الرئيسية | سرديات | الموت الذي مرق بين نحر الفجر وضفة النهر | عبد الواحد كفيح

الموت الذي مرق بين نحر الفجر وضفة النهر | عبد الواحد كفيح

عبد الواحد كفيح :

في أول لقاء به، أدركت أنها فازت بأجود ما يمكن أن تجود به هذه الأرض الخصبة المعطاء. من الله عليها بفحل من فحول القبيلة يفيض نضجا ورجولة وتنين لا ينفث النار من خياشمه فحسب، بل كله نار على نار. في حين أدرك هو، أن الترقية التي طالما انتظرها بسلك الجندية  ها قد عوضتها ترقية أمه”هذه الجنرال “التي رقته ووشحته بوسام من درجة فارس مغوار و”أنعمت عليه بأعلى المناصب والرتب التي يستطيع الأمراء والجمهوريات أن يسمحوا بها للناس” حين اختارت له هذه العنقاء/الغزالة البرية التي ربما خرجت للتو من البراري فوقعت في حبال هذه العجوز. ثلاث ليال بالتمام والكمال كانت حاسمة لينهمر الغيث مدرارا ويتدفق السيل ويسقى ويحرث  بطن فرس جموح جادت عليه السماء بسخاء.

عاد على جناح السرعة، للثكنة العسكرية بقرية جنان العثماني بعدما وضع الحجر الأساس لمملكة سيغادرها مكرها. غياب قاس، طفق اليوم يلد اليوم والشهر يطرح الشهر والشوق يعانق الحنين. سهرت الليالي تداوي جروح الغياب بقراءة الرسائل على ضوء الشموع الخافت، مستمتعة بحكايا العجوز، في حجرة من طين وقش بنافذة واحدة تطل على ضواحي القرية.

 تتهلل أسارير شيخ القبيلة كلما عثر على رسالة لاتحمل طابعا بريديا ولكنها مختومة بخاتم أحمر ويمد المقدم بالباقي بينما يحتفظ بالرسائل ذات الدمغة الحمراء تحت سترته أو بشكارته كورقة يانصيب رابحة لاقتناص لحيظة اللقيا وذاك يوم اليمن والسعد.

وكما تعرف أخي القارئ أن يد المخزن طويلة وكيف لاتكون بندقيته هي أيضا طويلة وشرسة؟ طلقة واحدة من بندقية المخزن كافية أن تصلى عليه صلاة الغائب.

رآها الشيخ التعس، تنهد عميقا، هزته الرغبة في سبر أغوار تضاريس ذاك الجسد الغض البض الذي ،حسب اعتقاده ،يتأوه تواقا كل يوم بل كل ساعة إلى يد تمتد لترعش مكامن اللذة فيه وتحركت بدوا خله نوازع الحيوان الجامح للافتراس دون أن يسيل فمه لعابا. فأسرار جاذبيتها تكمن في جرأتها، شجاعتها، في بطنها المنتفخ، في جسارة نظراتها ، في قدها البهي ،المسوى القادر على علاج أدهى الأمراض. وبتعدد الزيارات وتوالي اللقاءات  زاد همه وغمه. صار شيخ القبيلة طفلا غرا ساذجا لا يملك من عصارة تجاربه شيئا، وهو الذي استوفى حقه من شرع الله، ثلاث زيجات وواحدة حديثة العهد بالطلاق، وهو الذي خبر حياة البدو القساة الرحل الجلف فرقا وشيعا وخالط دار المخزن قوادها ودركييها وذوي البدلات غير العادية حتى غدا واحدا منهم مهاب الجانب عزيز المقام. رغم كل هذا بات ،لا يملك غير الشحوب والذبول ويبكي بلا دموع والتنهيدة وراء التنهيدة وصار أكثر ما يؤرقه جبنه وفشل مناوراته, كما زادته رجله اليمنى المنقوصة  استصغارا واحتقارا. رجله التي، كان  كلما مال عليها مال جسمه الممتلئ، بعنف حتى لتكاد تظنه انه لا محالة هاو على انفه. شيخ الدوار أصابه الدوار، عربدت في ذهنه فكرة أكل الشهدة والعسل.

علت زغرودة أولى وثانية وثالثة تسلل صداها من كوة البيت جعلت الأهالي حوله يتحلقون مستفسرين عن مصدر الفرح وهم يتلاغطون تماما كليلة بزوغ الهلال وبدء النفخ في المزمار والنفار إيذانا بحلول شهر رمضان .تهللت الوفود من القرى النائية قادمة ،والحجرة كما نعرف ضيقة والوافدون كثر .ما كان يهم الوافدين معرفة جنس المولود، إلا أن المفاجأة كانت اكبر من مولود بل توأمين سويين، بيضة وانفلقت ذكر وأنثى . ومن سحناتهما يظهر الشبه الكبير بابيهما الغائب، هكذا هدأت النوايا الخبيثة التي كادت الظنون أن تحيلها إثما كبيرا، وتيقن الجميع أن الجندي يستحق سلك الجندية بامتياز .اغتنمها شيخ الدوار فرصة سانحة ليتصيد فرصة  اللقيا لتبعث للجندي بالمظروف الذي يحمل البشرى.

