من شرفة كي لي طو | عز الدين الماعزي

من شرفة كي لي طو | عز الدين الماعزي

عزالدين الماعزي  (المغرب):   استيقظت وشيء ما يتردد في رأسي. أشك أنه موسيقى أو طنين نحل أو ما شابه ذلك قلت، بقايا جمل شعرية شدت انتباهي. شذرات خاطفة سريعة كطلقات رصاص، ما فائدة تكرار الأيام والتواريخ، لم لا نلغيها مثلا ونحدد تاريخا واحدا وحيدا وبدل الدفاتر نستعمل فقط الألواح، ألم تعلَم الألواح الحجرية الكثير منا..؟ قلت ذلك لنفسي مخاطبا إياها قبل أن أخاطب القراء الأعزاء.. آن الأوان أن أقول الحقيقة وهل أكذب يا صديقي..؟ لكي لا أفقد ما ينقصني مما أفعل مثلا في لحظات النشوة أقرأ ما يشبه الأشعار.. ماذا تبقى للوطن حين تغادره الشموس ويسحب الرجال إلى السجون وتغتال الأحلام، هل سيصبح الجبل صديقا والأكف تغازل الآتي.. وأظل قريبا من القارئ، أظل قريبا من حلمي الذي رأيت أن تشاركوني فيه ولكي لا تتهمونني بأني أورط..كم معي أو تجعل القارئ يجهد في البحث والاستقصاء لكي يصل إلى فكرة لامعة خاطفة، جملة تنعش الجهة اليسرى من القلب. هل أحتاج في تفسير حلمي لكتب ابن سيرين مثلا أم ستتكفل الزوجة بذلك، يحق أن أقول لها هذه المرة أنها أطعمتني كثيرا تلك الليلة وأضحك لأن الفكرة لا تعجبها.. أعرف أن حلمي هو قلقي الذي أحمله جنبي وأستحضر ما مر بي لألحظ التداخل بينهما بلغتين وتتلاشى الحدود ويتسلل انسلال الثعبان. لكي أفسر مثلا ما رأيته من حلم أو ما حضر في الذاكرة من عدوى المتاهة، أحلم أني أتكلم لغة أخرى وبطلاقة، أتباهى أمام زملائي بامتلاكي قاموسا قويا وبرفع صوتي قويا مدافعا عن.. وأنا أستحضر تواجد كراسي وطاولات وشخصيات صغرى وكبرى وخيام وأكل وشرب وأعلام وميكروفونات.. ما يشغلني أني أنبه الآخرين، أحذرهم إلى خطر داهم، يجتاح المكان بقوة الحجة والبراهين التي تتطلب المقام وبلغة لا تحتاج إلى إتقان وتذكير بخصوصيات أعتقد أني أتقنها وأجيد الدفاع، كأني المحامي المتضلع في الأمر هل قلت أني في حلم..؟ كنت فرحا داخلي وأنا أؤدي مهمة صعبة أو كأني أتممها على الوجه الصحيح، إحساس يغمرني ساعتها لا يعرفه إلا القلة، ثقل الملابس وثقل الجسد لا يحتمل كلما اقتربنا ازدادت درجة الحرارة وتعب المفاصل وفيما أنا أفكر فيه.. الكائن والمكنون، الكائن الذي كنته.. أتلعثم بحروف ولسان لا أعرفه وتسكنني لغة ربما هي تكونت من كثرة القراءة في الصباح هكذا قال أستاذي، بي عطش وحرقة وخوف، خوف أن تسقط تلك الثقة وتلك اللغة، أمد يدي.. يدي تمتد، أستقطر ما يوجد خارج يدي.. من ما يشبه الماء وأشكال الحروف.. الفرح مسألة مهمة أما الإحساس بالامتلاء فشيء آخر لا يعرفه إلا المتنكرون هكذا تعرفت على أول جملة قالها شيخي أو هكذا وجدت نفسي أغالبها وأتقمص شيئا آخر.. شاعرا كنت وهل قلت شاعرا..؟ وسوق شي أحد..؟ اترك الشعر للآخرين فالمعادلة لا تقبل ذلك، قالها آخر.. هي تماما تحاول أن.. وأن.. أبحث كالآخرين وبدون مواربة، أحاول الحصول على حلول حقيقية لما ينتابني. لساني ثقل، وأرى كمن تبحث عنه الجرذان والتماسيح، آه، التماسيح بكثرة بالشكل الذي جعلني أسرع في التمتمة وأتذكر أن بي عطش للكلام.. وكأن كلابا مسعورة تتبعني تنبح وتنبح.. ولم أعد أذكر شيئا مذكورا. —— هامش: (كي لي طو) إشارة وتلميح إلى كتابات الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو وإشارة إلى معناها باللغة الفرنسية: Qui lit tot، أي (الذي يقرأ باكرا) الترجمة.

