الرئيسية | سرديات | الأمين الخمليشي| الدكتـور

الأمين الخمليشي| الدكتـور

 إنه الآن يعمل فيها ما يعمل. يدخل فيها ما يدخل ويخرج ما يخرج. فخذاها مفتوحتان وهو يطلب من الممرضة وضع السطل في المكان الملائم. وفكر خيرون وهو يتأمل أعشاب حديقة العيادة وميلاد أضواء الليل هنا وهناك: تصور أن تكون مكانها، ولمَ لا؟ ألست طرفا فيما حدث ويحدث؟ فتصور أن تكون مكانها والدكتور يلعب فيك بأدواته الغريبة، وهي في مكانك تدخن وتتأمل أعشاب الحديقة و ميلاد أضواء الليل.جاءته الفكرة مضحكة بعض الشيء، ثم انساق مع أفكار أخرى ما لبثت أن أوصلته إلى أن المسؤول عن كل شيء هو الله. وخيل له أنه يسمع صراخا خافتا، صراخها، يصل إليه من الغرفة الغامضة. لعله، في هذه اللحظة بالذات، يقتلع من داخلها الغامض آخر ما كان يمكن أن يصبح، بعد بضعة أشهر، لو بقي حيث هو، مثلك تماما، لمّا كان عمرك بالضبط تسعة أشهر، قبل أن يسموك خيرون. ولأول مرة أدرك خيرون وهو يمشي ويجيء داخل الحديقة الصغيرة للعيادة، غير مبال بالقطرات المتفرقة التي كانت تسقط على وجهه من وقت لآخر، بأن عمر الإنسان الحقيقي ، خلافا للحساب الشائع والرسمي، يجب أن يضاف إليه  دائما تلك الشهور التسعة المنسية، التي تسبق رؤية صاحبها لـ ” النور ” و مرة أخرى خيل له أنه يسمع نفس الصرخة الخافتة. إنه صوتها بالتأكيد ، يستحيل عليه ألاّ يميزه . لكنه سرعان ما اقتنع . يستحيل أن يكون ذاك صوتها. مستحيل أن تشعر بالألم. ذلك أنهم قبل الشروع في عمل أعمالهم، يكونون قد بنّجوها البنج الكافي، وعندئذ، حتى لو ذبحوها بمنشار حاف  فلن تشعر بأي شيء، بالعكس البنج يوحي لها بالأشياء مقلوبة، فلا شك أنها الآن والدكتور يدخل ويخرج منها أشياء غريبة، تشعر بلذة، لذة تفوق بكثير اللذة التي أوصلتها إلى حيث هي الآن.
هذه الأمور أصبحت اليوم سهلة ومريحة مثل عملية تقليم الأظافر، أو تحسين الرأس، مجرد يوف، يوف، وها أنت واقفة على رجليك، أخف وأصح من بغلة. وقالت هذا ما تقوله أنت، ولكني أعرف أكثر من واحدة خسروا لها الوالدة نهائيا، ثم إني أريد الاحتفاظ به، أريد أن أحتفظ به، اذهب أنت والعائلة والجميع إلى الشيطان أنا مستعدة أن أعيش بدونكم جميعا و أعيش معه وحده. طوال أسبوع وهي تبدو مصممة العزم على الاحتفاظ به، أو بها. لكنه كان واثقا من خضوعها في النهاية: سننجب بعده آخرين كثيرين، وسنتزوج في الصيف، فكانت ترد، هكذا قلت في المرة الأولى. وتصر، فيرد، وتبكي، فيحاول إضحاكها، ويقسم بشرفه.
في المرة الأولى كان الأمر أسهل، إذ كانت الأمور لا تزال في بدايتها، واكتفت الدكتورة بإعطائها بعض الإبر،غبرأنها كانت إبرا مسمومة، قالت، فما أن غرزت في الإبرة الثانية حتى أخذت أشعر بآلام غريبة وحادة، وكلما خرجت من المرحاض عدت إليه، حتى خرج مني ذلك الشيء الغريب: ما يشبه بيضة صغيرة. هل رأيت والدة دجاجة مذبوحة فيها بيض صغير، ذلك تماما ما خرج مني، ولما ثقبته، انفش مثل صديد أو بيضة في بدايتها. ثم تبعته أشياء دموية تشبه الصوصيص. أما في هذه الحالات فالدكتور أحسن من الدكتورة بشهادة أكثر من واحدة.
