الرئيسية | فكر ونقد | الاستهلال وأثره في الرواية | داود سلمان الشويلي -العراق

الاستهلال وأثره في الرواية | داود سلمان الشويلي -العراق

داود سلمان الشويلي

للمطالع في القصائد اهمية كبيرة في فهمها وادراكها، وقد اولى النقاد الاوائل اهمية كبيرة لها، وقالوا عن المطلع الجيد “حسن المطلع”، و”جيده”، ويأتي عالم السرد ليستلم هذه المطالع من الشعر، فأنشأ عالما قائما بذاته مختلف عن مطالع الشعر، ذلك ما يمكن ان نسميه “استهلالاً”.
والعنوان، وصورة الغلاف، والالوان، واقوال شخصيات معروفة، وايات قرآنية وأحاديث نبوية، والاستهلال، كل هذه الامور تعد عتبات في أي نص، وعلى القاريء العبور من خلالها وقراءة النص، وفك رموزه، وفهمه، بربط عناصره ربطاً ابداعياً ليس بعيداً عن مقاصد الكاتب.
وللكلمة، او الجملة، او العبارة الاولى، في النص السردي اهمية كبيرة، إذ من خلالها يمكن للقاري ان يدخل في عالم النص الذي يقرأه، فتكون عند ذلك هي العتبة النصية التي اجتازها القاري في هذا العالم، هذه العتبة التي يشرع بها النص في التشكل والتخلق والخروج الى الوجود.
والكلمة هذه-او ما شاكلها لغوياً-عند الكتابة الابداعية تقوم بوظيفة الجسر النصي الذي يبدأ القاريء بواسطته في الانتقال ذهنيا من عالم الاشياء الواقعية الى عالم الاشياء الافتراضية، عالم اللغة، الكلمة والجملة والعبارة، أي من عالم الحقيقة الى عالم الافتراض التخيلي.
وكذلك تقوم بوظيفة التشويق الذي يقدمه النص، ونوعية الايقاع الذي يسلتزمه ذلك النص، وفوق هذا وذاك تكون مكون بنائي في عالم سرد النص.
هذه الكلمة، او الجملة، اوالعبارة، تسمى “استهلالا “لهذا النص، حيث يبدأ بها السرد عمله، فإما ان يكون سردا باهتا لا لون له ولا طعم ولا رائحة كما يقال، او ان يكون سردا قوي البنية، واسع الافاق، جيد السبك.
***
والتناص، كألية اجرائية، يمكن من خلالها ان ندرس مجموعة من المداخل السردية” أي الاستهلال”، لمعرفة كيف انتقلت بعض مكونات استهلال روائي الى استهلال روائي اخر بالأسس والشروط نفسها، او بغيرها.
وقد تنوع التناص، كآلية اجرائية نفحص من خلالها النصوص، الى نوعين، وأحد هذين النوعين الذي يكون على مستوى الانتاج، هو التناص الخارجي، الذي يقوم الكاتب بأعادة انتاج منتج من قبل الاخرين. (مجلة الموقف الثقافي -ع/ 17/1998-دار الشؤون الثقافية العامة – ص84)
ويؤكد محمد مفتاح على انه:(من المبتذل ان يقال ان الشاعر “الروائي في دراستنا” يمتص نصوص غيره، او يحاورها او يتجاوزها بحسب المقام والمقال ،  ولذلك فأنه يجب موضعة نصه او نصوصه مكانياً في خريطة الثقافة التي ينتمي اليها، وزمانياً في حيز تاريخي معين).(تحليل الخطاب الشعري “استراتيجية التناص” – د.محمد مفتاح – المركز الثقافي العربي – ط1/1985 – ص125).
***
امامنا الان استهلالات روائية ثلاثة تنبض بآثار الواقع الغني التي ستقدمه الرواية، نرى فيها قوة الدخول في عالم روايتين اجنبيتين، وثالثة عراقية، الاولى رواية “مائة عام من العزلة”، والثانية رواية “اوبابا كواك”، والعراقية رواية “ليل علي بابا الحزين” سنفحص الاستهلال فيها لنرى مدى قوته، وصلابته السردية، وتأثير ذلك في المتن السردي للرواية تلك.