صياح أخير للديك | مصطفى زكي

صياح أخير للديك | مصطفى زكي

مصطفى زكي  ( مصر):   هل يحلم الموتى؟ هل نأتيهم في أحلامهم، فيهبُّون فزعين، ليجدوا أنفسهم لا زالوا في لحدهم المظلم الضيق؟! يتذكرون حياتهم السابقة، ويتذكرون أشياء كانوا قد نسوها. هل يحلمون؟ أموت ثم أعود ثانية؛ لأموت بعدها مرة أخرى.. وفي كل مرة أراهم في الحلم أمامي، أراهم وأسمع صيحات ديك بعيد تدوي فأعرف أنني لم أمت، وأنني مستيقظ أهذي.. تتفكك عظامي ويسقط كتفاي، والألم العاصف ماضٍ في ارتفاعه. الشمس تواصل وخزها لي، والعطش يلتهم عقلي، والنعيق المقترب يحوم حول رأسي. أواصل النحيب والأنين، يتصاعد الألم فأموت، ثم أفيق لأجد نفسي لازلت معلقًا كما كنت. حلمت به مرة أخرى هذه المرة. كان يسير أمامي، وكلما حاولت الاقتراب، ابتعد أكثر دون أن أرى وجهه. نقرة أولى فوق رأسي أعادتني للحياة. النعيق الأسود جاثم فوقي. أهزُّ رأسي فيتشبث بمنقاره الحاد المغروز فيّ، ينهار جسدي لأسفل، يواصل الموت مراوغته وابتعاده. يداي المعلقتان جانبي ترتعشان، والألم يمرُّ فيهما كالنار. أتطلع حولي من أعلى، تواصل الحياة زحفها دون أن تتوقف. ظننت بأن هناك من سيفتقدني ويأتي ليبكي عند قدمي؛ أصوات الباعة والناس من السوق القريب تصل إلي، الهواء البارد يحمل لي كل همساتهم وأصواتهم وأحلامهم التي كنت أحمل مثلها، الهواء يشتدُّ، والناس يواصلون الابتعاد. أخبرني بما سيحدث لي؛ لكني لم أصدقه. أخبرني بأني سأصلب وتأكل الطير من رأسي. هل لو عدت ثانية وأخبرته بما أراه الآن أثناء موتي هل سيفسره؟! هل سيفسر رؤيتي له كثيرًا في أحلامي دون أن أرى وجهه؟! هل سأراه في أحلامي عندما أموت؟! ظننتني منذ قليل قد متُّ؛ لكن صياح الديكة أيقظني. ظلام السماء يبتعد، والشمس تزداد نورًا وتوهجًا. كانت قد أظلمت منذ قليل، وكنت قد متُّ، وانتهى كل شيء. أواصل التطلع لأجد الطيور تقترب من جديد فوقي، وتهبط لتنقر رأسي المتصدع، أنتفض لأفيق وأجد نفسي معلقًا كما كنت. حلمت بما يحدث لي الآن، حلمت – وأنا معلقٌ فوق الصليب – بأنني معلقٌ فوق الصليب. ترى بماذا ستفسر ذلك الحلم لي؟ صياح واحد للديك قبل أن أشي بك. سأفعل انتقامًا منك عما سببته لي. تفسيرك للحلم هو ما صنع بي هذا. كيف عرفت كل هذا؟ كيف استطعت التنبؤ هكذا؟ أنتفض من جديد لأجدهم يشدونني للخارج لأحمل صليبي. نظرت في كفيّ، كانوا بحالتيهما، لم يُثقبا بعد،  يسحبونني خلفهم، أتعثر فأهوى غير فاهم. هل لم أُصلب بعد وكان حلمًا بما سيحدث؟ يطرحونني أرضًا فوق الصليب، ويدقُّون مساميرهم من جديد داخل كفي المفرود، أصرخ وأبكي وأتبول ألمًا قبل أن تؤلمني رأسي فأنتفض لأجد الطيور تتجمع حول رأسي المتدلي أمامي. كنت ميتًا منذ قليل وحلمت بهم يصلبونني مرة أخرى، كنت أنشج وأهذي وأرتعش. هل يحلم الموتى بكل ما مروا به في حياتهم؟ هل تأتيهم كوابيس بما فعلوا وبما قد فُعل بهم؟ هل سيظل حلم الصلب مستمرًا هكذا للأبد؟ أسمع من جديد صيحة خافتة للديك، أتطلع لأجده أمامي فأحاول أن أسير خلفه، يبتعد عنِّي ليذوب بعيدًا، فيأتون من كل صوب ليمسكوني ويقوموا بسحلي خلفهم. أصرخ وأبكي وأتبول وأنا أعلم ما سيحدث مرة أخرى. أحاول المقاومة والهرب؛ ضرباتهم تزداد عنفًا، والصليب يزداد قتامة وتلوثًا بالدماء. يدقُّون مساميرهم فأنتفض، وأتقيأ من فوق صليبي المرتفع. الشمس ترتفع ببطء من خلف التلال البعيدة وهواء الصباح البارد له رائحة نفّاذة. كنت جانبي بالسجن ونحن ننظر من النافذة الضيقة ذات القضبان على الشروق البعيد والصليب المنصوب بأسفل. تخبرني بتفسير ما حكيته لك، تنظر لي من أمام النافذة فيرتطم بعيني نور الشمس ولا أرى وجهك أبدًا؛ فقط أسمع الديك وهو يصيح من الخارج فأعبُّ من الخمر الرديء حتى أنام لأستيقظ واجدًا نفسي معلقًا فوق صليب للمرة الألف في ذلك اليوم،  أغمض عيني متظاهرًا بالموت فأراك تسير أمامي متجهًا نحو ضوء عظيم. لن أسير خلفك تلك المرة. أتوقف مكاني فتستدير لي دون أن أرى وجهك ككل مرة، تشير لي، فينقضُّون عليّ قبل أن أتبعك، ويسحبونني بعيدًا عنك. في الزنزانة الرطبة ألوذ بالصمت، أتكور حول نفسي بعيدًا عنك، مغلقًا كفي جيدًا أمام صدري. الرؤية المضببة المتقطعة تتراقص أمام عيني وآلام الصلب تذيب عقلي. أشعر بالطيور تحلِّق حول رأسي فأهزُّها مبعدًا إياها عنِّي، ما تفسير ذلك؟ هل أحكي لك من جديد؟ أنظر نحوك مرة أخيرة مجبرًا نفسي على ابتلاع رؤيتي، أستدير ببطء مولّيًا إياك ظهري ناظرًا في الحائط الرطب، أسمع من بعيد صياح الديك المتحشرج، تفسر ببطء للآخر حلمه.  أغمض عيني بقوة كي لا أسمع، محاولاً نسيان حلمي ونسيان الكلام، تخبره بما سيكون،  تصمت قبل أن تسير نحوي بهدوء، أسمع خطواتك الخافتة، تضع يدك فوق كتفيَّ وتهزُّني، لا ألتفت، أواصل تظاهري بالموت، أرتعش وأنشج، أتبوّل قبل أن تهمس لي – دون أن أحكي لك شيئًا – بكل ما لم أرد سماعه..

