الرئيسية | تراث | أبو محجن وحبه الجارف للخمر | محمد العياشي

أبو محجن وحبه الجارف للخمر | محمد العياشي

محمد العياشي:

 

 

إذا مت فادفنِّي إلى أصل كرمة…تروِّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنوني في الخلاء فإنني…أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

لا شك أن أغلب المهتمين بالشعر العربي  يحفظون هذين البيتين لجمالهما وغرابتهما فالشاعر يلتمس من دافنيه بعد موته أن يدفنوه في عروق كرمة لترويه لسبب يراه مهما هو أنه عاشق للخمرة ولا يريد أن يحرم منها بعد موته بالإضافة إلى جمال الصياغة، وأقول لمن لا يعرف صاحب هذين البيتين إنهما لشاعر مشهور بشاعريته وفروسيته وحبه للخمر اسمه أبو محجن الثقفي من ثقيف، وثقيف هذه معروفة بالإباء، وهي كما نعلم آخر قبيلة تقبل الإسلام ومعروف ما فعلت بنبي الإسلام حينما هاجر إليها بالطائف قبل الهجرة وهي أيضا قبيلة الحجاج بن يوسف القائد الأموي.  إذن نحن أمام شاعر شديد الشكيمة أبي من أصول صلبة٠

إن أول ما يطالع قارئ أخبار أبي محجن الثقفي هو حبه للخمر ومجابهته للسلطات الحاكمة من أجله، ومجاهرته به٠ قال عنه صاحب الأغاني:

وأبو محجن من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام وهو شاعر فارس شجاع معدود في أولي البأس والنجدة وكان من المعاقرين للخمر المحدودين في شربها٠

تجد أخبار أبي محجن عند الرواة والمؤرخين متضاربة ولكنها مجمعة على شاعريته الفذة كما يؤكدها لنا ما تبقى لنا من شعره وشجاعته وأنه أدمن الخمر حتى نفيه عمر بن الخطاب.

وإني لذو صبر وقد مات إخوتي…ولست عن الصهباء يوما بصابر

رماها أمير المؤمنين بحتفها…فخلانها يبكون حول المعاصر

إذن هو يتأسف لأن أمير المؤمنين رمى الصهباء بالحتف وأمير المؤمنين هذا لم يكن إلا الخليفة عمر
وأغلب الأخبار تؤكد أن الخليفة نفاه لما حدّه مرارا لمعاقرته الخمرة ويأبى أن يفارقها واستطاع أن يفر من الحارس في الطريق إلى المنفى واسم المنفى حضوضى  واسم هذا الحارس ابن جهراء:

الحمد لله نجاني وخلصني…من ابن جهراء والبوصي قد حبسا

من يجشم البحر والبوصي مركبه…إلى حضوضى فبئس المركبُ التمسا

أبلغ لديك أبا حفص مغلغلة…عبد الإله إذا ما غار أو جلسا

أني أكر على الأولى إذا فزعوا…يوما وأحبس تحت الراية الفرسا

أغشى الهياج وتغشاني مضاعفة…من الحديد إذا ما بعضهم خنسا

 ليلتحق بجيش سعد ابن أبي وقاص في العراق وهو يقاتل الفرس في  القادسية  ويعتقله سعد إما لسكره أو لرسالة جاءته من عمر فيه ٠

في هذه المعركة تظهر طينة هذا الشاعر الفارس من حيث الشجاعة والفروسية مما تحمل من معاني النبل والوفاء والصدق، كان كما نعلم مقيدا في القصر وحينما سمع صليل السيوف وصهيل الخيول مع اشتداد الحرب صعد مكبلا للجنرال سعد لكي يفك قيده ليكون له شرف المشاركة في المعركة فرده الجنرال ولم يهتم به فأسرع إلى سلمى زوجة سعد يتوسلها قائلا: يا بنت آل أبي حفصة هل لك إلى خير؟ قالت وما ذاك قال :تخلين عني وتعيرينني البلقاء فلله علي إن سلمني الله أرجع إلى حضرتك حتى تضعي رجلي في قيدي .فقالت: وما أنا وذاك فرجع يرسف في قيوده ويقول:

كفى حزنا أن ترديَ الخيل بالقنا…وأترك مشدودا علي وثاقيا

إذا قمت عنَّاني الحديد وغلقت…مصاريع من دوني تصم المناديا

فقالت له سلمى :إني استخرت الله ورضيت بعهدك فأطلقته وقالت:

أما الفرس فلا أعيرها ورجعت إلى بيتها فاقتادها أبو محجن وأخرجها من باب القصر ٠ ومن المصادفة السعيدة له في ذلك الحين أن الجنرال سعدا كان معتلا ولم يشارك الجنود الحرب فامتطى أبو محجن فرسه البلقاء  وكانت  مشاركته  فعالة إلى درجة أنهم ظنوه ملاكا لولا أن الملائكة لا تباشر القتال وهناك من ظنه الخضر  إن كان الخضر يشهد الحروب٠٠٠ ولم يعرفه أيضا القائد سعد بعد أن راقبه جيدا من شرفة المراقبة من مركز القيادة الحربية فقط شك فيه٠

أعجبني جدا توسله وتحسره  ذاك (لله علي إن سلمني الله أرجع إلى حضرتك حتى تضعي رجلي في قيدي وقوله كفى حزَنا أن تردي الخيل البيت) هذا التوسل وهذا التحسر  يظهران مدى رقته وشجاعته وحبه لخوض الحرب وشغفه بها مما يبدي بجلاء فروسيته العريقة٠٠٠ وهما اللذان جعلا زوجة الجنرال ترق له وتفك قيده ٠٠٠

عاد بعد أن وضعت المعركة أوزارها الى مكانه في القيود بدون تردد وأنشأ يقول:

لقد علمت ثقيف غير فخر…بأنا نحن أكرمهم سيوفا

و أكثرهم دروعا سابغات…وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا

وأنا رفدهم في كل يوم…فإن جحدوا فسل بهم عريفا

 وليلة قادس لم يشعروا بي…ولم أكره بمخرجيَ الزحوفا

فإن أحبس فقد عرفوا بلائي…وإن أطلق أجرعهم حتوفا

القراءة لهذه الأبيات  تنفي بالمرة أن الشاعر الفارس قاتل لأجل نشر الدين أو في سبيله بل قاتل شجاعة وفخرا بثقيف وبنفسه خلافا لمن يظن غير ذلك.

وهنا يعفو عليه القائد بعدما رأى شدة بأسه وقوة بلائه فقال: أما والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى الله المسلمين علي يده ما أبلاهم فخلي سبيله٠

ولعله انقطع عن شرب الخمر لأنه كان يتعمد شربها ليس بسبب عشقها له فقط ولكنه أيضا نكاية للسلطات بسبب تدخلهم في حريته وجلدهم له.

وأختم بهذا التعريف لابن عبد البر من الاستيعاب ج ٤، مما يؤكد أنه صحابي وأنه مختلف في اسمه كما هو الشأن في غالب الأعلام القدامى:

 أبو محجن الثقفي، اختلف في اسمه فقيل اسمه مالك بن حبيب وقيل عبد الله بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة إبن عوف بن قسي وهو ثقيف الثقفي وقيل اسمه كنيته أسلم حين أسلمت ثقيف ، وسمع من النبي (ص) وروى عنه حدث عنه أبو سعد أبو محجن هذا من الشجعان الأبطال في الجاهلية والإسلام من أولي البأس والنجدة ومن الفرسان البُهَم وكان شاعراً مطبوعاً كريماً ألا أنه كان منهمكاً في الشراب لا يكاد يقلع عنه ولا يردعه حد ولا لوم لائم ، وكان أبو بكر الصديق يستعين به وجلده عمر بن الخطاب في الخمر مراراً ونفاه إلى جزيرة في البحر وبعث معه رجلاً فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.