رجل وحيد يخشى الأحلام | أحمد أبو خنيجر

رجل وحيد يخشى الأحلام | أحمد أبو خنيجر

أحمد أبو خنيجر  ( مصر):            على نحو مباغت مرت في حلم لم يكن يخصها، لا أدري سبب مرورها على هذا النحو، حتى الحلم- في الصباح- كانت تفاصيله قد تساقطت، و لم يبق منه سوى مرورها المباغت؛ حاولت بكل طاقتي تذكر بعض التفاصيل التي قد تخبرني عن سبب مرورها بحلم- على الأقل- لا يخصها، لكن ذاكرة الأحلام اللعوب لم تسعفني بشيء.          أحاذر عند الاستيقاظ من التحرك مباشرة، أبقى لفترة خاملا و كسولا محاولا استرجاع ما جرى في ليلتي من أحلام، علها تنير لي بعضا من متاهات و متاعب روحي، و كم يكون بهيجا عندي أن مرت الليلة بسلام دون أحلام؛ في ذلك الصباح لم يكن متبقيا من الحلم سوى مرورها الخاطف، مما أربك روحي و جعلني متوترا بعض الشيء، و لما ذهبت للعمل ورأيتها اقتربت منها متعللا بأشياء كثيرة، فقط لأهمس ملقيا العبء عن روحي: ابتعدي عن أحلامي.          ربما تفاجات من قولي، و من صوتي شديد الارتباك، لكن بسمة عينيها البهيتين قالتا: لا. فتحركت مبتعدا و أنا أرى نفس العينين، بنفس الضحكة- في الحلم- قد ارتسما أمامي بكل قوة و وضوح.          ربما كنت أسير وحيدا و ضائعا، تائها في صحراء، أو غابة، أو جزيرة يغرقها البحر بموجه، لا أتذكر أن كنت خائفا أم لا، فقط إحساسي بالوحدة و الضياع و العجز، في قلب هذا الإحساس رفت عينها ببسمتها في سماء حلمي، فانتبهت من نومي مكروبا و مرددا: مالها و مال أحلامي؛ و حين وجدتها في الصباح أمامي، همست: ابتعدي. *        *          *                  *                 *          * تمتعت لليالٍ طويلة بالنظر إلى السقف مبتهلا ألا تغشاني الأحلام، و كنت قد نسيت الحلم القديم أو تناسيته؛ كانت ليال صافية بلا أحلام، فقط الضجر و الكآبة تمرح فى سماء روحي، لكن ذلك لم يدم، فينما كنت عائدا من سفر طويل مجهد، أحن بعده للحظة أفرد جسدي فيها على سرير وحدتي، غافيا و مستمتعا ببعد العالم عنى، و بعدى عن العالم، قبل النوم كانت تناوشني بعض الخواطر، فرحت أرددها جالبا لعيني الوسن المشتهى: لم تكن سوى ظلال لا تفضي إلى شيء فقط إلى ظلام. ************ ربما يشف الحلم عن معنى أو إلى متاهة فما بال أحلامي مشوشة بالحزن. ********* أريد لها أن تمضى هكذا بلا كدر كنسمة لم يبللها المطر. ********* ما بال الحياة ثقيلة بلا وزن ……….. لم أكمل الخاطرة الأخيرة، أو ربما أكملتها، لأن ملاك النوم كان قد طار بى في أرض أحلامي، و كان نبع و جدول و زهور و أشجار صغيرة تنفث عبيرها فى الجو، و كان غناء عذب يتحدر من غيمة تقترب لتحط على النبع، و الغناء الساحر ينسكب داخل روحي، يغسلها و يطهرها من قلقها، صوت طفولي لعوب، يهاجم مسام روحي جميعا، فأتلفت بحثا عنه، لأراها تنبت من قلب الغيمة، واقفة بجوار النبع، لاهية تغنى، غير منتبهة لوجودي الضائع فى البهاء الذي ينبعث منها و يحيط بها، أكانت تداعب فراشة، أم تطير وردا في سماء الحلم ليغني من حولي كجوقة يردد خلفها، لم أعد قادرا على البقاء مكاني، و حين حاولت التقدم نحوها، رفعت عينها محذرة: إن اقتربت احترقت. و كأنما صوتها يقطر غواية يدفعني نحوها، و قبل أن أنقل قدمي ردني ملاك النوم لسرير وحدتي أحاور الخاطرة الأخيرة التي ما أكملتها.  *            *                  *               *                     *          في اليوم التالي، رغم التعب قررت الذهاب إليها، و أكون أكثر وضوحا و حدة و أنا أطلب منها و بحزم أن تبقى بعيدة عن أحلامي، فأنا رجل يخشى الأحلام كما يخشى الحياة، كانت مولية ظهرها و أنا متقدم من خلفها نحوها، و حماس يتأجج بداخلي للانتهاء من الحكاية، لكن صوتها أرجفنى و جعلني أقف على بعد خطوة منها، بينما هي تستدير بكامل ألقها و طغيان أنوثتها، و صوتها العذب يغنى نفس أغنيتها على النبع.

