفية يعبّر عنها الحلاج بقوله: “ومعنى الحقيقة شيء لا تغيب عنه الظواهر، والبواطن لا تقبل الأشكال”[i]، وفي ذلك ذهب التجريديون الأوائل لإعطاء لكل ما هو روحي كينونة، ونقلا للمسكوت عنه وللامرئي واللامفكر فيه.

 عنوان، 1969 ألوان أكريليك على خشب، الأبعاد غير معروفة مجموعة الشركة العامة، الدار البيضاء

عنوان، 1969 ألوان أكريليك على خشب، الأبعاد غير معروفة مجموعة الشركة العامة، الدار البيضاء

لقد استطاعت التجريدية في العصر الحديث أن تقلب، كما يقول عفيف البهنسي، المفاهيم الأولمبية التي قام عليها الفن الغربي، وبذلك قادت الفنان من اتساق وتناغم العالم البراني إلى تشظي العام الجواني وانكساره وتمزقه، فوجد نفسه “يقبع في مرسمه يعالج بكثير من جد موضوعات ذات علاقة بعالمه الداخلي والفكري”[ii]. فالتجريدية، كمفهوم فلسفي قبل كل شيء، يرتبط بالتغيرات المعاصرة، تنتهي في جذورها إلى أعماق التاريخ، فهي حصيلة نهائية لما توصل إليه الفن بعد أبحاث واجتهادات إبداعية شملت تاريخ الفن منذ بدايته الأولى.[iii] فإنها صيرورة في الزمان الفني وليس في المكان فقط، إنها نتاج الرؤية التطبيق في آن، إنها حضور سابق غير مرئي في كونه فن مستقل.. إنها اختيار متجذر في الكائن الفنان انتظر الفرصة ليبزغ ويظهر، فكانت الشرارة مع بداية القرن الماضي.

فالحداثة في تلك الفترة اكتسحت العالم والإنسان وبدأت في جعله يطرح أسئلة عن ذاته والعالم المحيط به، عن الواقعي واللاوقعي، عن المطلق والنسبي، في زخم هذه الأسئلة التي حاولت الفيزياء وبمعية الرياضيات بكائناتها المتجردة أن تجيب عن تلك الأسئلة.. وعلى هذا النحو لم تعد الصباغة التجريدية منوطة بمهمة محاكاة العالم وتمثيل موضوعاته وتشخيص كائناته، بل غدت مطالبة بخلاف ذلك بتعرية العالم من مسخته الموضوعية والإيغال في تجريده، وفي أفق القبض على ما ليس مرئيا والتعبير عن ما يستعصي أن ينقال بلغة التشخيص. فالفن على حد تعبير بول كلي P. Klee، لا يستنسخ ما هو مرئي، بل يحوّل ما ليس مرئيا إلى حقل الرؤية. ومن شأن هذا أن يصدم الحس الإستتيقي المشترك وأن يربك العوائد المرعية في التلقي الجمالي، خصوصا في بلد كالمغرب لم تتجاوز فيه الفنون دهشة الميلاد[iv]. هذه الدهشة التي جاءت ميلادا للصدمة “الأولى”، صدمة الأجنبي الذي ولج الحداثة. فعندما أخذ الرسم التجريدي يتسرب، ببطء، إلى الرسم الحديث، نتيجة تأثير ومثاقفة، وقع التخلي نهائيا عن تسمية اللوحة وصارت هذه الأخيرة، بما هي عليه من خطوط متعرجة ونافرة وألوان وظلال “كائنا” مستقلا بذاته منغلقا عن الفهم الآني السريع، بل منفتحا على القراءات المتعددة والتأويل، فالفن التجريدي ينطلق من أحاسيس وانفعالات تعكسها الضربات الفوضوية، والعشوائية أحيانا، للفرشاة، هكذا تتجرد اللوحة من “موضوعها” لتصير هي “موضوعا” قابلا لعدة تسميات محتملة[v].

والتفكير التجريدي (بالنسبة للفنان) كما يميزه “كاندانسكي” يرتكز على ثلاثة منابع أساسية:

  • واقع العالم الخارجي المباشر في نفوسنا.

  • التعبير اللاشعوري عن العالم المادي الباطن/ الروحاني.

  • التعبير المتدرج عن المشاعر الداخلية اللامرئية.

