الرئيسية | رأي | التأصيل لثبات و تحول المصالح في الشريعة الاسلامية ~ سعيد طالبي

التأصيل لثبات و تحول المصالح في الشريعة الاسلامية ~ سعيد طالبي

سعيد طالبي

 إنه لمن المهم أن ينَبّه المسلم إلى أن الشريعة رحمة كلها، و عدل كلها، و حكمة كلها، و أن كانت كذلك – و هي كذلك-  فإن  الاساس الذي بنيت عليه ابتداءً  ليجب ان يكون مرناً، قادراً على الاستيعاب و الاحتواء ، على‌ الانتقال والمسايرة، على التسديد و المقاربة. لهذا فإننا لما نقوم بعملية استقرائية جدية لمختلف ما حوته الشريعة الغراء من أحكام، نجد حتما ان هاته الاحكام متغيرة تنتقل من مربع إلى آخر، من حقل إلى حقل حسب المصالح المرجوة منها.

فهي كما قال الدكتور: مخلص السبتي في المذكرة التي بين أيدينا: مصالح متحولة متجولة من مكان إلى آخر بحسب تغير أعراف الناس و عاداتهم و طرق تفاعلهم مع حركة الحياة.[1]

و هذا كلام في محله و لا غبار عليه، حيث إنه لا يعقل ابدا ان تظل الاحكام جامدة ، و ان تبقى المصالح ثابتة غير متحركة، و إلا لما أمكن هذه الشريعة مسايرة الواقع و استطاعت الإتيان بحلول له.

فمصالح الأنام تختلف لاختلاف البيئات ، فكل بيئة لها لسانها و لها اعرافها ، لها عاداتها و واقعها ، لا يمكن جعلها في مستوى واحد. في مقابل هذا الجانب المتغير و المتحول من المصالح نجد نوعا آخر يتميز بالثبات و الاستقرار. لا تبرح مكانها أبدا لأنها تمثل روح القيماتي يجب ان تكون عليه الحياة ، و التي من دونها لضاعت الانفس و الاعراض و الاديان و الاموال.

يقول الدكتور مخلص السبتي : ” فهي الباقية مكانها أبد الدهر ، فالدين مبني على الامانة ، و التعاقد على التراضي، و القضاء على العدل و الحكم على الشورى و الجهاد على رد العدوان…” [2]

فكل ما جاء في الفقرة أعلاه صحيح و لا شك فيه، فهو مجموع القيم العامة و الخاصة التي تنبني عليها الحياة ، و تنشأ عنها العقود ، و تستباح بها القلوب و الفروج، و تحمى بها الديار. هذا أمر يقر به كل ذي فطرة سليمة تنتمي إلى عالم الانسان.

الأسرة من المستحيل أن تقوم على اساس غير اساس المودة ، يقول الحق سبحانه: ” و من آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”[3]

فأساس الاسر المودة و الرحمة و الشفقة. و المعاملات لن يأتي عليها زمان تخلو فيه من الأمانة – نتحدث عن القيمة و ليس عن أمر لن يقع- قال سبحانه: ” يأيها الذين آمنو لا تخونوا الله و الرسول و تخونوا أماناتكم و أنتم تعلمون”[4]

ومثل هذه القيم و المصالح الثابتة مقررة معلومة ، لا ينازع فيها احد الا من طمس الله بصيرته و أعماه عن رؤيتها و الاعتراف بها. في معرض الحديث عن المصلحة بين الثبات و بين التغير ننقل كلاما للأستاذ العلامة عبد الله بن بيّه وهو يفصل قاعدة وردت بمجلة الاحكام العدلية بعنوان: ” لا ينكر تغير الاحكام بتغير الزمان” يقول : ” القاعدة ليست على اطلاقها، فليست كل الاحكام تتأثر بتغير الزمان، فوجوب الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج و بر الوالدين و الكثير من احكام المعاملات و الأنكحة و كذلك المنهيات القطيعة كالاعتداء على النفس والاموال و الاعراض و ارتكاب الفواحش ما ظهر منها و ما بطن  و اكل اموال الناس بالباطل و منها الغش و الجماعة و محرمات عقود الأنكحة ، و محرمات عقود البيوع المشتملة على الربا او الغرر الفاحش او الجهالة ، فكل ذلك لا يستباح الا بالضرورات التي تبيح المحظورات.[5]

هذا الذي فصّل فيه الاصولي بن بيه، هو عين ما اشار اليه الدكتور مخلص السبتي، حيث انه تبقى المصالح ذات البعد الاخلاقي و القيمي في مكانها على التأبيد، ولا يمكن ان نستغني عنها في زمن من الازمنة ولا في مكان من الامكنة ، فهي قوام الحياة و الوجود الانساني ، و صمام الامان في اي تجمع بشري.