قصص قصيرة جدا | عمار الجنيدي

قصص قصيرة جدا | عمار الجنيدي

عمار الجنيدي  ( الأردن):   المنقـــــذون.. دبّ الخلاف بين الذئاب الثلاثة، ونشب بينهم شجار دامٍ؛ كانت فيه أنيابهم القاطعة ومخالبهم الطويلة سلاحهم الحاسم عندما عثروا على قطيع أغنام محبوساً في زريبة صغيرة خلف أحد البيوت القديمة.. سالت الدماء من أنيابهم بعد أن أعملوها في أجساد بعضهم البعض، وكل منهم يحاول الاستئثار بالقطيع.. وفي خطوة مفاجأة اتفقوا على أن يسألوا الأغنام عمّن تختار من بين الذئاب الثلاثة مالكاً للقطيع.. تقدّم تيس كبير، وقال بثقة: – نحن – أيها السادة لا مشكله لدينا. ضعوا حدّاً لخلافكم واحترابكم، ونحن عندها سنقبل ما تتفقون عليه.. لا تعتقدوا أبداً أن لدينا أية مشكله بهذا الخصوص.. أبداً.. أبداً..  نحن – أيها السادة – لا نطيق أن نراكم تتشاجرون بسببنا.. إن قلوبنا الرقيقة لا تقدر على احتمال خلافكم.. أيها السادة: نرجوكم أن لا تختلفوا بسببنا، وإنني أتقدم بالشكر إليكم جميعاً باسم أفراد القطيع، لأنكم حريصون على تخليصنا من ظلم الراعي!.. شجاعة.. استجمع بقايا شجاعته، واثقاً من أنه سيصل حتى لو تأخر قليلا، بخطواته المرتبكة بفعل عكازه الجديد.  تقدم نحوها حتى وقف بجانبها قرب البوابة الشمالية لجامعة اليرموك. قبل أن يعتزم على مصارحتها بالأمر؛ حمد الله كثيراً لان قدمه الثانية لم يمسّها العطب اثر انفجار اللغم الرهيب الذي أودى بقدمه اليمنى كاملة قبل ثلاث سنوات.. -»شو مالك بتتطلع فيّ هيك”؟. ارتبك قليلاً ثم اختصر ما في جعبته من كلمات. – تتزوجيني”؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!!!. قهقهت بكبرياء جرح للتو. -»بدّك إياني أصوم أصوم وأفطر على بصله!”. استجمع بقايا شجاعته، حاول أن يبتسم؛ ليشعرها بان كلماتها لم تقتله بعد. لكن محاولته عطبت فيه أشياء كثيرة، لم يشعر يوماً أنها بهذه الأهمية. تنهد بحرقة، وراح يسال الناس عن اقرب مبغى..   يده التي تركها هناك.. خدر لذيذ يتسلّل إلى باطن كفِّه. يحسُّه يتنمّل ببطء محبّب، وهو يتسرّب إلى أصابع كفّه اليمنى.. الفتاة البدينة؛ بقميصها الأخضر المشجّر والفيزون الشفاف، وشعرها المصبوغ بالأصفر؛ حازت على انتباه واهتمام جميع ركّاب الباص، وفي أعينه وحركاتهم اللّاإرادية رغبات جامحة بأن تجلس بجانب أيّ منهم.. لكنها لم تستجب للهفتهم وحركاتهم المهذّبة وجلست بجانبه. لا يدري لماذا تم الأمر بسرعة، وتركته لتساؤلات الجميع وتهكّماتهم: – لماذا أنت؟!!.. الخدر ينتشر ليأخذ مساحة أكبر من الكفّ المسترخية بهدوء وسكينة، وكأن الوضع الذي هو فيه يرتاح له، ويستطيب الاستمتاع به.. الفتاة البدينة، تتحرك في مكانها على المقعد الصغير. وتهتزُّ بلطف ورقّّة، يميناً وشمالاً، إلى الأمام والى الخلف، وكلما لاحظت أن حركاتها تجلب الانتباه، تُخفّف من غلواء نهمها، وتسكن في مكانها.. لم يعد يحسّ بيده بعدما استبدّ بها الخدر، حتى أنه لم يعد يشعر بها تنتمي إلى جسده الضئيل، بينما الفتاة البدينة لا تكفّ عن حركاتها المثيرة لتساؤلات الجميع وانتباههم.. كان يلتمس العذر لنظرات الاستهجان الملمعة في عيونهم، كلما تحرّكت الفتاة البدينة، لأنهم لا يعرفون أن سبب ذلك كلّه، كانت يده اليمنى، التي تركها منذ نصف ساعة تحت الفيزون..   هرولة.. في ركن منزوٍ من القاعة الكبيرة، جلست بهدوء متحفز، جال بصرها في أرجاء القاعة، كأنما لتتأكد أنها الأنثى الوحيدة في هذا المكان. ولما تأكدت، خالجها شعور بالرهبة وتسرّب إليها ضيق مقيت، خاصة وهي ترى الحاضرين ينهبونها بنظراتهم.. – لا تهتمي لأمرهم.. ندت عن أحد الشباب تنهيدة لم يحسن كتمانها، تبعتها على الفور تنهيدات أخرى، سمعتها كلها بنشوة خائفة. ارتابت من نظراتهم التي أكلت كل قطعة في جسدها، حتى خيّل إليها أنهم لا يأبهون لوجود الشاعر المنهمك بإلقاء قصائده.. – الجو خانق هنا، سأخرج لأتنفس هواء نقيّا. حملت كنزتها. لفّتها على يدها اليمنى وشقت طريقها خارجة من القاعة. تأفف شاب يجلس في الصف الأول، متبرماً من طول القصيدة. لمحها وهي تغادر، فحمل حقيبته المحشوة بالأوراق، ولحق بها على الفور. تبعه شابان، كانا يجلسان إلى يساره. حركة غير هادئة سادت القاعة؛ سرعان ما انتقلت عدوى الهرولة إلى الآخرين؛ حتى الرجل الخمسيني، لم يترك الفرصة تفوته، عدّل نظارته. فقد توازنه أكثر من مرة، وهو يحاول الوقوف. ابعد الكرسي من أمامه، وهرول خلف الجميع بحماسة بالغة، حتى لا يفوته المشهد. وقفت بباب القاعة. التفتت نحو الجلبة تنظر بانشداه غريب لما يجري؛ فقد خلت القاعة من الجمهور. وصعقتها المفاجأة المذهلة، وهي ترى الشاعر يلملم أوراقه على عجل، ويهرول خلف الجميع..   عامل المقسم.. عامل المقسم، يدّعي أنه يغتصب عشرات النساء يوميا عبر الهاتف، وأنه يعرف أسراراً وفضائح عن نساء المدينة كلها. استاءت الموظفات كثيرا، وخشين أن تطالهن فضائحه، فقررن معاقبته في محاولة لردعه ووقفه عن التمادي. كانت خطة محكمة، نفذنها بإحكام وأتقنت كل واحدة دورها؛ إذ استدرجنه إلى إحدى الغرف، وهناك ربطنه بالكرسي وأرغمنه على خلع ملابسه تمهيداً لجلده على عورته. ورغم ممانعته واستماتته لعدم خلع ملابسه إلا أن إصرارهن واستخدام العنف معه أحبط محاولاته. صرخ وتوسل بإذلال وانتحب وساومهن على أنه سيتوب وسينسى كل ما يعرفه، وسيفعل أي شيء يطلبنه مقابل أن لا يجبرنه على خلع ملابسه، لكن عويله واستجداءه لم يشفع له إذ عرّينه تماما. خمدت حركته. لم يعد يقاوم. انكمش على عورته.استسلم بإذلالِ مقهور، وراح ينشج وينحب ممتقعاً بالكسوف والتلاشي والضآلة. سقطت أدوات الجلد من أياديهن. أشفقن عليه، وساورهن شعور بالذنب وتفاهة الحياة وغرابتها؛ فقد كان عامل المقسم بلا عورة.. قصيدة أخرى من أجلها.. تنهّد بارتياح بعد أن أنهى كتابة قصيدته. دقّت الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل. لملم أوراقه من جديد وراح يكتب لها قصيدة جديدة. طوال سنوات الجامعة وهو يلاحقها. يكتب لها يومياً، وفي أحايين كثيرة بمعدل قصيدتين أو ثلاثة. احترف الشعر لأجلها فجادت قريحته بآلاف القصائد وهو يتغزل بها ويصف عنادها وقسوة أنوثتها. غيّر تخصصه كي يظل بقربها. لم ينجح في كثير من المواد، فقط لأنها لم تنجح هي فيها، رغم تفوّقه وعزمه على النجاح. لم تمانع يوماً أن تتسلم منه أي قصيدة، لكنها لم تكن تعره اهتمامها. التقاها يوم التخرج. سألها عن رأيها في القصائد فقالت بهدوء حقيقي: – قصائدك موحية وجميلة وتعيش معي لكنني لا أطيقك.. لا أطيقك.. فما العمل؟!!. ابتسم بغباء. وجلس في ظل سور مبنى الفنون، وراح يكتب لها قصيدة جديدة. جشع.. الزوجة المتخمة بالترهل، لم توافق زوجها على ترك منصبه الوثير في المؤسسة. هددته بإصرارها على ترك إلحاح رغباته إذا نفّذ قلقه. خاف أن يبوح لها بأن خسارته بالبورصة كلّفته منصبه وقرضاً من المؤسسة بعشرين ألف دينار. لم يكن يهتم بحجم الخسارة بادئ الأمر، فمصاغ زوجته سيعوض خسارته. استشار أحد أصدقائه في المسالة، فزيّن له الأمر، وشجّعه أن يتخذ قراره المصيري بعيداً عن إصرار الزوجة اللحوحة، وأن يغامر مثل عشرات الألوف من المضاربين والباحثين الأرباح بنسب خيالية. -»حط راسك بين هالروس، وقول ياقطّاع الروس”.. ودّ لو يسألها عن حالها المضطرب منذ أيام، خمّن أنها أعراض ما بعد