ونتيجة لهذه “الصفة” قولبت التجريدية بالمغرب في البداية برفض تام، لدرجة أصبحت معها محظورة في بعض الجهات، لاعتبارها ترفا بورجوازيا، ولاعتبارها متعالية على الفهم وعلى إدراك المعنى، وفهم ما ترمي إليه العلمية الإبداعية[vi]. فنجذ الفنان المغربي الجيلالي الغرباوي يقول سنة 1967 في حوار له على مجلة أنفاس:  “مازلنا في المغرب بحاجة إلى خوض معركة لكي نفرض صباغتنا الخاصة، ولكي ننشئ حركة خلاقة. بيد أن هذه المعركة لا يمكن أن تكون إلا بطيئة لأن السياق العام لا يتسم بالدينامية”.[vii] ولأن المشروع الحداثي كان في ماهيته، مشروعا قطائعياً يرسم خط اللاعودة مع الأنساق التقليدية المكرسة، فإنه بالضرورة كان يصدم العوائد الجاهزة، كما استقبله المتلقي البسيط بالصد والتبرم والإعراض.[viii] ولأن الفن التجريدي فن صامت غير ملزم بالانسياق نحو قضية ما والالتزام بها، ولأن المغرب آن ذاك كان يعيش ظروف سياسية تساءلها أسئلة كبرى على رأسها سؤال الهوية والإيديولوجية، فقد تلقى الفنان التجريدي رفضا قاطعا وهذا ما تلقاه الفنان الغرباوي، كأحد الأعلام الفنية التي أسست للحداثة الفنية بالمغرب، والأول إلى جانب صديق الشرقاوي، الذي جعل التجريدية منطلقا واشتغلا أساسيا لأعماله، مما دفع به لمحاولات في الانتحار أو الغربة أو الانزياح إلى دير تيومللين، حيث وجد راحته النفسية وأبدع لوحات تعبر عن ذاته وتصوراه الروحانية.

Transverse Line, 1923\Wassily Kandinsky

Transverse Line, 1923\Wassily Kandinsky

السؤال الذي يُطرح، كيف صارت التجريدية، مرجعية اشتغال داخل أعمال المغاربة بعد رفضها في بداياته؟ يشير الباحث الجمالي موليم العروسي إلى أن عدداً كبيراً من الفنانين وحبي الفن بالمغرب فتحوا أعينهم على الفن التجريدي لاسيما في بداية السبعينيات وأصبحوا يظنون أن الفن الراقي أو مبدأ الفن ومنتهاه هو الفن التجريدي.[ix] في حين أن الفنان الأوروبي آن ذاك ذهب إلى تبني أنواع فينة جديدة ومغايرة، فن البوب آرت، والفن المفاهيمي وفن الفيديو والبرفورمانس performance.. يجيب هذا الباحث الجمالي أنه كان هناك في بعض البلدان العربية فن تشخيصي يسمي نفسه بالواقعي، وكان يقترب أكثر من الفن الاجتماعي الاشتراكي، الذي تطور في معسكر الدول الشرقية، التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي، كان هذا الفن في أغلب الأحيان يمدح منجزات الدول ويتوجه إلى عموم الناس لإقناعهم بذلك. لم يكن الفنانون المغاربة، الذين كانوا قد أصبحوا مكرسين فيما بعد، يعترفون بهذا الصنف من التعبير الفني، إذ كانوا يعتبرون أن الفنان لا يمكن أن يُجيّش وراء إيديولوجية معينة. لكن بالمقابل، وفي تبنيهم للفن التجريدي، كان هؤلاء الفنانون ينتجون فنا صامتا لا يلتزم بقضايا الناس وبهمومهم اليومية. ويضيف موليم العروسي أنهم صحيح لم يكونوا[x] أبواقا للسلطة، كما كانوا يسمون أصحاب الفن الواقعي، ناعتين إياهم بالفنانين الرسميين، لكنهم كانوا بالمقابل ينتجون فنا محايدا، أو الفن للفن كما يسميه نظراؤهم الواقعيون.[xi]

 

هوامش:

[i] الحلاج، الطواسين، إعداد: رضوان السح، تقديم: عبد القادر الحصني، دار الفرقد للنشر والطبع، 2010، ص 211.

[ii] عفيف البهنيسي، أثر الجمال الإسلامي في الفن الحديث، دار الكتاب العربي، 1998، ص 242. (عن د. الشيكر، الفن في أفق ما بعد الحداثة، ص 23)

[iii] التشكيل المغربي، محمد أديب السلاوي، ص 60.

[iv] الفن في أفق ما بعد الحداثة، محمد الشيكر، منشورات جمعية الفكر التشكيلي، 2015، ص 23.

[v] كأس حياتي، إدريس الخوري، منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2002. ص96.

[vi] التشكيل المغربي البحث عن الذات، ص 61.

[vii] Entretien avec  J. Gharbaoui, Souffles, N° 7-8, 3e et 4e.trimesters 1967.

[viii] الفن في أفق ما بعد الحداثة، ص 25.

[ix] موليم العروسي: “الفن والسياسة”، الملحق الثقافي ليومية المساء المغربية، العدد 2633، الأربعاء 18 مارس 2015

[x] لعله يشير إلى جماعة 65، ومجلة أنفاس كدرع إعلامي، التي جاءت بأفكار تنعت بالقطعية مع ما سمته الفولكلور والتبعية..

[xi] المصدر السابق.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.