و الدكتور بن بيه عند استدراكه على القاعدة السابقة ،كان دقيقا ، فقد قسم ما لا يدخل و لا يمكن ان يدخل تحتها – القاعدة – الى قسمين رئيسيين:

العبادات : فاختار منها –للتمثيل- الصلاة و الصوم و الحج…

المعاملات: الاعتداء على النفوس و الاعراض و الاموال، و محرمات العقود من بيوع و أنكحة…

إلّا أنه كان حذرا عند حديثه عن المنهيات، فقد قيدها بقوله”و كذلك المنهيات القطيعة”

وهذا لكي لا يعم بقوله المنهيات غير القطيعة باعتبارها مجالا للاجتهاد و البحث و المناقشة. يقول الحق سبحانه: ” ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام لتفتروا على الله الكذب. إِن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل و لهم عذاب أليم”[6]

فالآية في غاية الوضوح ، وهي بالمرصاد لكل من سوّل له منهجه تحريم الحلال او تحليل و اباحة الحرام، و لهاذا جاءت عبارة ” القطيعة” مقيدة للمنهيات مخرجة بذلك الظنيات

ونحن نتحدث عن مكانة المصالح بالشريعة الإسلامية ، و انواعها اي أنها ليست على شاكلة واحدة، سنجلب علينا ما لا يحصى من الردود و الانتقادات خاصة من طرف اولئك الذين ينادون الى تطبيق الشريعة ، وهم لا يعنون بالشريعة الا الحدود و الدماء.

ونحن نطالب بتطبيق الشريعة التي تعني العهود و النماء، الصعود و الرخاء درء الحدود بالشبهات و حفظ و حقن الدماء.

وعليه، فإننا في هذا المقام نتساءل عن مدى اصالة هذا الطرح الفكري و هو الذي سنكتشف عنه في الآتي من الحديث عن ثبات وتحول المصلحة في الشريعة الإسلامية.

الفقيه او العالم الذي لا يستحضر واقع الناس في الفتوى ، ولا يلقي له بالا عند محاولة إيجاده حلا لما عليه المستفتي من حالٍ، يكون حكمه وبالا على المستفتي و على المسلمين. هذا الصنف من العلماء لا يصح تسميتهم فقهاء، مع احترامهم و تقدير ما يحملونه من علم. الا أن الصناعة الفقهية بدون مراعاة المصالح المتغيرة للخلائق لا يمكن ان تأتي بخير ولا نجد مكانا لها في الواقع.

يقول الدكتور: حسن العلمي : ” من اصول الشريعة الكبرى تحقيق مصالح العباد في المعاش و المعاد، فكل امر خرج عن المصلحة الى المفسدة و من التيسير الى التعسر ، ومن السماحة الى الحراج و العنت، فليس من الشريعة و إن أقحمه الناس فيها بالتمهل و التعسف.”[7]

فالفتوى كما هو معلوم: ” اسم مصدر من افتاه في الامر إذا أبانه له. اي: الاجابة على ما يشك فيه، يقال: استفتى الفقيه فأفتاه، و الاسم الفتيا و الفتوى و يجمع على فتاو و قد يفتح تخفيف”[8]

فهذه الاجابة المسماة : فتوى لا تكون دائما قطعية ، انما هي في الغالب اجتهادات يراعى

فيها جمع كبير من الاحوال و القرائن و الشروط و الموانع و الاعراف…

ولهذا نراها متغيرة متحولة متجولة بحسب المصالح.

اذا عدنا الى تاريخ الاسلام، فإننا جزما سنجد شواهد لما طرحناه منذ البداية. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأمنا عائشة رضي الله الله عنها: ” ألم تريْ ان قومك، حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد ابراهيم؟ قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا تردها على قواعد ابراهيم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت.”[9]

ان لهذا الحديث النبوي الشريف عدة اشارات ابرزها ان المفتي عند تصديه لحكم شرعي لا بد له ان يراعي المصلحة في ذلك. الرسول عليه السلام اكتفى بترك الكعبة على ماهي عليه لحال اهل مكة، فقد راعى حالهم في امر بالغ الاهمية كهذا المتعلق ببناء الكعبة.