إهداء خاص| إدريس خالي

إهداء خاص| إدريس خالي

إدريس خالي  ( المغرب):           فيما مضى كان ولد يسرح قطيعا من البقر. حدث هذا في زمن كانت كل مجموعة بشرية تنظم نفسها بنفسها.  وذات ضحى مر رجل بالصدفة بالمرعى الذي كان فيه الولد صحبة قطيعه. كان تاريخ القرية يخلو من حوادث اختطاف أو اعتداء قام بها الكبار في حق الصغار لذلك اطمأن الولد وازداد فضوله لمعرفة ذلك الشيء المكتوب على القطعة المعدنية الصغيرة التي كانت معلقة على الجيب الأيسر لسترة الرجل.         في ذلك الزمن لم تكن هناك  أجهزة اتصال متطورة. وكان ذلك سبا وجيها كي يجلس الولد كل بداية  ليل قرب حجر أمه ويستمع إلى حكاياتها التي لا تنتهي. لم يكن الرجل الغريب شخصية أساسية في حكايات الأم. كان ذلك واضحا؛ فهي لم تجعله مصارعا للغولة غير أن الولد استطاع أن يُدخِل الرجل إلى ذلك العالم بفضل كلام قاله له في ذلك اللقاء العابر: أَحِبَّ الكتاب والحيوانات. سيكون يوما مشهودا أن أقرأ  لك شيئا ما يا ولدي.      وقد كان لهذا الكلام وقع الحكمة في نفسية الولد لذلك اشتد فرحه وزهوه  وهو يستمع إلى الرغبة  التي أبداها الرجل الغريب في حضوره.  مع بداية أكتوبر كان الولد  قد التحق بالمدرسة بعد التحاق العديد من أقرانه.   وعلمه المعلم الأسماء والأفعال فيما تكلفت أمه بالقطيع. ولم ينصرم وقت كثير حتى حفظ الولد سَبِّح وتبارك والفيل في حين استعصت عليه البقرة. وصار يقرأ كل كتاب تصل إليه يداه.  كان يقرأ  أنى ذهب. يقرأ وهو  في السرير، يقرأ وهو في زيارة خالته في المدينة، يقرأ بينما أصدقاؤه يسبحون في النهر. كان يقرأ حتى وبنت عمه النافرة النهدين نائمة بالقرب منه. يقرأ وإخوته المناضلون ينصبون المقالب لبعضهم البعض.  وواصل الولد القراءة إلى أن عثر ذات ظهيرة على كتاب المخلوقات النورانية لبورخيس.  ثم  قرر التوقف قليلا خشية أن يفقد بصره كما فقده هذا العجوز ذي العينان الكبيرتان اللتان تبدوان كما لو أنهما تنظران إلى عمق أعماق كل إنسان.  وفي الليل كان الولد يحلم أحلاما كثيرة. وبعد استيقاظه كان يمر مباشرة إلى دفتر ويكتب كل تفاصيل  أحلامه. بيد أن حلما واحدا كان يدق كل ليلة جدران نومه. كان حلم الولد بسيطا وغريبا في نفس الوقت. في حلمه كان الولد  يرى نفسه وقد أصبح كاتبا. وقد أسعده  في الحلم أن يرى اسمه مقرونا بصفة كاتب. وعزم على أن  يهدي النسخة الأولى من كتابه الذي سيكتبه للشخص الغريب.     طبعا كان ذلك مجرد حلم. وعلى الرغم من ذلك فقد وضع الولد  كل ثقته في حلمه وآمن به ثم صار يعمل بجد كي يتحقق.  ومرت السنوات. مرت كما العربات التي تجرها البغال.  وحين تجمع لديه ما يكفي من نصوص استشار صديقا في جواز طبعها في كتاب. هكذا، ذات يناير، وجد الولد بإرادته نفسَه وقد أصبح كاتبا. وكم كانت فرحته كبيرة و هو يرى اسمه وقد أصبح أخيرا على غلاف كتاب. وبكل الفرح الدفين عزم الكاتب على انتظار الرجل الغريب كي يأتي إلى القرية مع مطلع الربيع ويهديه نسخة من كتابه. وانتظر الكاتبُ الرجلَ الغريب. انتظره طوال سبع ليال وسبعة أيام. ولم يأت الرجل الغريب. ولم ييأس الولد الذي صار كاتبا. وفي اليوم الثامن قرر أن يذهب بنفسه إلى المدينة   كي  يلتقي بالرجل ويهديه  نسخة من كتابه. في المنعطف الثالث عن يسار زقاق بلا اسم كان الرجل الغريب يسكن. وتقدم الكاتب من الباب. تحسس النسخة التي بين يديه. ولسبب خفي خالجه شعور لذيذ وهو يقترب  من المنزل. وحين  رفع كفه ليضغط بسبابته على زر الجرس راودته الجملة التي قالها له ذات زمن بعيد الرجل الغريب. وقبل أن يضغط على الزر أخرج النسخة  من جيب سترته وكتب  بخط جميل على صفحتها الأولى إهداء: السيد عين: أتمنى أن تروقك عوالم هذه النصوص مع موفور المودة والتقدير. ووقع الكاتب النسخة باسمه. ثم صر الباب وانفتح.  هناك، في وسط الباب، كانت تقف سيدة قصيرة. وبعد أن حيا الرجل الكاتب السيدة عبر لها عن رغبته في رؤية صاحب المنزل. كان واضحا أنها قد ألفت زيارة الغرباء. وتلعثمت السيدة قليلا ثم تشجعت  وطلبت منه أن ينتظر قليلا. ثم  سرعان ما عادت تدفع ببطء رجلا فوق كرسي متحرك. كان هو نفس الرجل الغريب وقد تقدمت به عربة الزمن نحو عمق الشيخوخة. غير أنه إذا كانت السنوات قد أقعدت الرجل العجوز فإنها لم تستطع أن تمحو تلك الحكمة المكتوبة بدقة على القطعة المعدنية الصغيرة التي يبدو أنه  حرص على أن تبقى علامة مميزة على صدره. كانت عينا الكاتب  حادتين لذلك استطاع قراءة الشيء المكتوب على القطعة:  ليست الحيوانات مصدر لحم ولبن فقط  بل هي مصدر إلهام أيضا. وخجل الولد الذي صار كاتبا من الموقف الذي حط فيه نفسه. وعند محاولته  جر الرجل المقعد ذي العينين المطفأتين للحديث كانت نظرات السيدة  تلمح له أن لا يتعب نفسه. وحاول.   حاول مرة ثانية وثالثة غير أن الرجل كان يبدو وكأنه قد غار في بئر بلا قرار. … هامش: فيما مضى كان الولد يرتاح في رفقة القطيع. قبل أيام فقط صار الولد، هكذا يعتقد، كاتبا. ولم يفزعه، بينما مجموعة من الطيور تعبر الفضاء الممتد للقرية، أن يخرج طائر من المجموعة ويطير منفردا. في الآتي من الأيام سيجلس الكاتب وحيدا على كرسي هزاز  أمام باب بيته، من الواضح أنه سيكون في حل من مشاغل تلهيه عن النظر إلى الطيور وهي تحط مجتمعة فوق شجرة،  سلك كهربائي، أو تطير بحثا عم يبقيها عاشقة للأشجار والريح و الثرثرة. أمام الباب قد  يغفو الرجل الكاتب ويحلم بالولد الذي كانه.

شوف يا (باولو) يا بن عمي… | وسام جنيدي

شوف يا (باولو) يا بن عمي… | وسام جنيدي

وسام جنيدي  (مصر):   بعد الظهيرة هو الميعاد المحبب لتدخين العديد من السجائر بتلك الناصية في مدينتي الأوروبية، هي العادة الأسبوعية لهذا الأسبوع، لربما تلك العادة سوف تستمر لثلاثة أيام، أتناول غذائي، ثم اتبعه بثلاث كرات من الأيس كريم يثلجوا أمعائي والقصبة الهوائية، وأقف لأدخن واستمتع بالدخان الذي يدغدغ أعصاب لساني المثلجة. أراه دائماً وأري جهازه الذي يعبث به بالعديد من المفاتيح ذات الصواميل الدائرية، أسمع زملاؤه ينادونه (باولو) فيعبث بمفتاح ما ثم يقوم بالصفير إليهم ويكمل العبث بالجهاز،فضول ينتابني تجاه الجهاز ويمنعني خجلي من سؤاله لإنهامكه  فى عمله، أتشجع فى اليوم الثالث لابتسامه لي واقترب منه وانا أمد إليه صندوق سجائري الفرنسية المحببة إلي فى ذلك الوقت من الأسبوع، فينظر الي ثم يمد يده ليلتقط سيجارة: – يداك تدل أنك عامل بناء . – ماذا !؟ فيشير إلى قبضة يدي وأصابعي الطويلة نسبيا،فَانظُر إليها مبتسما: – ربما باءت كل محاولات شرح الجهاز لي بالفشل، فنظرت إليه مشيحاً بيدي كأنما أنفض الموضوع برمته عن رأسي: – عربي ؟ فعاجلته بإسم مدينتي: – بلد جميل، الرب متواجد بكثرة عندكم منذ زمن بعيد! نتيجة لعرجي اللغوي أستفهم منه ثانية فيقوم بالشرح بيده ليأكد لي أن ما سمعته صحيحاً: – ولكننا فقراء ! – بالطبع، الرب يسكن فى المدن الفقيرة، أتحب التدخين ؟ – بالطبع. – الشراب الجيد؟ فأقوم بهز رأسي،مبتسما: –  أنا أيضاً، ولكني لاأستطيع الآن التدخين والشرب  سوى أيام الآحاد والعطلات،ألديك   أبناء ؟ فأشير برأسي نافياً: – لهذا تستطيع التدخين كل يوم، أنا أراك تتسكع كل يوم هاهنا. أصفق بيدي في مرح، وأصر على إعطائه سيجارة أخري على الرغم من خجله قبل رحيلي. داومت على التسكع يوميا هناك فى الظهيرة لمدة أسبوعين خارقاً ميثاق العادات الأسبوعية  المتجددة  فقط لأري (باولو) وأعطيه سيجارته اليومية، مع تغير أنواع سجائري المتعددة من فرنسية الى إنجليزية إلى حتى لفافات التبغ الروسية، (باولو) سعيد، (باولو) مستمتع،(باولو) مبتسم دائماً ويعبث فى الجهاز ويتبادل الصفير مع زملائه. أغيب لأسبوع كامل وأعود لمدينتي، ولناصيتي المحببة متأخراًقليلا حاملاً لعلبة سجائري، ما أن يراني (باولو) حتى يتهلل وجهه ويخلع قفازه الأصفر الذي يرتديه دائماً اثناء عمله ليصافحني فى قوة: – عدت لبلادك ؟ – لا، ميلانو  فيهز رأسه: – مدينة فقيرة. – ألا  ترى أن الرب يسكن فى بلادكم أيضاً. فينظر إلي فى بلاهة ثم يضحك حتى يسعل، فأبادله الضحكات وأعطيه علبة السجائر فيلتقط واحدة، وهو لايزال يضحك: – أتعلم، لقد أنهيت عملي، لنذهب الآن، سوف أدعوك على زجاجة بيرة، بل على مشروب أقوى على أن تتكفل أنت بالسجائر. – ولكن اليوم ليس إجازة وغدًا ليس الأحد. فينظر إلى ضاحكًا  نافثاً  دخان سيجارته: – لنجعله كذلك،ابتهاجاً  بوجود الرب.