قبعة شتوية تحلم بالمطر | مصطفى النفيسي

قبعة شتوية تحلم بالمطر | مصطفى النفيسي

مصطفى النفيسي ( المغرب):   القبعة التي كانت في الدولاب كأرجوحة في بستان مهجور كانت تدعي الرقة والهدوء. لقد مضت أشهر طويلة بشكل بطيء مثلما يمر منشار صدئ في جسد شجرة عجوز:لايهم إن كانت شجرة أرز أو زيزفون، فهي عجوز الآن بجذع بائس بعد أن فقد مفاتن الشباب المحببة لدى الأطفال والسناجب. والآن هاهو المنشار الصدئ يعزف أناشيده الحربية بتلكؤ شديد يشبه عبور سحب متعبة في سماء خريفية. ظلت القبعة مختبئة – أو ما يفترض أنه اختباء – بدون أن تصدر عنها أية تبرمات أوشكاوى منتظرة المطر سدى، بعد أن تحول إلى ضيف متعجرف بدون معنى كطنين ذباب لم يستسغ نفاذ مداومة الصيف مثلما كانت تنفذ أموال الطفولة التي لم تكن تستقر في جيب كأنها مصابة بلوثة قلق. القبعة اليتيمة كانت حزينة، بدون حنان، إلا ما كان يتيحه خشب الأرز الذي برع نجار جشع في تليينه بعد أن كان قد فتح بيتا للتو حوله إلى نار مستعرة تريد قضم كل حطب العالم: هو يريد فقط قضم رواتب الآخرين دون أن يعير أي اهتمام لترهات”الأنا الأعلى” التي حرص على تدبيجها العم سيجموند فرويد ذات مطر غزير. لكن السماء أحجمت عن الأمطار، لذلك انتفت أية فرصة أمام القبعة للتخلص من سجن صغير هو مجرد درج في دولاب قديم، والذهاب في نزهة إلى الغابة القريبة، أو إلى مقهى»ناتالي”.المقهى الذي يؤمه كثير من الناس هزمهم الملل فهرولوا إلى لوحاتهم الالكترونية وهواتفهم الذكية يستجدونها هدنة ما. لقد أعيتهم هاته الحروب الداخلية التي يجتازونها: داخل كل نفس بشرية هناك حرب ما. حرب حامية الوطيس تشتد قبل الغروب بقليل أو بعده. القبعة هي الأخرى تبحث عن هدنة ما. تبحث عن رفقة ما. في المقهى سترى قبعات أخرى بألوان مختلفة قد اعتمرتها رؤوس كثيرة بعضها حليق والبعض الآخر نما فيها الشعر حتى أصبح كثا كأجمة صغيرة. ستتبادل كلاما كثيرا مع القبعات الأخريات، ستحكي عن وحدتها، وعن الشجارات التي تتم في المنزل بحيث تكون مضطرة لمتابعتها بشكل حرفي، وعن تذمرات الموظف العجوز الذي أصبح متقاعدا الآن، ومضطرا هو الآخر إلى عدم الاستمتاع بقيلولته، بحيث يبقى مع زوجته مسمرا أمام تلفاز من الطراز القديم يبث طيلة الوقت مسلسلات مكسيكية مدبلجة بشكل ردئ. إنها مجبرة على متابعة الحوار الممل الذي يجري بين بائع السمك وصاحب متجر البقالة. بائع السمك الذي كان يمر باكرا في صباحات يناير الباردة دون مطر، استعصى عليه كساد سلعته بعد أن قاطعه زبناؤه القدماء الذين أبهرتهم أسماك الأسواق الممتازة المنتشرة كغيوم صغيرة في بهو السماء. ستكون القبعة مضطرة أيضا طيلة صباحات بلون الرماد لسماع تذمرات الأطفال وهم يستيقظون بصعوبة كأنهم يفقأون عين إبليس، حالمين بعطل مديدة بعد أن تحولت العطل المدرسية إلى مجرد استراحات محارب. إنها وحيدة الآن في ذلك الدرج الصغير الأشبه بظفر عفريت عملاق تحت رحمة نظرات الجد محمود القابع هو الآخر في ذلك الإطار العاجي كلوحة لفنان مغمور. القبعة التي أتحدث عنها تفتقد للأصدقاء إلا إذا أسبغنا مجازا على القلادات والجوارب صفة أصدقاء دون اعتبار لخصوصيات الصداقة الأرسطية؛ أقصد صداقة الفضيلة.الصداقة من أجل ذاتها. الصداقة التي تنهي كل الخصومات والأضغان.لكن أية فضيلة سنجد داخل دولاب مصنوع من خشب الأرز؟ وأية خصومات يمكن أن تنشأ مثلا بين الجوارب والقبعات؟ كانت القبعة تفكر وحيدة في القبعات التي استمتعت بجيرتها في منزل المرأة العجوز التي دأبت على سهر الليالي كي تصنع قبعتين شتويتين أو ثلاث تستعين بها على تكاليف البيت الإضافية والطارئة ومصاريف الأحفاد الذين توفي والداهم في حادثة سير في ذلك اليوم الممطر حيث انزلقت بهم السيارة إلى واد سحيق. لكن الأمطار انقطعت الآن. وهاهي الآن مجرد قبعة شتوية حمراء يمكن التخلي عنها بسهولة وهو ما يحزنها بشكل كبير ويجعلها ترتعد من شدة الخوف: من قال أن الأمطار ضرورية فقط للبساتين والحقول؟ أليست الأمطار مهمة أيضا للقبعات الشتوية؟ كم من قبعة مغلوبة على أمرها الآن تعاني الوحدة والإهمال؟ هذا ما كانت تفكر به القبعة الشتوية الحمراء التي كانت تقرفص بدون شأن، وبدون نياشين تضعها على صدرها إلا ما تبقى من رائحة مطر قديم.