وتوقفت سيارة أنيقة أمام مدخل العيادة، خرج منها رجل فاضل وامرأة هرمة مجلببة، تلف رأسها بشال أبيض، وطفلان نظيفان يحمل كل منهما باقة ورد، صعدوا الدرجات القليلة المفضية إلى داخل العيادة، فخرج خيرون إلى الخارج: حي نظيف، هادئ، حسن الإضاءة، حي حسان، حي الضريح، ضريح محمد الخامس الذي سرق في أحد جوانبه أول بوسة منها، وهما يتظاهران بالإطلال على قاع الصهريج الفارغ، في الأيام الأولى لتعارفهما. في مثل هذا الوقت تقريبا، بتوقيت ذلك الصيف، إنما المشكلة هي في العودة.
هذا الرجل جاء غالبا لعيادة زوجته والمرأة هي والتها أو والدته أو واحدة من الأقارب والولدان ولداه جيء بهما لتهنئة والدتهما والأخ الجديد. إنما المشكلة هي في العودة. وعاد إلى الداخل، قلت لها مرارا : الكنات أحسن، أضمن، فترد: غير ممكن، لو كنت مستقلة، ممكن، أما الكابّوت فلا معنى له.
وتحكي له قصة عمي الفاسي: ذهب عمي الفاسي عند الطبيب لإجراء فحوص على بوله، المكلف بالفحص لم يكن في نهاره فخلط بول الفاسي ببول السيدات . ولما عاد عمي الفاسي لمعرفة النتيجة قال له الدكتور: حامل في الشهر الرابع… فخرج الفاسي، وهو جالس إلى جوار سائقه، قال له: شوف أزْدي ابْغاهيم مْلاغتك فين وصْلاتنا … ما كنتش ديما كنْؤُل ليك اعمل لك كابوت انكليزي؟
طالما نصحتها بعواقب ذلك وبأشياء أخرى، فلم تسمع. فماهو ذنبي أنا؟ وكان يمشي ويجيء مشعلا كًارو وراء آخر في انتظار خروجها في أية لحظة .. وعندما شاهد الدكتور بنفس بدلته الرمادية ولحيته القصيرة يهبط الدرجات القليلة لباب العيادة ويقطع بسرعة الممر المعشوشب، بأصابعه القصيرة البيضاء، قاصدا الخارج، هرول خيرون وراءه:
– دكتور كيف حالها؟
كان الدكتور قد استقر داخل سيارته وأخذ يضغط على زر، فأخذ الزجاج المواجه لخيرون يهبط ببطء ، حتى إذا ما توسط منتصف النافذة، قال الدكتور:
–  صابا، مزيان، بصاح هي زوجتك؟
– نعم، تقريبا، يعني مخطوبين، وسنتزوج في هذا الصيف إن شاء الله.
– مبروك. إنما قبل ذلك لابد من تحليل دم مشترك. دمها كيسيل شوية.
– شكرا.
وفيما كان الدكتور يعاود إشعال سيجارته، ألقى خيرون ببقية سيجارته على الرصيف وحشر رأسه داخل السيارة:
– دكتور من فضلك هل يمكنني طلب تاكسي من عيادتكم بالتلفون؟ ما عنديش سيارة.
أجاب الدكتور وهو يجذب نفسا عميقا من سيجارته، متكئا إلى الخلف، مطلقا موسيقى كلاسيكية، مرخيا أطرافه في لامبالاة، مبتسما مع نفسه، مغمضا إحدى عينيه، مداعبا لحيته:
– معلوم ممكن. إنما صاحبتك في حاجة إلى قليل من الراحة، ربع ساعة، ساعة ماكسيموم. إذا لم يظهر لك تاكسي حتى تلك الساعة، فسأكون قد عدت، فأوصلكما بجوج بكم، أين تسكن؟
– بارك الله فيك. أنت منذ اليوم صاحبها أكثر مني، نسكن قريبا، بعيد شوية، قريب يعني. هل والْدتها بخير؟
– والْدتها؟
– نعم، نعم الوالْدة، والدتها.
– بخير إن شاء الله. إنما دمها كيسيل شوية.
– بارك الله فيك مرة أخرة.

تعليق واحد

  1. أستاذي العزيز في المدرسة العليا للأساتذة … كامل المحبة والتقدير …

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.