الرئيسية | فكر ونقد | “أريجُ” أزهارٍ الألم: قراءة حول ديوان “رماد اليقين”| إدريس كثير

“أريجُ” أزهارٍ الألم: قراءة حول ديوان “رماد اليقين”| إدريس كثير

إدريس كثير

 

تتزاحم الصور

والكلمات

على باب قلمك

فينسد عنق الكتابة

على الكآبة”

(هل يحدث أن.. ص 68 من ديوان رماد اليقين)

ما الذي انحشر في بلعوم القلم؟ وشتت ذهول الكتابة على الكآبة؟ ما السبب، هل ضيق العيش أم حسرة الوطن أم شظف الحياة؟

لو كان الضيق والحسرة والشظف لهان الأمر.

ولكن.. من بعيد، وراء القمم انتشر “أريج”.. بطعم الدم، برئ شريد شهيد. وأجج السؤال مرة أخرى.. للمرة الألف..

هل “أريج” الرضيعة المريضة الضعيفة هي سبب كل هذه الكآبة؟ وسبب كل هذا الألم الأبدي؟

بهما (الكآبة والألم) يحدث أن تتدافع الصور وتتلاطم على باب المرفأ فينكسر القلم بسبب الموج الهائج المائج في الصدر، وتغرق الزجاجة في زلالها من عنقها بما في أحشائها من كآبة وكتابة.

الكآبة والكمد والحزن والشماتة والانكسار والحلم والخوف والغضب والشكوات والنكبات والأوجاع و… هي مرارة هذا الديوان: “رماد اليقين” للشاعر محمد بلمو (ط الثانية. مطبعة الكرامة 2016).. مثلما كان الألم والشر هما معا رماد أزهار بودلير..

الرماد مادة غير قابلة للاحتراق، هي البقية الباقية منه. بعد إجراء الفحوصات على رماد المواد المحترقة يمكن التعرف على ما كانت تحتويه قبل الاحتراق

“رماد اليقين” هو ما تبقى من اليقين. ما لا يمكن احتراقه من جمرة اليقين.

أما “ديوان رماد اليقين” فهو ما تبقى شعرا رماديا من مكابدات الشاعر مع الحياة (من الخوف / سترتعش / أصابع جبانة / وتركن لنظارتها السوداء / عيون المخبرين)، مع اللغة (كي تزعم أن الحروف / عبيد نزواتك)، مع الأمل (لو بمقدوري / أن أسرج خيول زئبق / أن أركب عواصف عنقاء / أن ألوذ بالضياء)، مع الحب (أنت / عنب الذاكرة / تين المرارات)..

لكن “لقراءة هذا الرماد(يجب) المضي (قدما) إلى أول الحريق” (ص 74 من الديوان)

وأول حرقة في هذا الحريق “هي” ..الحياة / اللغة / الأمل / الحب ..ملفوفا في” الأريييييييج” .

كيف يمكن لفوحان العطر الطيب أن ينفد؟ ولانتشار العطر الزكي أن يخفت؟ كيف يمكن لعبق العبير أن ينفطر ويتحول الأريج إلى صوت ضجيج باكٍ؟ ما الذي “أَرَّجَ” بالشاعر وجعله يضجّ بالنواح؟ لا يقين في البراكين، لكن رمادها هو أول اليقين. ولا يقين في الشعر لأن (الشاعر حين ..) غاب / بلا هوادة / في كتاب / الحزن، سرق اللصوصُ العرعارَ من الصناديق وتركوا الخوابي مترعة بالبياض..

هو الشاعر في حزنه هذا، ككل الرومانسيين الذين يفتحون جراحهم لكل القلوب، لينكأ شماتة الطفيليين في وجه العشاق وتوهج الجمر في المقل ووداعة الشعر في الاستعارات وشهدة الرحيق في “الأريج”. الزرنيج ضرب من أضرب “الشمائت” (شمّاتون).