طيري ياطياره طيري…! | نعيم عبد مهلهل

طيري ياطياره طيري…! | نعيم عبد مهلهل

نعيم عبد مهلهل  ( العراق):   “حين يسأل المتصوفة بعد ألف عام من نهاية زمن التكيات وصلبها بالخازوق.. أين انتم من الموسيقى ؟ البسطامي والحشد المصطف بجبته من الحلاج وحتى السروجي سيهتفون مثل فرقة كورال: أودعناها بحنجرة فيروز”…   قصيدة كتبتها بمناسبة بلوغ فيروز عامها السبعين عام 2005   يقول أبي: نحنُ نصنع الطائرة الشعرية من الورق، والروس يصنعون طائرة الميك الحربية من الحديد. قالها بعد أن ثقفتهُ المدينة عندما أرغمتنا حشرة البلهارزيا التي بنت أعشاشها في مثانتي وأخوتي بسبب عفونة ورداءة الماء الذي نشربهُ ونسبح فيه، لنهاجر من قريتنا ونبيع جاموسنا ونلجأ إلى المدينة هاربين من لعنة التجفيف والأمراض وتهديم المدرسة لتناقص أعداد التلاميذ. لم نكنْ نعرف صناعة الطائرات الورقية في الريف، وكان يفزعني جداً صوت طائرات الميك التي كانت تخترق براءة المكان وبكارته وتمزق الصمت الجميل، ومرات تدفع الأسماك لتنفق وتطفو ميتة عندما تمر على الأهوار بارتفاع منخفض جدا لتتحاشى المقاومات الأرضية من الجانب الإيراني وهي ذاهبة لتقصف أهدافا في جبهة الأحواز. لم أكن أعِ الحرب، وكنت اشعر بسعادة غامضة عندما تمر الطائرات رغم زعيقها المخيف،  وكنت أرفع يدي ملوحا لها وفي قلبي أمنية لتهبط وارى شكل هذا الطائر الحديدي الضخم الذي لم أره بعد في صحيفة مصورة أو تلفاز، وأتذكر عندما هاجرنا إلى المدينة وعمري 10 سنوات، والحرب لم تزلْ مشتعلة حين رأيت الجريدة لأول مرة، عندما رافقتُ أبي في عمل له في السوق، عندما استراح في واحدة من المقاهي، وهناك رأيت ورقة عريضة يرفعها رجل يرتدي نظارات ويتطلع فيها… وعندما سألت أبي عنها.؟ قال:هذه ورقة تظهر فيها صورة الرئيس وأخبار الحرب وأشياء أخرى لا أعرفها. لهذا ارتعبت مفزوعا عندما أراد الطفل (الحَضري) جارنا في بيئتنا الجديدة أن يعلمني صناعة الطائرة الورقية، وقد أدهشني طيرانها مع نسائم الريح وبألوانها الزاهية، وقارنتها مع الطائرات التي كانت تمر فوق قريتنا، فوجدت طائرة الورق أكثر رقة وهي لاتملك صوتا مدويا يصُم الأذن، ارتعبت لأن الطفل (حكيم) أراد أن يصنع لي طائرة من ورق الجرائد. قلت مرتعباً:كيف تصنعها من هذا الورق وفيه صورة الرئيس؟ ضحكت وقال: لاتخف الجريدة فيها صفحات كثيرة، نحن نصنع طائراتنا الورقية من الصفحات الرياضية..! اكتشفت حينها عالم الجريدة وموضوعاتها، وعشقت هذا العالم وتمنيت أن أكون احد الذين يساهمون في الكتابة في هذه المساحة المغرية من دهشة الحروب والكتابة والصور، وكنت كلما اصنع طائرة ورقية من جريدة،أتخيل اللاعبين الرياضيين طائرين وممثلات السينما ورؤوساء الجمهوريات والملوك والدبابات وأبراج الحظ، وكلما هو مكتوب ومصور في الجريدة، عدا الصفحة الأولى التي تحمل صورة الرئيس حيث كنت أخاف أن تتمزق الطائرة أو تسقط، فيهوي الرئيس وتتمزق بدلته، أو تنكسر رقبته، فيأخذون أبي إلى السجن بتهمة التآمر، وربما لن نراه مرة أخرى. اقترنت بهجة صناعة الطائرة الورقية بوجه الرئيس وبزته العسكرية، وحتى اتخلص من هذا الرعب رحتُ أدخر مما يعطيني إياه أبي من مصروف يومي، لاشتري ورقاً ملوناً صُنعَ خصيصا من اجل الطائرات الورقية، فتغيرت سعادتي وصارت أكثر بهجة وأنا اخلص ذاكرتي من رعب وجه الرئيس عندما تسقط الطائرة الورقية التي نصنعها من الصحف ومعها يسقط الرئيس في بركة طين أو فوق إحدى السطوح فتكون الكارثة، وأيضا نسيت لحظات الرعب في تخيل طائرة الميك، واتسعت سعادتي لتصبح سعادة شعرية كما وصفها أبي عندما كنت فوق سطح بيتنا في واحد من صباحات الصيف المشمسة متمتعا مع طائرتي الجديدة الملونة وسمعت صوتا ملائكيا من مذياع جارنا يغني أغنية تقول: ((طيري ياطيارة طيري ياورق وخيطان… بدي ارجع طفلة ازغيره على سطح الجيران)) وهكذا منحتني الطائرة الورقية فتنة جديدة،غيرت في عاطفتي الطفولية ودفعتها إلى شباب مبكر. لقد كان صوت فيروز بوابةً لاكتشاف الخواطر والأحاسيس الجيدة، عندما صنعت لنا ألفة من الحب والسفر والكتابة، وصارت كل أغنية من أغانيها طائرة ورقية نعتليها ونسافر فيها لمدن نحلم بالوصول إليها، لندن، روما، باريس، براغ، إسطنبول… كنا نحلق مع الطائرة الورقية ونجوب قارات الأرض كلها بفضل تلك الأغنية الفيروزية وهي تجمع شتات الذكريات في طرف الجفن وتصوغهُ لنا عقدا من قبلات الفم أجمعها بشجاعة محارب طروادي وأطبعها في أول مشاعر غرام على فم بنت الجيران..!