ثلاث قصص | حسين عبد الرحيم

ثلاث قصص | حسين عبد الرحيم

حسين عبد الرحيم  ( مصر):   شخص ثالث   منذ عشر سنوات وأنا أرى الحلم نفسه. أبي يقود» لنشاً» سريعاً، يخترق صفحة ماء هادر. أدقق في ملامحه، أدنو منه وأنا في منطقة بين الوعي بلملمة أطراف الحلم، وبين اليقظة. أتشمّم عرقه، أرقب وشماً علي رقبته. أأبي هو، أم جدي ؟ كلما دنوت ُ منه لأ تشمّمه، تنفلت مني حسيّتي المفرطة. أبي في الحقيقة كان مقاتلاً علي الأرض التي جرى تهجير أهلها. كان من المستبقين، ولم يكن بحاراً ؛ ليقود لنشاً يمرق كل أسبوع أمامي وأنا بين النوم واليقظة الخاضعة سلفاً لتدريب شاق. جدي كان قائد لنش في بورسعيد في عشرينيات القرن الفائت ؟ أبي وأمي أكدا لي هذه المعلومة. ومنذ عشر سنوات، عندما سألت أمي، في وجود أبي، اشتبكا. وقتها صرخت أمي في وجه أبي:» مش معقولة يا حسن. إنت نسيت التاريخ وسيرة أبيك ؟”. قالت لي أمي: جدك عبد الرحيم الكبير هو الذي كان يعمل سائق لنش» الرياح». كان هذا اسمه، كما أكدت والدتي. ما يهمني في الأمر، هو تأثير هذا الحلم في وعيي وذاكرتي. عدتُ لأنام متعمداً، لعل اشتباك وعيي المتضخم بما يحدث، ينير لي دروب رحلة عائلة الأب وعلاقتها بالبحر. حتى جاءت ليلة الأمس. وقفتُ على شاطئ متوسطي أعرفه ولمحت اللنش يقترب من ميناء أقف في مقدمته مطلاً علي فنار قديم رأيته من قبل. وكالعادة زعق اللنش وبدأ حجمه يتضخم، ولاحت في خلفية رفاسه سفينةٌ، وبان قبطان يلوح لي بإصبعيه، الوسطي والسبابة. ظل يشير إلي هدف محدد. وعندما حاذت السفينةُ لنش أبي، بان ضئيلاً، وهو يحاول التقدم صوب بوغاز ما بات علي مشارف الرائي. ربان السفينة كان يبتسم وهو يشير إلي قائد اللنش الذي ثبّت وجهته بنصف صدغه الأيمن ناحيتي، وأطلَّ في صمت محير من دون أن يرمش له جفن، رغم تلك الشارة التي تعمدت رفعها صوب وجهه وقت فراره نحو الغاطس. تاه اللنش في الغاطس، وظهرت مؤخرة السفينة، وقت أن طاف الفنار متنقلاً ببقع ضوء عديدة تخرج في نثار وتنزاح لتضوي علي واجهات مبانٍ وسفنٍ معطلة علي الجانب الآخر من المجري الملاحي الذي أعرفه، بل سبق أن أبحرتُ فيه بمركب مازالت صورته بطرازه الماهوجني محفورةً في ذاكرتي. أستعيد الحلم كثيراً. أجتر تفاصيله، لتتأكد لي، من خلال تتابع الصور، حقيقة الاشتباك معهما. هناك شخص ثالث بالفعل. نعم، أبي وجدي كانا في الحلم، ولكنه ليس جد والدي المدعو عبد الرحيم الكبير. بل المفاجأة أن أمي الصديقة قالت لي يوماً ما إن عبد الرحيم الكبير شارك في حفر القناة عشرة أعوام، ثم فرَّ من السخرة وركب باخرة إيطالية مكثت في البحر شهوراً عدة حتى رست في ميناء صغير يسمي (صقلية)، وبات يتنقل من مركب إلي آخر حتى عُثر عليه مقتولاً، وعند تفتيش كوخه كانت هناك صورة فوتوغرافية لشخص يشبهني، وقد دوّن عليها تاريخ مولدي باليوم والشهر من دون تحديد سنة ما.   الليل الطويل   كان قد ترك مسكنه في الكوربة وحيداً كعادته إلا أنه هذه المرة قصد سوق الأسماك بضاحية صلاح الدين. على آثار ضوء خافت كان يمشي ببطء. يتذكر آخر رحلاتهما سوياً. وكان الوقت ليلاً أيضاً. وجيه يس؟! لن ينساه. ولا تلك الجلسات الحميمية في كافيه»بالميرا». والتنزه في»الميريلاند» وتلك الحدائق المورقة المخيفة والتي كلما سارا سوياً فيها انقبض قلبه من دون سبب معلوم. يخشى هفهفات الجذوع الخفيفة التي تترنح بين أشجار السرو العالية والتي تتمايل مع الريح في العتمة، فيدق قلبه رغم بعده عن موقع تلك الأشجار. وكأن قتيلاً مجهولاً سيهوي فوق رأسه، وهذا القتيل قريب منه. يعرفه في شكل حميمي كأنه شقيقه الأكبر الذي بات يشفق عليه كثيراً في الأيام الأخيرة خصوصاً أن»بُرهان» أجريت له العملية الثانية في عينه اليسرى منذ يومين. يتذكر موت شقيقه التوأم، ظله في التل الكبير وقت قضاء خدمته العسكرية في فرقة الاستطلاع. أسفل أشجار السرو أيضاً وقت أن كان يحرس ليلاً قرب مخزن الذخيرة خلف أكوام الرمال الكثيفة والتي تركض فوقها الأرانب الجبلية البيضاء السمينة هاوية في الظلمة كالضليلة التي تساق إلى طريق تعلمه ولكنها لا تراه. تفر بخفة عكس الريح في لمح البصر. صارت عقدته تتعاظم كلما رأى تلك الأشجار. حتى وهو مع حبيبته ذات الأصول الإيطالية التي تقطن مصر الجديدة والتي هاتفته منذ ساعة ونصف على غير العادة وقالت له في عجالة:» نفسي نتمشى سوا في الليل. لوحدنا وفي شارع طويل مالوش نهاية يودينا لآخر الدنيا. بعيد عن هنا”. نمر من أمام كنيسة الكاثوليك في الكوربة ونواصل الحكاية وتلك الحلقات الفرنسية التي تعرضها قناة»آر تي» والتي تفسر نظريات القرين وتناسخ الأرواح وأن كلاً منا يحتفظ بأكثر من آخر بداخله يشبهه في أشياء ويختلف معه في أشياء أخرى. بل إن هناك داخلنا من لا يعجبه سلوكنا في بعض المواقف تجاه شخص أو حدث ما. وهناك العشرات من حالات وحوادث القتل الغامضة واللامبررة من قبل بعض السويسريين وكثرة من الفرنسيين أيضاً تأتي في شكل غير متوقع من قبل الجاني، وبمجرد القبض على القاتل، فإنه يردد مذعوراً»لم أقتل أحداً. ليس أنا». شربنا الإكسبريسو في مقهى»خارينوس» على مصابيح خافتة تشبه تلك التي تنير شوارع أثينا. وقالت ماريا وأنا أرنو لضحكتها الطفولية:»  أنت عايز تشوفني في البانيو. بعينك”. واصل المشي ببطء على غير العادة وصار يفكر في أشياء كثيرة مبهمة. بعد خمسة أيام سيتم عامه الخمسين. المرآة التي نظر فيها قبل خروجه من منزله في العباسية، أوحت له بعكس ذلك. ومع تحديقه في الهالات السوداء أسفل عينيه جن جنونه. رأى شخصاً آخر لا يعرفه. غريب عنه. لم يولد في هذه البلاد، ولم يستسغ حتى طعم الماء في بحرها. كان يطل في صفحة المرآة المصقولة وكأنه ابن الأمس البعيد، ابن البحر الكاره للنيل والمذعور من موجاته العميقة، وتحديداً في تلك المرة الوحيدة التي رأى فيها الشاب الثلاثيني ينزلق من المركب الصغير قريباً من نافورة الجيزة.  الجانب الآخر ناداني من خلف ساتر ضخم، يفصلني عن ميناء عتيق توقفتُ عنده كثيراً، على صوت بحر حسبته في بلادي. تأملتُ ملامحه المألوفة؛ وجهه الأبيض الذائب في حمرة وعينيه الزرقاوين وخصلات شعره التي غطَّاها المشيب. تلك الملامح التي كنت قد تركته عليها منذ آخر لقاء جمعني به في الزمالك. كان الغمام قد حطَّ على أرضية الميناء. وخُيل لي أننا في منتهى الخريف، أو على عتبات شتاء قارس البرودة. ثمة سفينة ضخمة تسير قريباً من وقفتي على رصيف ما؛ خُصص للترانزيت على ما أذكر. تأملتُ الأجواء من حولي. لم يكن هناك أحد غيري. كان يقترب من وقفتي وأنا أحاول استبيان صدى الصوت ووقعه، وتحديداً عندما ازداد اقترابه، وأنا أحدق وسط الغيوم. قلتُ: من يناديني؟ فقال: أنا وجيه يسى. احتكت السفينة بالرصيف قرب موضع قدمي. كانت عيناي تجوسان في الغمام، فرأيت