لو كان بمقدور الشاعر لما كتب عن هؤلاء ولما جاورهم .. لا خير يرجى ممن لا حلم لديهم ولا هم يحزنون: لصوص، عيون..لا يصدّقون أن الشمس قد لا تعود إلى مرقدها يوما ما. بمفرده المداد والسمّاق يطرّز الحكاية ويفرز العقدة. لمن غيرهما يشكي الشاعر ضيقه وكمده، شكواه وبلواه. تتمدد الحرقة في شرايينه وتتجمد في فؤاده.. والمداد هو المداد. هو مادة القوافي والجناس والقياس “الخنّاسي”.. هي الرتابة حين لا تدرك البداهة ولا تروي ماء المعنى إلا من قارورته ولم أقل قاذورته:

دعني

أيها المداد

دعني  (ص 31).

لو كان في مقدور الشاعر لسمّاه الحبر وجعل منه “موطئ قلم” وموطن حبر الأحبار وكتب:

لو بمقدوري

لما كتبت  (ص 16).

….. ثم….

وأني لم أمدح قط

غير الربيع رفقة حماري الأشهب. (ص 27)

لو كان في مقدور الشاعر، لا شعرا ولا لغة ولا مجازا فقط، وإنما محبة وإيثارا ومروءة وفراسة لأوقف الموت: بالإبرة القلقة أو بِرَبْوَتَيْ الصدر النائم أو بالبكاء أو بالعشق أو بالاستشهاد أو بالاغتراب داخل الغابة:

انفرط العدد

يا غربة

لك وحدك

شكواي  (ص 47)

من شرفة الشكوى والبلوى ما الذي يستطيعه الشاعر؟ لا شيء تقريبا. كل المهارات الشعرية والفنية التي امتلكها أورفيوس لم تُنْجِ جملته أوريديس من الموت، وكل العشق الذي أضمره المجنون لِلَيلى لم يشفع لها بليلة ليلاء، وكل “سقوف المجاز” لم تُدثّر وحدة إلزا ولا وحشتها.. حتى صافو لم تستطع شيئا أمام لغز الكآبة والكربة.

للشاعر شعره. هذا ما يستطيعه.

عودي أريج كي نرقص

شقشقات سرب العصافير

أريج

فوق ربوة ربيع

تفوح

روائحك

أريج

ما أجملك

ما أجملك  من قصيدة “عودي أريج كي نرقص” (2016)

من يسطو على أريج وروائحها الفواحة بكل هذا الشر الشرر؟

من أين تأتي الشرور؟

نحن، لتشقيق الكلمة في حاجة إلى “تعريفات بدائية جدا”. من قبيل الشر شعر سقطت عينه، والألم قلم (بالنطق الفاسي الجميل) كتم أنينه والشجرة تحرس ساحة الاحتجاج والحلم وحده لا يستطيع الحراس / إلقاء القبض عليه.. والحصار والمثقف وهلم جرا..

نحت الإنسان علما سماه ألغوديسيا وهو علم الألم، به يدرس أسباب وجود الألم والشر المستتب على الأرض. هل منبعه السماء؟ هل هو رسالة تحذيرية للبشر؟ هل هو عقاب؟

لقد فحص الفلاسفة الإشكالية من كل أوجهها وانتهى علماء الكلام الفلسفي إلى أن الله عالم لا بعلم وإنما بذاته، وخيّر لا بخير إنما بذاته. فلا يمكن أن يأتي الجهل منه ولا الشر ولا الألم. إنه منزّه عن كل هذه الصفات .. فكيف يمكن للعطر أن يُعاب ولأريج أن تُصاب وللشاعر أن يُخاب؟

ما يتبقى -فيما وراء الفلسفة واللاهوت – إنما يؤسسه الشعراء.

كان الشاعر هولدرلين يقصد بهذه الحكمة الشعرية تأسيس ما يدوم ويستمر. والديمومة تعني أيضا السكن هنا حيث يعيش الإنسان ويقطن. في هذا المسكن (الأرضي) يؤسس الشعراء مأواهم وأيضا مثواهم فقط باللغة. الطبيعة، الحب، الصداقة، هي ملح هذا الوجود الذي يقطنه الإنسان في لغته وبلغته. لولا اللغة الشعرية (بويسيس) لاستوحشنا هذه الكينونة واستغربنا قلقها وغرابتها وفقدنا طعمها. هذه هي القدرة التأسيسية التي هي في مقدور الشعراء بمفردهم حسب هايدجر.

وإذن للشاعر شعره.

لولا الشعر يا “أريج” لولا شذاه و شذاك لبقي “رماد اليقين” سديما مريرا  لا طعم له …

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.