رسالة أولى :

 لقد وقع علي الاختيار ضمن كتيبة فيلق في طريقه من ثكنة “جنان العثماني” إلى دوار “فم الخابية”. تحرك سيتم في سرية تامة ،حيت سيتحرك الجنود في خطوة أولى إلى محطة القطار المنسية، بقريتنا ،في اتجاه دوار” فم الخابية”، ضمن قوة استثنائية لحفظ السلام، وضمانا للاستقرار هناك، ردا على ثورات الفلاحين وعصيانهم وتمردهم على “القرد” الذي عاث فيهم فسادا، وتعزيز دور رجال الدرك في إطار مساعيهم الصارمة لحماية موظفي مركز القرض الفلاحي.

ولضرورة الحفاظ على السر، احرصي على أن يكون لقاؤنا عاديا لا يثير الشكوك وأن يتم في سرية تامة. وهكذا سأكون أسعد خلق الله وأنت تحملين إلي ذريتي شهادة  ميلادي ورمزا امتدادي في التاريخ والجغرافية.

رسالة ثانية :

نسيت حبيبتي كل ما في القرية. نسيت أجمل ذكرياتي. نسيت شقاوة الطفولة نسيت الحروب نسيت التحديق في  سنوات الماضي، نسيت نفسي وسحر مسقط راسي، نسيت كل شيء ولم يعد يتربع على قلبي، ويعرش في ذاكرتي، سوى أنت.

نأكل ونشرب. نقضي حوائجنا زاحفين ثم ننام.نأكل بعضنا البعض.تعبنا من الكلام. من ترديد الأخبار الزائفة والحقيقية. مناوراتنا الزحف على بطوننا للأسرة والمراحيض. ترهلت أبداننا وتضخمت رؤوسنا.

قائد الكتيبة يناور يخطط كيف ينفد بجلده. سئمت الانتظار. أن ادخل معركة خاسرة مسبقا خير لي من هذا الانتظار الذي يقتلني كل يوم انا لست من تلك  الحشود التي لا تتقن سوى فن تطريز النميمة ولغو الكلام.سأعود برا أو جوا أو بحرا. المهم سأعود. لن يلتحق خالد بسلك الجندية ولا خلود. سيترهلان ويصابان بداء الإسقربوط كما أنا. وقد تبدأ الحرب ولا تنتهي، لاقدر الله، فلقد علمنا التاريخ أن الحروب يشب فتيلها خطأ، في ثرثرات عابرة  لساسة متهورين لتندلع بعد ذلك  من وراء المناضد و يستعر أوارها من تحت جزمة أحذية الجنرالات، ويحصد ثمارها الجبناء، وقد تدوم أهوالها وو يلاتها أكثر من قرن/ مائة وعشرون حولا مما نعد ويعدون. فالحرب حبيبتي رحى بفكين و ثعبان برأ سين، أحدهما السلم كما يقال. وقد أموت وتموت أقوام وأقوام وقد تدهسني الموت في أول معركة، ولن تجدوا حتى جثتي للدفن، وقد افلت وأعمر، ولكن دائما ودوما داخل رحى الحرب.

رسالة ثالثة :

ماذا لو اندلعت الحرب غدا أو بعد غد. الأعداء دائما على الأبواب والعتبات، عتبات العقول الجامحة إلى ارتكاب الجريمة.

النياشين والأوسمة تنتظر ضحايا الحروب والمعارك، ولكنك أنت حبيبتي، وسامي، وخالد وخلود جذوري ورمزا امتدادي. خالد وخلود أخرجاني من عالم الغيب إلى عالم الشهادة. قد تقوم قائمة الحرب ولن تضع أوزارها وليكن، قد أقضي ولا أراهما لان الجنود الفقراء من أمثالي منذورون للموت. في هذه الحالة رجاء (جندي متفائل بوقوع الحرب ويتمناها اليوم قبل الغد) في هذه الحالة رجاء، رأفة بتلك الكميشة من اللحم: “الشيبانية” أمي، ضعيها في بؤبؤ العين، فهي مرودي الذي آمل أن أكحل به عيناي حتى أراكم تكبرون رغم أنفكم. وهي التي تنوء بحمل صرة زادي ليوم الميعاد، وتحت أقدامها تأشيرة اللقاء بالحاكم الأعلى. النصر، الهزيمة، النصر مع تجنب القتال. التداريب، تفادي وتقليل الخسائر، الأوامر ،قرع الطبول، احتمالات النجاة والموت، الشجاعة، الحزم والإقدام، لعلعة الرصاص،الخراطيش، القذائف، الجبهة، مواقع القيادة، تعديل الخطة، الاستراتيجية والتكتيك، الثكنة، الإقدام والإحجام، الكر والفر، السلم، تحط الحرب أوزارها. مصطلحات نفرتني من نفسي. الحرب حبيبتي اختراع  سخيف لأولئك الذين شاخت لذاتهم وما عادوا يلتذون إلا بإشعال الحروب واقتراف العداء.