قصة قصيرة ليلة وأسرار | محمد بلعربي

قصة قصيرة ليلة وأسرار | محمد بلعربي

محمد بلعربي (المغرب):    في مساء الجمعة وقبل بداية السهرة، ضبطت الساعة كالمعتاد عند السابعة صباحا كي لا أفوت العمل في الثامنة من صباح اليوم التالي. استيقظت قبل أن يرن المنبه بدقيقتين، غالبا ما يقع معي هذا الأمر خصوصا عندما أكون متبوعا بموعد ما. حاولت مغادرة الفراش لكن دوخة غير متوقعة أعادتني إلى مكاني خائرا، أحسست وكأن رأسي تزن طنا. تمددت في انتظار الرنة، غير أني غفوت قليلا، فنمت من جديد. حين نهضت أدركت من خلال أشعة الشمس أنه منتصف النهار، كما تنبهت إلى أمرين محيرين ومزعجي: أولا هاتفي مهشم، ثم سروالي وقد تبلل نصفه العلوي، لا أعرف في الحقيقة كيف ومتى حصل كل هذا، كما أنني لست من النوع الذي يتبول في الفراش. على المكتب الذي وضعت في الصالون مجموعة قصصية كنت قد شرعت في قراءة أولى صفحاتها، وإلى جانبها قنينة ويسكي من نوع لابيل فارغة تقريبا، مما يعني أنني كنت أقرأ وأسكر في الوقت نفسه. ها قد بدأت ألملم خيوط الكارثة بالتدريج، إذ لا يمكن أن نسكر وننسى ببساطة أننا سكرنا خصوصا طقوس بداية الجلسة وما يرافقها من حماسة واندفاع. أتذكر الآن كل شيء تقريبا، الطاجين الذي التهمت سريعا وعيوني تحدق في القنينة الفاتنة، ثم القصص الأولى التي عكرت مزاجي وجعلتني أشرب من فم الزجاجة مباشرة، كنت أرغب في هزة ترفعني إلى مستوى أتناغم فيه مع وجبات هذا الكاتب المعتوه الذي ظهر أنه نجح في إغضابي بشكل جيد. نصوص فقيرة بدون حبكة،جمل متراصة ومنمقة، لكن خالية من أي توتر، بدت كأجسام جوفاء وباردة صُنِعت لمعاقبة القارئ واحتقاره بفظاظة. تارة أقرأ في صمت، وعندما أشعر بعسر الهضم، أردد الجمل بصوت مسموع علني أظفر بشيء، لكن وجدت نفسي في النهاية أقرأ فقط كغبي وأستهلك في ضجر نصوصه المملة وكأنها عقوبة لا مفر منها.. عادة ما أتخلص من المقروء إن لم يكن مثيرا، هذه المرة قررت متابعة شطحات صاحبنا لأتصرف بطريقتي التي أرغب فيها مند مدة طويلة.هل جربتم فك سلسلة السروال والتبول على بعض المنشورات،تلك كانت أمنيتي الدفينة،لكنني كنت في أمس الحاجة إلى»الأوفر ضوز” في السكر والغضب معا.. قمت أتمشى في فناء المنزل وأنا أعب جرعات كبيرة، وحين أتذكر القصص أعود إليها متمايلا شاتما صاحبها وناشرها و حتى الجريدة التي وضعت الإعلان الذي أغراني كي أقتنيها، أقرأ وأقلب غلاف المجموعة حيث صورة الكاتب بوجهه المكتنز وخديه الحمراوين، ثم نظراته المتطلعة إلى الأفق واضعا قبضته أسفل ذقنه بشكل يبرز خاتما فضيا سميكا. كنت مستعدا لتنفيذ الجريمة والنيل منه أخيرا دون خسائر لولا الكاو اللعين الذي خذلني في النهاية.. الآن أجلس فوق المنضدة أدخن عاريا في صمت وأنا أحدق في السروال المبلل وأفكر في ليلة البارحة محاولا فك هذا اللغز المحير، بعد قليل سأخرج لأشم هواء منعشا، لكن قبل ذلك سأعود إلى الأهم. الكتاب لا يزال نظيفا ومثانتي امتلأت من جديد.. أنا سعيد يا رفاق.

