تمَّت الإشَارة مِن طرَف مُفكريين أخلاقيين بأنَّ العَصر الحَالي سَيشَهدُ ترِّدي القيَم الأخلاقية والوَعي بضَرُورتهَا في سَبيل بنـَاء المُجتمع الفـَريد، وَهُوَ مَا تمَّ بالفِعل فالمَجَالُ السيَّاسِيُّ والمَدنيُّ والحَيَاة العَامَّة والمَجَال المُؤسَّسَاتِي والتــِّقني والعلمِيّ والتربَوي و غيرهَا من مجالات الحياة المتعددة تعَانِي من سَرَطـَان حَقيقـِي و وَرَم خـَبيث يَنخر بنيَة المُجتمع وهَرم الدَّولـَة مِن القـَـاعدة حتـَّى قمَّـة الهَرم، عَبر الفسَاد المستشـْري بشتـَّى أبعَادِه وأطيَافِه.
ففِي ظلِّ هَذِه الأزمة الأخلاقيَّة المتمثلة في غيَاب الوَازع الدِّينـِي والأخـَلاقي، نجدُ أنفسَنـَا في حَاجَةٍ إلى التصَوُّف باعتباره سُلوكـًا يَهدف إلى تخلِيق المُجتمَع من خِلال مَنهج تربَوٍّي رُوحيٍّ فعَّـال، يُـنمِّي الحِسَّ الرُوحي والإنساني والوَّازع الدِّيني و يربط سُلوك الإنسَان بوشيجَة الأخـْلاق الدِّينية ليجعل منه مُواطنـًا صَالحًا، يَعملُ على إصلاح بيئتهِ ومُحِيطهِ الأسَريّ والعَائليّ والاجتمَاعِي، وَيقفُ دائمًا ضدَّ أيِّ شكل من أشكال الفسَاد، وذلك بناءً على مُرَاقبتِه لله تعَالى فِي كلِّ وَقتٍ وحِين، في الظاهِر والبَاطن، في السِّر والعلن..
فالتصَوُّف يَجعَلُ مِن الغـَايَاتٍ أمُورًا لا تتعَارضُ مَع الوَسيلـَة والأخـْلاق، وذلك من خِلال مَفهُومَين أسَاسِييْن يُمَثلان قـَاعِدَة التصَّوف وهما: الطاعة في العبادة وهو الاشتغال بالله، والطاعة في المعاملة وهو التعامل في الله، وهوَ الأمرُ الذِي لم تطِقهُ الفلسَفة الأخلاقية الغربية فقادهَا إلى تجريديَّةٍ عَميَاء، سَلختْ الإنسَان من فطرتِهِ السَّليمة، وشَحنتهُ بأخلاق دَهريَّة مَاديَّــة، لا تعترفُ بالبُعد الرُّوحِي ولا بالبُعْد الدِّيني للأخـْلاق، فصَوَّرَت لهُ الدِّين الذي يَقـُوم في جَوْهَرهِ عَلى الأخْلاق، باعتبَارهِ ضَرْباً مِن الأسَاطِير والخـُرَافات المُخالفـَة للعَقل الذِي لا يُقرُّ إلا بما يَمُتُّ للطبيعَةِ والإنسَان بصِلة، أمَّا غَيرُ ذلك فلا يُأخذ بهِ مَهْمَا كانَ مِثالــيًا و طبَـاويًّا.
ومنه كان الدِّفاعُ عَن الوَطن لا يَقلُّ قيمَة عَن بنـَاءِ الفرْدِ الصَالِح الخَدُوم لوطنِهِ المُدَافع عن قضَايَاه العَادلة في سَبيل وَضع اللبنات الأساسية من أجل بناء مُجتمع مَسؤُول وصَالح وصَادِق، يُسَاهِمُ بشكل فعَّال فِي نشْر قِيم الفَضِيلةِ والأخـْلاق السَّاميَة التي تجْعَلُ مِنَ الله غايَة كلِّ شَيء، بَدَل تقديس الإنسَان وإحْلالِهِ مَكان الله وجَعلِهِ مِحْوَرَ الكون ومَاهِية كل شَيء كمَا نجدُ ذلك في الفلسَفاتِ الوُجُودية التِي بَرزَت إبَّان القرَن السَابع عَشر، وانتقلت إلى المُجتمَعَات الإسلامية خِلال القرْن الثامن والتاسِع عَشر، مِن خلال ترَجَمَة مَجمُوعَة مِن الكـُتب لرُوَّاد الفلسفة الوُجُودية من أمثال : (سُورين كيرْكغـَارْد) صَاحب (رَهْبَة واضْطرَاب) والفيلسُوف (كارْل يَاسْبرز) و(جُون بُول سَارتر) صاحب كتاب (الوُجوديَّة إنسَانية) والفيلسوف (بليز باسكال)..
فالتربية الصُّوفيَّـة نقيضة للوُجُوديَّّة التي تجعلُ مِن الإنسَان مِحْورًا مُقدَّسًا لا تنتهك حُرمَته، وكائنـًا يتعَالى عَلى كلِّ شَيء، ولا يَعترف بأيِّ مُوجِّه مهمَا كانت طـَبيعَتهُ، بينما التصَّوفُ تربيَة على المَحبَّة التي تنطلق من الذاتِ، فتمتدُّ أفقيـًّا لتشْـمَلَ كل الإنسانيَّة، ثمَّ ترتقِي عَمُوديًّا إلى طلبِ رضَاءِ الله سُبحَانـَهُ.
وَفِي ظلِّ الأنانيَّة الفردِيَّة، والانزوَائيَّة عَن الآخر، والتقوقـُع في شَرنقـَة الذات و في ظلِّ انتشار العُنصُريَّة المَقيتـَة، والمَيْز العِرقي، والكراهية.. نحنُ في حَاجة ماسَّةٍ إلى إحيَاء المُمَارسَة الصُّوفيَّة التي لا تخالف الدِّين ونشرهَا في المُجتمع وإذكاءِ القلـُوب بالمَحبَّة الصَّافية التي لا تنظرُ إلى لون الإنسَان ولغتِهِ وهَويَّتِهِ وشكلِهِ ومَنصبهِ، مَحبَّة كونيَّة لا حُدُود لهَا، مَركزها القلبُ وغـَايتهَا الله سُبحَانـَه.
ولذلك وجَبَ عَلى الإنسان البَحث عَن مُربِّي يُعرفه بعُيُوب نفسِه ويُعينه على إصلاحهَا ولا أدلَّ على القيام بذلك من العَارف بالله الذي يُرشدُ النـَّاسَ إلى الله أكثر مِمَّا يَحثهُم على زيَارَتِه، وهَذا هُو الدَّور الرِّئيسِي للمُربِّي وهو تخليــقُ القـُـلـُوب وتزكيَة النفـُوس، وخلق توَازُن لدَى الإنسان بين جَانِبه النـَّفسِي والسُّلوكي، وجَانِبهِ العَقلي والرُّوحِي.
فالله سبحانه وتعَالى كمَا جَعَل فِي كلِّ قريَةٍ أكـَابر مُجْرميهَا ليَمكرُوا فيهَا، سَخـَّرَ فِيهَا صُلحَاءُ وفضَلاء وحُكمَاء، يأخذون بأيدي النـَّاس مِن المَزَالق والمَغـَالق، فهَؤلاء لا حَرج في أن يكونَ المَرءُ مُريدًا لهُم مَا دَام الأمر لا يزيغ بالمُريد عَن صَفـَاءِ الشـَّريعَة ويقذفُ بهِ فِي غَيَاهِب الحَقيقــَة.
Comments (0)