قيل انه حول، ذات ليلة، الثكنة إلى حلبة صراع شبت فيها فوضى عارمة انتقلت شرارتها إلى كل المواقع، استدعت تدخلا وازنا من أعلى أجهزة العسكر بالحامية. منذ ذاك أدرك كل الجنود هناك أنهم مازالوا على قيد العقاب، و…تسبب في عقاب جماعي.

لم يمر وقت طويل حتى دوت أخبار موت جنرال القرية. تقاطر على البيت جمهرة من ساكني المقبرة المتواجدة بالضواحي. اهتزت القرية على خبر الصاعقة الذي رج أركان البلدة بكاملها  تألم له الكبار والصغار على حد سواء. ماتت الشيبانية، وبقي دين كجلجل، معلق في عنق ذات التوأمين. لم تقدم ولم تؤخر. كل ما استطاعت فعله هو ذرف دموع، هطلت على خديها كما عاينها الحضور والنوايا السيئة. لم يتبين ذوو النفوس الخبيثة صدقها أو زيفها. المهم ذرفت دموعا ماهَمَّ إن كانت حارة أو باردة.

باتت مقرفصة على عتبة الباب، تنتظر انبلاج الصبح، مستعدة متأهبة مترقبة، كمسافر كغريب حط للتو بمحطة قطار غريبة. ما إن بدأت أول خيوط العتمة في الانسحاب متسللة من الكوى والشقوق والمنافذ حتى بدت من الدار شمس سبقت شمس الكون طلوعا.