أصوات القصة العربية الجديدة: الأرخبيل المتشظي (الجزء السابع)

أصوات القصة العربية الجديدة: الأرخبيل المتشظي (الجزء السابع)

الموجة:   يقول بورخيس في أحد نصوصه حول مفهوم القصة: «من يقرأ قصة يعلم أنه يقرأ أو يطمح إلى أن يقرأ شيئا سيسليه، ويدخله إلى عالم، لن أقول عجائبيا الكلمة طموحة جدا- بل عالم مختلف قليلا عن عالم التجارب المشتركة».   المشاركون في الجزء السابع نصوص قصصية : ليلى البلوشي (عمان) هشام ناجح ( المغرب) أحمد عبد اللطيف ( مصر) حنان درقاوي (المغرب) محمد الغربي عمران (اليمن) عائد خصباك (العراق) شكيب عبد الحميد (المغرب) منتصر القفاش ( مصر) عبد القادر حميدة (الجزائر) مصطفى لغتيري (المغرب) فائقة قنفالي ( تونس) عبدالله الساورة (المغرب)محسن يونس ( مصر)

الكتابة القصصية العربية: بعيدا عن الحكي «العمومي» | عبد الدائم السلامي

الكتابة القصصية العربية: بعيدا عن الحكي «العمومي» | عبد الدائم السلامي

عبد الدائم السلامي  ( ناقد أدبي من تونس ):   “كلما كُتِبتْ قصّةٌ، سقط عرشٌ في الأرض، وتكشّفَ زيفُ قداسةٍ في الخيال، وعاد المعنى إلى ناسِه صافيا” **** إنّ ما يبدو من سطوةِ الرواية على المشهد الإبداعي العربي وضخامةِ جوائزها واحتفاءِ المنابر الثقافية بها وبأصحابها أمورٌ لم تقدر على إخفاء توهُّج الكتابة القصصية العربية لدى الجيل الراهن من القصّاصين الذين راحوا يكتبونها بتنويعات فنية ومضمونية هي من شروط الأدبية جوهرُها. وإنّ قراءة مدوّنة قصص هؤلاء تُوقِفنا على حقيقة أنّ كتابة القصة لديهم لا تحفل بتوصيف النصف السفليّ للعالَم وإثارة شهواته كما تفعل جلّ رواياتنا وإنما هي كتابة إبداعيّة واعية بأدوار الكاتب في دعم جهود مجموعته البشرية للتخفيف من ثِقَلِ ما ينصبُّ على كواهل أفرادها من إكراهات اجتماعية وثقافية وسياسية. فإذا القصّة لدى هؤلاء لا تزيد عن كونها طعنةً فكريّةً خاطفةً يُوجِّهونها إلى الواقع، فلا يملك معها من حولٍ أو قوّةٍ سوى الترنّحِ بمألوفِ يقينياته.  وهم إذْ يكتبونها -على اختلاف أساليبهم- يكتبونها وكلّهم حرصٌ على أن تكون جريئةً ومباغتةً، وأن تَمقُتَ مناورةَ موضوعها والدورانَ حوله، لكأنها لا ترغب في تبذير ما عندها من وقتٍ – وهو قصير- في استلطاف الأشياء والأحياء والخوض في الحَكْيِ العموميِّ، وإنما هي تحشد كلّ قوّتها الفنية والتخييلية ليكون فعلُها فعلاً انقضاضيًّا ماكرًا و«غيرَ مُؤدَّب». إنها كتابةٌ ضدّ وقتِها، بل ضدّ الساذَجِ من أدبِ وقتها، ما يُبيح لنا القول إنه كلما كُتِبتْ قصّةٌ، سقط عرشٌ في الأرض، وتكشّفَ زيفُ قداسةٍ في الخيال، وعاد المعنى إلى ناسِه صافيا. في لغة قصّاصينا تتوتّر القصةُ، بل قُلْ: في قصصهم تتوتّر اللغةُ؛ حيث يظلّ الكاتب منهم يَعْرُك صَوّانَ فكرته حتى إذا نشأ قادحُها، توهّجت لغتُه وانطلقت مثل رصاصة ملساء مشحونة بطاقة انتهاكية تخترق كلّ أجساد الواقع وظلامياته. وهو أمر ينبئ بتنبّه هؤلاء القصّاصين إلى حقيقة أنّ أيَّ قصّةٍ لا تتسلّح بلغة لطيفةِ الحَشَا وخفيفةِ الإيقاع لا يُعوَّلُ على بلوغها ذروةَ فاعليتها الدَّلالية، فترهُّلُ الجملة وثخانتُها وهَذَرُها أمورٌ تجعل القصةَ عيِيّةً الحركةِ تتمايل من شدّةِ المَغْصِ، والمغصُ غيرُ الرَّقْصِ، لأنّ القصةَ في جوهرها رقصٌ باللغة واحتفاءٌ بخَفَرِها وصِباها. ومن ثمة لا تتغيّا قصصنا الراهنة قولَ الأشياء وإنما هي تَحْفِزُ قارئها لأنْ يقول أشياءَه وإنْ في صمتٍ. ولا تُخفي قصّتنا الراهنة نزوعَها إلى التخلّي عن نُبْلِ أصل بطلها (الإمبراطوريّ أو الدّينيّ أو البورجوازيّ) وسعيها إلى جعله مواطنا «عموميا» من جمهور الناس ومن نَبْتهم الاجتماعي، بل إن أغلب القصص لا تحفل كثيرا بصناعة أبطالها، لأنّ البطولةَ فيها عائدةٌ إليها: إنها بطلةُ نفسِها، وذلك من جهة كون كتابتِها ليست إلاّ مواجهةً يتقابل فيها البالي من القيم وظَلاَمِيُّها مع المُتَوهِّجِ منها بكَوْنيته وتسامُحِه واعتدالِه. ولعلّ في «قِيَميّةِ» القصّة العربية الراهنة ما يجد له جذورًا في أحوال القصة القديمة التي ارتقت في نصوص الديانات الكبرى إلى مرقى القداسة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصَصِ)، حتى لكأنه لا يكتب القصةَ إلا خارقٌ أو وليٌّ صالحٌ من بني الإنسان. ونزعم، ومن الزّعم ما يصدق، أنّ القصة ستكون منتَهى السرد وغايةَ أجناسه في زمننا القريب، فما تشهده رواياتنا من فوضى في حكاياتها، ومن حشو في مكتوبها، ومن كثرة في صفحاتها، إضافة إلى ضمور وقت القارئ الممتلئ بمراغب يومه، كلّها أسباب أجبرت بعض الكتّاب، وستجبر بقيّتهم، على توسُّلِ شروط الاختصار في الجملة والتقدير في السرد وتكثيفه طريقًا سالكةً إلى شدِّ قُرّائهم بما يكتبون، ولا نخال القصّة إلاّ الجنسَ السرديَّ الذي يستجيب لهذه الشروط وينهض بنيانهُ على دعامتها.