التناص الموجود في هذه الاستهلالات هو تناص ما حدث من امر غريب لناس الرواية، فهو في” مائة عام من العزلة” يظهر على شكل المغناطيس والمخترعات التي جلبها الغجر، و في رواية” او بابا كواك” هو الكاميرا، وفن التصوير، والتقاط صورة جماعية، وفي رواية” ليل علي بابا الحزين” هو تحول الاربعين حرامي الموجودين في النصب الى سراق من لحم ودم ،  وهو تحول افتراضي، مجازي، وفي ظن الكاتب.
هذه الاستهلالات هي التي تبنى عليها كل رواية من تلك الروايات الثلاثة، ان كان في المتن مباشرة، او بصورة غير مباشرة.
ان الاستهلالات تلك هي جوهر نصي في طور التشكل، تحوي شيئاً غريباً، مؤثراً مثل السحر، تحيل الى شضايا لجواهر نصية اخرى تكون لحمة المتن الروائي، حيث تعبر تلك الشضايا من عالم الواقع إلى عالم التوقع الافتراضي،  أي عالم التخييل، والسارد الذي يقدم الاستهلال هذا، ومتن الحكاية، يستعمل ضمير المتكلم في الروايات الثلاث، لذا يمكن ان نقول عنه حسب اصطلاح “جنيت” سارد “داخل– حكائي” أي ذات مشخصة في المحكي.
جاء في استهلال رواية “مائة عام من العزلة” :(بعد سنوات طويلة. وامام فصيلة الاعدام. سيتذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي اخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد. كانت ماكوندو انذاك قرية من عشرين بيتا من الطين والقصب، مشيدة على ضفة نهر ذي مياه صافية، تنساب فوق فرشة من حجارة مصقولة، بيضاء وكبيرة، مثل بيوض خرافية، كان العالم حديث النشوء، حتى إن أشياء كثيرة كانت لا تزال بلا اسماء، ومن اجل ذكرها، لابد من الاشارة اليها بالأصبع. وفي شهر آذار من كل عام، كانت اسرة غجر ذوي اسمال، تنصب خيمتها قريبا من القرية وتدعو، بدوي ابواق وطبول صاخبة، الى التعرف على الاختراعات الجديدة. جاءت اولاً بالمغناطيس. وقام غجري مربوع، له لحية كثة ويدا عصفور دوري، قدم نفسه باسم ميلكيادس، بعرض عام صاخب، لما اسماه اعجوبة علماء الخيمياء المقدونيين الثامنة. مضى من بيت الى بيت، وهو يجر سبيكتين معدنيتين، فاستولى الذعر على الجميع حين رأوا القدور والطسوت والكماشات والمواقد تتساقط من اماكنها، والاخشاب تطقطق لان المسامير والبراغي راحت تتململ، لتنتزع نفسها من الخشب. بل ان الاشياء المفقودة منذ زمن بعيد، بدأت تظهر حيث بحثوا عنها طويلا من قبل، وراحت تتجرجر منقادة في حشد مضطرب، وراء حديدتي ميلكيادس السحريتين، بينما الغجري يصرخ بصوت اجش: “للأشياء ايضا حياتها الخاصة، والمسألة هي في ايقاظ روحها. “وقد فكر خوسيه اركاديو بوينديا – وكانت مخيلته الجامحة تتجاوز، على الدوام، عبقرية الطبيعة، وتمضي الى ما وراء الاعجاز والسحر–في انه بالإمكان استخدام ذلك الاختراع، عديم الجدوى، لاستخراج الذهب المدفون في الارض. لكن ميلكيادس الذي كان رجلا نزيها، حذره: “الاختراع لا ينفع في ذلك” الا ان خوسيه اركاديو بوينديا، لم يكن يؤمن آنذاك بنزاهة الغجر، واستبدل بغلة وشلعة ماعز بالسبيكتين الممغنطتين. أما زوجته، اورسولا ايغواران، التي كانت تعقد الامل على تلك الحيوانات، لتوسيع ميراث الاسرة الهزيل، فلم تتمكن من ثنيه عن عزمه. فقد رد عليها زوجها: “عما قريب سيكون لدينا فائض من الذهب لتبليط ارضية البيت” وانهمك طوال شهور، في اثبات صحة تكهناته. (…) وكان الشيء الوحيد الذي استطاع استخراجه من باطن الارض، هو درع حديدية من القرن الخامس عشر(…) وجدوا فيها هيلكا عظمياً متكلساً ..الخ).