نفس الامر نجده في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المرأة الخثعمية اذ قال لها: ” أرأيت لو كان على أبيك دين “[10] الحديث.

فالرسول الكريم عليه السلام يعلمنا اتخاد القرار و اخد زمام المبادرة، وهذا اجلي من خلال سؤاله صلى الله عليه وسلم، و الامر ذاته لما سأل معاذا في حديث ارساله الى اليمن.[11]

كل ما في الشريعة فلا الاوامر القطعية او النواهي القطعية فهو تابع للمصالح يدور معها اينما دارت و حلت.

يقول العلامة عيسى السجستاني في نوازله: ” اذا اتضح لك توجيه ما جرى به العمل لزم اجراء الأحكام عليه، لان مخالفة ما جرى به العمل فتنة و فساد كبير” [12]

و نفس المعنى نجده عند العالم الموريتاني. محمد المامي في كتابه ” كتاب البادية”: ” و كان من دوافع اللجوء الى هذا العلم. ضرورات اهل البادية و عوائدهم، وهم قطر من اقطار المسلمين لهم ضرورات و عوائد و الضرورات مما تنبني عليه الاحكام.”[13]

فالعلم الذي اراده العالم المامي لعله يكون علم المصالح. و اختياري هذا له شاهد داخل النص نفسه و هو مسمى العوائد. فالعوائد و هي التقاليد و الاعراف مما يبنى عليه حكم وفق صريح كلام هذا العالم العلم.

ومن الشواهد التأصيلية على تغير الاحكام تبعا للمصلحة ما قاله الصديق رضي الله عنه: “اقول في الكلالة برأيي”[14]

وقد نص العلماء كأبي حنيفة وابو يوسف و محمد على ان الاستئجار على الطاعات باطل، لكن جاء من بعدهم أئمة من المجتهدين أفتوا بصحته كأخذ أجر تعليم القرآن تعطى من بيت مال المسلمين ، خوفا على ضياع القرآن.[15]

ولعل أقوى مثال على تتبع المصلحة في الشريعة الاسلامية ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ألغى حد الزاني البكر، خوفا من فتنة المحدود والتحاقه بدار الكفر ، لأن ايمان الناس يضعف مع الزمن.[16]

وفي الأخير لا يسعنا إلا زيادة التنبيه الى ان الشريعة مصالح كلها، و ان هذه المصالح منها ما هو ثابت في مكانه أبد الدهر و هو قيم كونية ضرورية من أجل العيش الانساني الكريم، و أخرى متغيرة حسب الأحوال و القرائن و الأعراف.

 يشهد لهذا الكلام ما مررنا به اثناء هذه المداخلة المختصرة المعتصر حول التأصيل لتغير المصالح في شريعة الاسلام.

متخصص في علم الأديان

 

1  الثبات و التحول في المصلحة: د: مخلص السبتي: ص: 12.

 المصدر السابق. ص: 12[2]

 سورة الروم : الآية : 21.[3]

سورة الأنفال: الآية: 27.[4]

 صناعة الفتوى وفقه الاقليات: الفقيه : عبد الله بن بيّة : ص: 249.[5]

 سورة النحل: الآيتان: 116-117[6]

 مداخلة للدكتور حسن العلمي بعنوان: الاجتهاد و تغير الفتوى بتغير الزمان و المكان. ص: 1[7]

 تاج العروس:39/211مادة : فتى[8]

 صحيح مسلم : باب :  نقض الكعبة و بنائها : رقم الحديث :1333[9]

 الموطأ : الامام مالك بن انس: باب الحج عمن يحج عنه : رقم : 795[10]

 الحديث فيه مقال لكنه معمول به عند الفقهاء و الأصوليين لصحة معناه.[11]

 صناعة الفتوى : ص : 167  [12]

 :المصدر الصادر السابق : ص: 169 [13]

 سنن الدارمي : كتاب الفرائض: باب: الكلالة: رقم 3015[14]

صناعة الفتوى : ص: 251[15]

 تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع : د: عبد الله بن بيه : ص: 89.88.87 [16]

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.