عمار الجنيدي ( الأردن): المنقـــــذون.. دبّ الخلاف بين الذئاب الثلاثة، ونشب بينهم شجار دامٍ؛ كانت فيه أنيابهم القاطعة ومخالبهم الطويلة سلاحهم الحاسم عندما عثروا على قطيع أغنام محبوساً في زريبة صغيرة خلف أحد البيوت القديمة.. سالت الدماء من أنيابهم بعد أن أعملوها في أجساد بعضهم البعض، وكل منهم يحاول الاستئثار بالقطيع.. وفي خطوة مفاجأة اتفقوا على أن يسألوا الأغنام عمّن تختار من بين الذئاب الثلاثة مالكاً للقطيع.. تقدّم تيس كبير، وقال بثقة: – نحن – أيها السادة لا مشكله لدينا. ضعوا حدّاً لخلافكم واحترابكم، ونحن عندها سنقبل ما تتفقون عليه.. لا تعتقدوا أبداً أن لدينا أية مشكله بهذا الخصوص.. أبداً.. أبداً.. نحن – أيها السادة – لا نطيق أن نراكم تتشاجرون بسببنا.. إن قلوبنا الرقيقة لا تقدر على احتمال خلافكم.. أيها السادة: نرجوكم أن لا تختلفوا بسببنا، وإنني أتقدم بالشكر إليكم جميعاً باسم أفراد القطيع، لأنكم حريصون على تخليصنا من ظلم الراعي!.. شجاعة.. استجمع بقايا شجاعته، واثقاً من أنه سيصل حتى لو تأخر قليلا، بخطواته المرتبكة بفعل عكازه الجديد. تقدم نحوها حتى وقف بجانبها قرب البوابة الشمالية لجامعة اليرموك. قبل أن يعتزم على مصارحتها بالأمر؛ حمد الله كثيراً لان قدمه الثانية لم يمسّها العطب اثر انفجار اللغم الرهيب الذي أودى بقدمه اليمنى كاملة قبل ثلاث سنوات.. -»شو مالك بتتطلع فيّ هيك”؟. ارتبك قليلاً ثم اختصر ما في جعبته من كلمات. – تتزوجيني”؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!!!. قهقهت بكبرياء جرح للتو. -»بدّك إياني أصوم أصوم وأفطر على بصله!”. استجمع بقايا شجاعته، حاول أن يبتسم؛ ليشعرها بان كلماتها لم تقتله بعد. لكن محاولته عطبت فيه أشياء كثيرة، لم يشعر يوماً أنها بهذه الأهمية. تنهد بحرقة، وراح يسال الناس عن اقرب مبغى.. يده التي تركها هناك.. خدر لذيذ يتسلّل إلى باطن كفِّه. يحسُّه يتنمّل ببطء محبّب، وهو يتسرّب إلى أصابع كفّه اليمنى.. الفتاة البدينة؛ بقميصها الأخضر المشجّر والفيزون الشفاف، وشعرها المصبوغ بالأصفر؛ حازت على انتباه واهتمام جميع ركّاب الباص، وفي أعينه وحركاتهم اللّاإرادية رغبات جامحة بأن تجلس بجانب أيّ منهم.. لكنها لم تستجب للهفتهم وحركاتهم المهذّبة وجلست بجانبه. لا يدري لماذا تم الأمر بسرعة، وتركته لتساؤلات الجميع وتهكّماتهم: – لماذا أنت؟!!.. الخدر ينتشر ليأخذ مساحة أكبر من الكفّ المسترخية بهدوء وسكينة، وكأن الوضع الذي هو فيه يرتاح له، ويستطيب الاستمتاع به.. الفتاة البدينة، تتحرك في مكانها على المقعد الصغير. وتهتزُّ بلطف ورقّّة، يميناً وشمالاً، إلى الأمام والى الخلف، وكلما لاحظت أن حركاتها تجلب الانتباه، تُخفّف من غلواء نهمها، وتسكن في مكانها.. لم يعد يحسّ بيده بعدما استبدّ بها الخدر، حتى أنه لم يعد يشعر بها تنتمي إلى جسده الضئيل، بينما الفتاة البدينة لا تكفّ عن حركاتها المثيرة لتساؤلات الجميع وانتباههم.. كان يلتمس العذر لنظرات الاستهجان الملمعة في عيونهم، كلما تحرّكت الفتاة البدينة، لأنهم لا يعرفون أن سبب ذلك كلّه، كانت يده اليمنى، التي تركها منذ نصف ساعة تحت الفيزون.. هرولة.. في ركن منزوٍ من القاعة الكبيرة، جلست بهدوء متحفز، جال بصرها في أرجاء القاعة، كأنما لتتأكد أنها الأنثى الوحيدة في هذا المكان. ولما تأكدت، خالجها شعور بالرهبة وتسرّب إليها ضيق مقيت، خاصة وهي ترى الحاضرين ينهبونها بنظراتهم.. – لا تهتمي لأمرهم.. ندت عن أحد الشباب تنهيدة لم يحسن كتمانها، تبعتها على الفور تنهيدات أخرى، سمعتها