اما استهلال رواية “اوبابا كواك” ، (للكاتب الاسباني برنارد اوتشاغا – ترجمة صالح علماني – ط1- 1999 – دار الطليعة الجديدة) فقد جاء فيه:(منذ زمن بعيد عندما كنا مانزال فتيانا وخضرا، جاء الى المدرسة الابتدائية التي كنا ندرس فيها رجل ذو شارب وقبعة مزركشة بمربعات، واعلن لنا بحركة جدية جدا انه آت ليلتقط لنا اول صورة جماعية في حياتنا. استمعنا اليه ونحن نفلت الضحكات، لان مظهره بدا لنا ظريفا جدا، وخصوصا قبعته، ولاننا لم نكن قد سمعنا حتى ذلك الحين أي شيء عن عبارة صورة جماعية. بعد ذلك مشينا في اثر المعلمة ونحن نخوض الماء في الشارع ونقذف حقائبنا في الهواء، حتى وصلنا الى مدخل الكنيسة.
ولكن السعادة لا تكتمل ابدا. فما ان وصلنا حتى تعكرت حفلتنا قليلا. فعلى المقاعد هناك، كانت تجلس جميع فتيات المدرسة الاعدادية، اشد خصومنا كراهية الى انفسنا في ذلك الحين: بعض الغبيات المتغطرسات اللواتي ما كن يتنازلن حتى بتحيتنا في الشارع. “من يقذفهن بحجر فليرفع يده” هكذا كان يقول لنا السيد الخوري في كل مرة تذهب اليه إحداهن شاكية. فتبقى كل الايدي في الجيوب، وتنظر كل العيون الى الارض. وها نحن لسوء الحظ نجدهن امامنا، وعلى شفاههن ابتسامات خبيثة).
واستهلال رواية “ليل علي بابا الحزين”، كان:(يوم عدت باسرتي الى بغداد–عقب رحلة كابوسية الى مدينة الاسلاف انتهت باعتقالي– فوجئت بالجيران يرددون كلاما غريبا غير قابل للتصديق مفاده ان “كهرمانة” في نصبها القائم في منطقة “الكرادة”، توقفت، يوم التاسع من نيسان، عن سكب الزيت في جرارها، حيث شوهد اربعون لصا يثبون تباعا مغادرين تلك الجرار ليتوزعوا، تحت جنح الظلام، في شتى احياء العاصمة!!). (ص 7).
في هذه الاستهلالات الثلاثة نجد امورا غريبة تحدث في بيئة الرواية، ففي الرواية الاولى يوجد المغناطيس، وبعض الاختراعات التي جلبها الغجر، وفي الرواية الثانية توجد آلة التصويرالفوتغرافي، والتقاط الصورة الجماعية، وفي الرواية الثالثة يوجد الاربعين حرامي  في النصب الذين هربوا من مكانهم، فتحولوا الى سراق.
ان الرواية الاولى تبنى على فكرة مؤداها ان كل شيء يتم بلا منطقية، وبسحرية ايهامية، وهي واقعية سحرية ميّزت الأدب الأميركي اللاتيني خلال سبعينات القرن الماضي. التي اشتهر بها ماركيز، حيث راحت كتاباته الروائية تغور بعيدا فى الخيال وفى الغرائبية السحرية، هذه السحرية تشبه فعل السحر الذي قدمه الغجر اول دخولهم القرية، والمغناطيس الذي يسحب بقايا الحديد، والثلج الاصطناعي والتلسكوبات.