تحفظ القرية شعابها ووديانها ومساربها. كيف لا وهي ظبية البراري وسليلة فرسان “وطية بلارج” وفدادين جموع الأرض السلالية ل”بني خيرون”. اختارت، في غبش الفجر-قبل أن تشرئب أعناق الديكة لمصافحة صباح جديد-،  أن تسلك دروبا ومسالك مختصرة، لكنها موغلة في السرية والغرابة، تفاديا لاحتمال رؤيتها من طرف أخضر العين: فقيه المسجد أو احد الرعاة اليقظين مدمني صلاة الفجر، لا الرعاة التنابل الكسالى. ما كاد الليل يلفظ آخر نجومه حتى أطلت ظبية البراري من على آخر تلة على المحطة المنسية، ولم يبق لها إلا أن تعبر النهر العظيم، – والتوأم الأول منتصب على صدرها كالكنغر، في جيب أمه،  والثاني ملفوف، لاذ بظهرها كجرد لا يظهر له اثر. لاح لها  من بعيد، على الضفة، ما يشبه قاربا صغيرا، لعله لأحد الصيادين الذين أنهكهم الحظ العاثر وجعلوا من هذا اللوح الخشبي عبارة تطفو لتقل العابرين الغادين والرائحين. تمنت لو تركب القارب المركب. تمنت أن يأتيها من هناك، يحملها هي والتوأمين، بين ذراعيه ويهرب بها بعيدا بعيدا عن القرية والثكنة والعالم، أن يهرب بها إلى جزيرة خضراء نائية تملأ صدرها/ رئتيها بالحب والهواء والماء حيث تتشمم رائحة الوحدة التي تجعل صدر الدنيا أوسع وتضيق الكوة التي منها تطل علينا تلك التي خطفت حماتها. وحيث تخز الدنيا بمهماز السعادة التي ترقبها، لا ريب، طالعة  آتية من مستقبل خالد وخلود، لكن ظبية البراري، تعض الآن على أفكارها، تسرع الخطو، تتسرع اللقاء بعدما أعياها الانتظار،والذي طالما كانت بالرجاء والتمني تداريه، وتحاشت كل ما من شأنه أن يكشف هويتها، فانبرت، كأيل حرون  وحشية تحث السير، خفيفة الظل تسابق الريح، متسربة بين الخمائل والأعشاب البرية الكثيفة والأجمات، نافرة الجبهة مركزة  على إيقاع لهاثها و صفير صدرها وتقاسيم حركات رجليها الغائصتين في بساط الوحل اللزج الرجراج، الذي ينبئ بمخلفات فيضان هائل حديث العهد. سلكت طرقا ملتوية، أفضت بها إلى مطحنة مائية مهجورة، بها آلات تقليدية عتيقة من الصعب تحديد مجال استعمالها-هويتها-هناك استقرت تحت الأشجار الحانية أغصانها في هذا الوادي الأمين، حتى تبينت لها، كاللجين صفحة الماء في منعرج ضيق من النهر، تستطيع من خلاله العبور بأمان للضفة الأخرى. لأن الجسر الوحيد بالقرية بعيد جدا، ولأنه كذلك جسر مشؤوم، لقب بجسر “المغدور” وتلك قصة أخرى لبطل القبيلة الذي ثأر بشراسة، لشرف أخته من عمال شركة  لبناء الجسور وقتل غيلة وغدرا، ويحكى أن موته كانت رهيبة إلى أقسى الحدود، حيث رمي به في طاحونة لطحن الحصى والاسمنت أردته فتاتا من مكونات الخرسانة. وتلك قصة اخرى ضاعت فيها  الحقيقة بين الحكايات المبعثرة التي لاكتها الألسن آنذاك بدون جدوى.. وفي هذا العش المنسي تحت أغصان كرمة هرمة، مسحت ظبية البراري الضفة وكل المدى بعينيها الزائغتين وأرهفت السمع لقلبها  وحده قبل أن تأتمن الكرمة وتضع التوأم الأول –لعلها خلود- على كومة قش جاف، فيما تهيأت بكل حزم- والتوأم الثاني بين ذراعيها- للعبور للضفة الأخرى. تقدمت إلى النهر العظيم، رغم انف الوحل وثقله، فاستطاعت ببراعة الصيادين الصناديد المتمرسين أن تعبر النهر تارة سابحة مجذفة بيد واحدة، وماشية تارة أخرى. ما كنتُ أتصور قط أنها سترفعه بكل تلك القوة على مستوى الماء، ممسكة به كقبضة سواك أو نعناع. ورغم الوحل عدلت من وضع رضيعها على كتلة عشب بارزة كجُزيرة تطل على السماء من باطن الأرض، متحدية الوحل وأرخبيلات المستنقعات، حتى إذا ائتمنت عليه عادت ثانية من حيث عبرت. أحست بنشوة تغمرها وكأنها سافرت دهرا أو طورا من سنين وما سافرت. على جسمها التصقت ثيابها التي أضحت أسمالا  ضيقة أكثر من اللزوم بعدما كانت فضفاضة قبل حين، ليشرع بذلك كتاب جغرافية جسدها على مصراعيه، لينفخ فيكَ رغم برودته نار الهوس الجنسي المحموم..، جسدها، هذا الشبه العاري، الذي  يتمطى، طوح بمخ شيخ القبيلة وافقده مشْيخته و صوابه، هو الآن ملك مشاع للماء والهواء والعراء والأرض والسماء.

وحين العودة للضفة الأخرى كانت الحتمية التي لا تعاند ولا تغلب..ربما غاصت قدماها في الوحل وأخذ منها الوهن مأخذه أو زلت قدماها من على الحجارة اللزجة الملساء المغمورة بالماء، فقدت توازنها، خارت قواها. خبطت في الماء طويلا بذراعين مكلو لين بعدما شقته أول الأمر شقا، بقوة و ببراعة لاتضاهيها سوى براعة البحارة المردة المتمرسين. عاركت بضراوة وعناد، رسول الموت طويلا قبل أن تعض على الموت وترديه قطعتين تفيضان بالحياة على الضفتين  و تغوص إلى غير رجعة. حكت لي جدتي، أن رسول الموت لا يبكي، ولكنه في هذه الحالة ذرف، على ضفتي النهر، دموعا غزيرة حارة قبل أن يقطف ورقتها من شجرة الحياة، ويستل روحها المطمئنة اليانعة، في وضح الصباح، عائدا بها، في رحلته الأزلية، إلى ملكوت الخلود…مفرقا بين التوأمين إلى الأبد، وواضعا نقطة نهاية لقصة حب ترعرعت بين رعشة الرسائل وفتنة الغياب.

لعلك تساءلت عزيزي عم حصل للشيخ التعس هل استرق خطواتها؟ من هم الرعاة التنابل الكسالى؟ بل لعلك تذكرت مأساة انتظار الجندي المجهول. وهل سيؤلف الزمن بين خالد وخلود؟ لا تنتظر … جوابا فتلك بداية لعبة جميلة سنلعبها جميعا بكل تأكيد في قصة غير هذه.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.