كلها بنشوة خائفة. ارتابت من نظراتهم التي أكلت كل قطعة في جسدها، حتى خيّل إليها أنهم لا يأبهون لوجود الشاعر المنهمك بإلقاء قصائده.. – الجو خانق هنا، سأخرج لأتنفس هواء نقيّا. حملت كنزتها. لفّتها على يدها اليمنى وشقت طريقها خارجة من القاعة. تأفف شاب يجلس في الصف الأول، متبرماً من طول القصيدة. لمحها وهي تغادر، فحمل حقيبته المحشوة بالأوراق، ولحق بها على الفور. تبعه شابان، كانا يجلسان إلى يساره. حركة غير هادئة سادت القاعة؛ سرعان ما انتقلت عدوى الهرولة إلى الآخرين؛ حتى الرجل الخمسيني، لم يترك الفرصة تفوته، عدّل نظارته. فقد توازنه أكثر من مرة، وهو يحاول الوقوف. ابعد الكرسي من أمامه، وهرول خلف الجميع بحماسة بالغة، حتى لا يفوته المشهد. وقفت بباب القاعة. التفتت نحو الجلبة تنظر بانشداه غريب لما يجري؛ فقد خلت القاعة من الجمهور. وصعقتها المفاجأة المذهلة، وهي ترى الشاعر يلملم أوراقه على عجل، ويهرول خلف الجميع.. عامل المقسم.. عامل المقسم، يدّعي أنه يغتصب عشرات النساء يوميا عبر الهاتف، وأنه يعرف أسراراً وفضائح عن نساء المدينة كلها. استاءت الموظفات كثيرا، وخشين أن تطالهن فضائحه، فقررن معاقبته في محاولة لردعه ووقفه عن التمادي. كانت خطة محكمة، نفذنها بإحكام وأتقنت كل واحدة دورها؛ إذ استدرجنه إلى إحدى الغرف، وهناك ربطنه بالكرسي وأرغمنه على خلع ملابسه تمهيداً لجلده على عورته. ورغم ممانعته واستماتته لعدم خلع ملابسه إلا أن إصرارهن واستخدام العنف معه أحبط محاولاته. صرخ وتوسل بإذلال وانتحب وساومهن على أنه سيتوب وسينسى كل ما يعرفه، وسيفعل أي شيء يطلبنه مقابل أن لا يجبرنه على خلع ملابسه، لكن عويله واستجداءه لم يشفع له إذ عرّينه تماما. خمدت حركته. لم يعد يقاوم. انكمش على عورته.استسلم بإذلالِ مقهور، وراح ينشج وينحب ممتقعاً بالكسوف والتلاشي والضآلة. سقطت أدوات الجلد من أياديهن. أشفقن عليه، وساورهن شعور بالذنب وتفاهة الحياة وغرابتها؛ فقد كان عامل المقسم بلا عورة.. قصيدة أخرى من أجلها.. تنهّد بارتياح بعد أن أنهى كتابة قصيدته. دقّت الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل. لملم أوراقه من جديد وراح يكتب لها قصيدة جديدة. طوال سنوات الجامعة وهو يلاحقها. يكتب لها يومياً، وفي أحايين كثيرة بمعدل قصيدتين أو ثلاثة. احترف الشعر لأجلها فجادت قريحته بآلاف القصائد وهو يتغزل بها ويصف عنادها وقسوة أنوثتها. غيّر تخصصه كي يظل بقربها. لم ينجح في كثير من المواد، فقط لأنها لم تنجح هي فيها، رغم تفوّقه وعزمه على النجاح. لم تمانع يوماً أن تتسلم منه أي قصيدة، لكنها لم تكن تعره اهتمامها. التقاها يوم التخرج. سألها عن رأيها في القصائد فقالت بهدوء حقيقي: – قصائدك موحية وجميلة وتعيش معي لكنني لا أطيقك.. لا أطيقك.. فما العمل؟!!. ابتسم بغباء. وجلس في ظل سور مبنى الفنون، وراح يكتب لها قصيدة جديدة. جشع.. الزوجة المتخمة بالترهل، لم توافق زوجها على ترك منصبه الوثير في المؤسسة. هددته بإصرارها على ترك إلحاح رغباته إذا نفّذ قلقه. خاف أن يبوح لها بأن خسارته بالبورصة كلّفته منصبه وقرضاً من المؤسسة بعشرين ألف دينار. لم يكن يهتم بحجم الخسارة بادئ الأمر، فمصاغ زوجته سيعوض خسارته. استشار أحد أصدقائه في المسالة، فزيّن له الأمر، وشجّعه أن يتخذ قراره المصيري بعيداً عن إصرار الزوجة اللحوحة، وأن يغامر مثل عشرات الألوف من المضاربين والباحثين الأرباح بنسب خيالية. -»حط راسك بين هالروس، وقول ياقطّاع الروس”.. ودّ لو يسألها عن حالها المضطرب منذ أيام، خمّن أنها أعراض ما بعد