فالرواية تروي أحداثا غريبة، وتقدم شخصيات غريبة، مثل الطفل الذي له ذيل خنزير، والذي أكله النمل، وأخرى شخصية “ريميديوس” الجميلة وهي تطير إلى السماء، وتمشى وحولها الكثير من الفراشات وبمختلف الألوان، وتستعيد شبابها بعد أن تتجاوز سن السبعين أو الثمانين، مثل زليخة كما قدمها الموروث اليهودي وبعض الفرق الاسلامية، وتعود من العالم الآخر لتروى حكايات عن الأموات وعن عتمة العالم السفلى، مثل شخصية عشتار وزيارتها للعالم السفلي كما قدمتها الاسطورة السومرية.
وقد كانت قرية “ماكاندو” منقطعة عن العالم كافة، وعزلتها هذه المعلن عنها في العنوان هي التي جعلت السحر الغجري وعوالم الغرائبية تنتعش فيها.
ومن الطريف ان هذه المدينة بلا مقبرة خاصة بها، لأنها كما قالت الرواية لم تكن تعرف الموت حتى ذلك الوقت، الا بعد ان يأتى الغجر ومعهم يحملون حكاياتهم الغريبة، وهذا امر غريب لا يحدث الا في عالم السحر.
ومن هذه العوالم تبنى رواية “مائة عام من العزلة”، وتتوضح تأثيرات وصول الغجر الى القرية على ناس القرية حيث تقع على رؤوسهم مثل الصاعقة.
فيما الرواية الثانية تبنى بصورة غير معلنة على الصورة التي التقطت لتلاميذ صغار فبقت في ذاكرتهم على طول الرواية، هذه الصورة يتذكرها بطل الرواية وهو في سن متقدم، ويتذكر من خلالها اصدقاءه الذين يظهرون فيها.
(ولكن اجابات الصورة لم تكن محزنة دائما. فقد كانت تكفي عموما على التشديد على تلك المقولة القديمة بان الحياة هي رحيل، وكانت تجعلنا نبتسم من التناقضات التي تنتج عن ذلك الترحال). ص 10.
(وسط هذه البلبلة، ومثلما كانت قد قالت لنا المعلمة، تذكرنا الصورة الجماعية الاولى في حياتنا. فكنا نخرجها بين الحين والاخر من بين الدفاتر القديمة، ونتوسلها ان تكشف لنا معنى الوجود. فتحدثنا الصورة عن الآلام مثلا، وتطلب منا ان نمعن النظر الى هاتيك الشقيقتين، آنا وماريا، المتوقفتين الى الابد في المنزلة رقم12من رقعة الاوكا العظيمة، او ان نفكر في مصير خوسيه اريغي، ذلك الزميل الذي تحول من طفل باسم في بناء المدرسة الحجري الى رجل معذب، انتهى الى الموت في مركز الشرطة). ص9 – 10، ثم يبدأ يذكر المصير الذي وصل اليه كل من زملائه في الصورة.
وقد كان تأثير الصورة الفوتغرافية كبيراً على شخصيات الرواية، فكانت تترآى لهم صورهم في كل شيء:(صورة فيل وحبيبته في الفندق ص162، وصورة الشخصية في المرآةص103، والصورة المشوهة التي يعكسها احد الاعمدة المذهبة  ص115).
والرواية الثالثة تبنى على هروب اللصوص وانتشارهم في بغداد، حيث عاثوا فسادا (سرقة ونهب وقتل)، إذ حولتهم الرواية مجازياً من حجر اصم في نصب معروف في بغداد، الى بشر من لحم ودم.
الاستهلالات الثلاثة قد اسست لمتن حكائي للروايات الثلاثة وذلك بزرع بذرة غريبة عن واقع الشخصيات التي تحفل بها، وقد كان بين تلك الاستهلالات امر قد اشتركت به هذه الاستهلالات من خلال آلية التناص، او كما يسميها بعض النقاد المغاربة “التثاقف”.
ان الاستهلالات هذه لروايات ثلاثة لا يعني انه لا توجد روايات اجنبية او عربية او عراقية قد بنيت على استهلالات فيها هذه القوة الابداعية، من حيث قوة البنية،  واوسع الافاق،  وجودة السبك، بل اننا اتخذنا منها ميداناً للفحص والتحليل.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.