حساب دنيوى (شطحة تهكمية) | محسن يونس

حساب دنيوى (شطحة تهكمية) | محسن يونس

 محسن يونس (مصر ):   فى حياته الفانية استهلك عوضين الجراس امرأتين، والثالثة شاهيناز الخلاصة التي أمسكت به إمساك العلة المزمنة، وقد أفلتها، ومضى إلى طريق لا رجعة فيه، كان قد وصل وزنه لحما وشحما وعظما مائة كيلو جراما وخمسة، وأكل في حياته الماضية تلك نحو سبع بقرات سمان – لا تفسيرا، ولا محاكاة  لرؤيا مقدسة، ولكنها جاءت معه هكذا –  وعشر من الجاموس البتلو، وتمتع بكباب أربعين خروفا ذكرا، منهم حسب طلبه حوالي الثلاثين خروفا مخصيا ربيت من أجله، وخمسا من الغزلان، جاءت إليه مهربة من إحدى البلاد الأفريقية، وجملا واحدا، للتجريب فإنه لم يستصغه مذكرا سامعيه أن له مع الجمل حكاية، وهو صغير عضه جمل، وحمله إلى أعلى بفكيه مطوحا له في الهواء حتى كاد لحم كتفه أن ينتزع، وما بعض الآلام التي تهاجمه كل فترة إلا بسبب هذا الجمل، كانت تلك اللحوم بكافة أنواعها مقسمة بالطبع إلى قطع مشوية أو مسلوقة أو محمرة في زيت، أو مفرومة ومدهوكة في بيض، أو محشوة داخل البطاطس، أو مدسوسة في خضار، ولم يقرب لحم الأحصنة أو لحم الخنزير، إلا مرة واحدة أو مرتين، ومن الأرز عشرة أطنان، ومن المكرونة طنا واحدا، فهي كما وصفها بنفسه تلبك المعدة، وعشق من الفاكهة ثمرة المانجو فلحس ومص واستحلب مع غمغمة توجز ما يشعر به من لذة، وهو ينهش في لحم الثمرة بأسنانه، ما يزيد على ألفين من أقفاص المانجو، زنة كل قفص حوالي العشرين كيلو جراما، كانت تأتيه من الإسماعيلية مباشرة، يشارك ثمار المانجو، ثمار الفراولة، لذا يمكن القول أن عوضين الجراس جمع في حبه ثمار الشجرة وثمار الشجيرة، ومع التحول للزراعة المغطاة والتي استوردت طريقتها مع دخول خبراء يعملون كل أيام الأسبوع ما عدا يوم السبت، واكب هذا التحول الانتباه إلى تلك الأراضي الصحراوية المحررة بعد حرب أعقبها معاهدات، أصبحت هذه الأراضي تنبت الفراولة مع أنها ظلت قرونا لا تنبت إلا الرمال، وهكذا مكنت هذه السياسة الجديدة عوضين من إحضار نصف طن أو ثلاثة أرباع الطن أكلها إما ثمارا يزدردها، أو عصيرا يضاف إليه بعضا من الصودا أو السكر، لذا تجرع مسحوق ما يزيد على خمسمائة كيس فوار تضاف للماء، لإذابة الأملاح من كليتيه، وبمناسبة الخضار كان يحب السبانخ والقرع العسلي والكوسة، فأكل من الأول ما يوازى إنتاج خمسة حقول، أي ما يزيد على ثلاثة أطنان لو حاول أحد أن يقرب إلى ذهنه ما تنتجه هذه الحقول الثلاثة، أما القرع العسلي فمع اللبن وعسل النحل ربما مائة ثمرة وزن الواحدة يتراوح بين الثلاثة كيلو جراما والأربعة أو الخمسة أو الستة كيلو جراما، أما الكوسة، ولأنها خفيفة على المعدة فطبخ له في مطابخه أكثر من الطن منها، ومن البطارخ التي تؤخذ من أنثى أسماك البوري، وتأتيه إما من دمياط أو الإسكندرية، أو السويس، مملحة ومجففة، أكل منها ما بين الخمسة والعشرين كيلو جراما، والثلاثين كيلو جراما، والشيء بالشيء يذكر فقد جاءت إليه علب كعك القوة، وهو الكافيار الذي ينتج من أسماك الحفش في كل من دول روسيا وإيران ورومانيا، لم يستطع استيراده من إيران، فبقيت الدولتان الآخرتان، يقدمه لنفسه أو لأي ضيف هام يستضيفه في قصره، أو في المناسبات الرومانسية المثيرة، ولكنه يقدمه أثناء ذلك بالطريقة التقليدية، وهي أن يؤكل مع مواد ذات طعم محايد- أي بدون ملح – كأن يؤكل مع خبز أبيض أو محمص أو مع بيض مسلوق جداً أو مع كعك البطاطا أو مع الأرز، وينبه على طباخيه بتقديم أطعمة خاصة مع الكافيار وهى أيضا يجب ألا تؤثر على مذاقه الفريد مثل الأفوكادو والكريمة الحامضة والزبدة غير المملحة، يمكن تقريب وزن علب الكافيار التي تناولها بحوالي سبعين رطلا لا غير، ومن البيرة التي بها نسبة من الكحول ما يملأ بسائلها حجم حمام سباحة في أحد الأندية المشهورة، حتى يمكن اعتباره لا يشرب الماء القراح إلا نادرا، أما الخمر من الفودكا، ومن الجن، والنبيذ والشمبانيا فكثير من الزجاجات امتلأت بها أرض خراب جنوب قصره تقدر مساحتها بألف متر مربع كأنها زرعت بها، وكان الخدم يسطون عليها ويغسلونها جيدا من نجاستها لتملأ بعد هذا بالماء، وتوضع فى ثلاجة تستعمل عند الظمأ، وقد أحب قبل السنة التي سبقت موته بثلاث سنوات نبيذ شاتو موزار اللبناني، وفضله على الأنبذة الأخرى عددا من الزجاجات يمكن أن تحمل صناديقها سيارة نقل ذات صندوق طويل، الطعام والشراب كثير، فلا تثريب عليه إن أكل أو شرب، أما عن اللحم الحي، فعدد خياناته لزوجاته الثلاث مع نساء أخريات ستا وثلاثون مرة، منها سبع علاقات دائمة، ثلاث مع نساء متزوجات، والأربع مع نساء إما مطلقات أو أرامل، منهن واحدة أحرقت نفسها بعد أزمة معه، والأخرى ألقت بنفسها في نهر النيل بعد أزمة ثانية معه، والتسع والعشرين الباقية علاقات مع نساء عابرات، امتلأ قلبه بألف حقد استطاع أن يحصد جوائز ألف هزيمة، وظل حقده على المهزومين باقيا، وخمسمائة ألف من الأحقاد التي عالجتها ظروف ارتبطت بالمناخ السياسي، وصعود طبقات وانهيار طبقات، أما ذهابه إلى النيابة خمس مرات فبقدرة المحامين خرج من ثلاث كالشعرة من العجين، والاثنتان الباقيتان واحدة حكم عليه بستة أشهر سجنا، وبقدرة المحامين أيضا استأنف الحكم ليحصل على دفع غرامة مالية دون السجن، أما المرة التي دخل فيها السجن فقد كان يجب أن يدخل السجن دفعا لمصيبة أكبر، وقضى به سبعة أشهر، وخرج قبل قضاء العام لحسن السير والسلوك، في هذه السبعة أشهر تعرف في السجن على الكيف، ودخنه باستمتاع، وطلبه باستمرار، وأعطته سحب الدخان الأزرق نظرية واحدة خرجت من مخه المخدر ملخصها أن الاستمتاع بمباهج الحياة ليس متاحا للجميع، وأن صاحب المال والصحة هو أكبر مستمتع، وعلى هذا استنتج أن عليه أن يزيد من ماله وهيلمانه، أما الصحة فلم يذهب إلى الطبيب في حياته إلا مرتين، واحدة لطبيب باطني لشعوره بمغص حاد في منتصف بطنه، وشخص على أنه تقلص حاد في مصرانه المستعرض نتيجة لتخمة صاحبها توتر، أما الطبيب الثاني فهو للعلاج البديل حينما زاد وزنه ووصل إلى مائة وسبعين كيلو جراما، استطاع أن ينقصها إلى أن صار وزنه مائة وخمس فقط، أما وجهه فقد رفض أن يلعب فيه أي طبيب جراحة تجميل، قائلا إن خلقة الله لا ينبغي التعديل فيها، أخرج زكاة المال اثنتي عشرة مرة، وصام رمضان عشر مرات فى حياته متقطعة، وكان طبيعيا أن يقيم خيمة مائدة الرحمن قدم فيها الأرز والبطاطس بالدمعة مع حتتين من اللحم، بجانبهما طبق ورقى به خمس تمرات بلح، وكوب ماء، حتى يجرح الصائم صيامه، والحلو كوبا من الياميش، ظهرت الخيمة في التليفزيون الرسمي عدة مرات، وبعض الناس ينتظرون المؤذن يؤذن المغرب، ومشاهد لهم وهم يقبلون على تناول الإفطار، وفى السنة الأخيرة من حياته تحول من الفساد إلى التقى