ترتيب الأرفف  | ياسر عبد اللطي

ترتيب الأرفف | ياسر عبد اللطي

ياسر عبد اللطيف  (مصر):   حلمت أنني عُدْتُ إلى مدرستي القديمة… ليس في الأمر جديد، فكثير من الناس – على الأقل ممن تلقّوا تعليماً في مدارس – يحلمون بأنهم عادوا، وهم كبار إلى المدارس التي ترددوا عليها صغارا. وعادةً ما تتواتر مثل هذه الأحلام على الناس في فترات القلق، وسيما ذلك الحلم المتكرر بالمثول أمام لجنة امتحان صعب. أو بالتأخر عن الوصول إلى الامتحان، أو الحلم بأنك ذهبت إلى المدرسة عارياً، لتقضي يوم الدراسة الحلمي في محاولة خداع الآخرين بأنك ترتدي مثلهم الملابس أو في محاولات يائسة لستر العُري. لكن حلمي بالمدرسة هذه المرة كان واقعياً في جانب منه. كنت في الحلم كبيراً، في عمري الحالي، وكنت أحاول إقناع الإدارة بقبولي في المدرسة مرةً أخرى، ولو بصيغة انتساب أو استماع، كما في الجامعات، وفي نيتي أن أستعيد الزمن القديم لأصحح خطأً ما حدث في الماضي. وكان العام الدراسي على الأبواب في الحلم، كما في سبتمبر 2008 الواقعي. ماتم تهويمه في الحلم، أو قل ماتم»كلفتته” هو: هل كنت سألتحق، بعد موافقة الإدارة العسيرة، وقد حصلت عليها، بنفس دفعتي الدراسية، أم بدفعة حديثة من مراهقين أكون في وسطهم كالعم الخائب؟ انتهى الحلم قبل أن توضع إجابة على هذا السؤال الذي لم أطرحه على نفسي أثناءه. ولكن الغرض الأساسي والذي من أجله ذهبت إلى المدرسة يفترض أنني سألتحق بالمدرسة مجدداً مع نفس الدفعة من الزملاء لأصحح ذلك الخطأ المزعوم الذي وقع في الماضي، والذي يبدو أنه طبع حياتي من بعده بما يشبه اللعنة أو الوصمة أو على أقل تقدير، نوع من سوء الحظ الذي كان يمكن تجنبه. في تلك»الكلفتة” تكمن حلمية الحلم؛ فالتفاصيل التي تسبق طرح هذا السؤال، كلها، بإمكانها أن تتحقق في الواقع: فبإمكانك أن تذهب فعلاً وأنت كبير إلى مدرستك القديمة، وتقنع إدارتها بأن يقبلوا التحاقك مرة أخرى تحت أي مسمى، وقد يقبلون فعلاً في نظم تعليمية متسامحة، وبعد أن تدفع لهم بالطبع الرسوم الواجبة. لكن أن تعود بعمرك الكبير لتلتحق في الزمن القديم ذاته، ومع نفس الزملاء القدامى، فهنا قد تَدَخل منطق اللامعقول الخاص بالأحلام ليقصَ عمراً انقضى، ويصل زمنين متباعدين، ويحرك إرادات متعددة لصالح رغبة غامضة لتلميذ قديم يحلم. كمن يمزج الإسمنت بقليل من الجبس تقول الدكتورة سلوان طبيبتي النفسية وهي تمزج مدرستي الرخاوي وعكاشة المصريتين بشيء من الفرويدية ليكون خطابها العلمي أكثر تماسكا: إن الحلم يحتوي على رموز تمثل أحداث أو معضلات مرت في حياتك على فترات متباعدة، لكنها قد ترد متجاورة في الحلم على هيئة هذه الرموز ليستطيع مستوى ما، غير واع تماماً من عقلك، أن يفك تلك الشفرة، فيساعد جهازك النفسي على تجاوز تلك المعضلات. تأملتني ملياً من خلف نظارتها وهي تنقل قلمها بين أصابعها وشفتيها على هيئة سيجارة وقالت: أحلامك نفسها شديدة الدلالة في هذا السياق.. وذكرتني بحلم قديم كنت قد رويته لها، وفيه كنت قد حصلتُ عن طريق الصدفة على شريط تسجيل يحتوي على ثماني أغنيات بواقع أربعة على كل  وجه هي الأغنيات الأقرب إلى قلبي على مدار عمري. كان الشريط نفسه من نوع شديد الجودة، مصنوع من بلاستيك أسود في غير لمعة بلون وملمس يقارب خشب الأبنوس. كانت أغلب الأغنيات الموجودة بهذا الشريط وربما كلها موجودة بالفعل في مكتبتي، لكنها موزعة على شرائط متعددة طواها النسيان بين الأرفف والغبار… وكان العثور على هذا الشريط في الحلم بمثابة استرداد لقيمة مفقودة، أو قل مبعثرة… ولست أدري هل حدث في الحلم نفسه، أم في حلم لاحق أني فقدت الشريط في النهاية، واستيقظت وأنا أقلب بين الأرفف باحثاً عنه. وكنت مقتنعا في صحوي، وربما لا زلت، أن ذلك الشريط الأبنوسي وجِدَ بين يدي ذات يوم.. قالت: هل تذكر…كنت أعالجك من الاكتئاب وقتها… وكان لديك إحساس أن حياتك تتبدد… وأنك تفقد أصدقاءك الواحد تلو الآخر، لكنك لم تفقد سوى الشريط في الحلم وبضعة عشرات من جنيهات راتبك القليل على جلسات العلاج وأقراص البروزاك… وواصلتُ الحكي. كانت الدكتورة سلوان تقطع الغرفة جيئةً وذهاباً وهي تستمع لي. قلت لها إني خرجت من المدرسة في الحلم، وذهبت لأجلس بمقهى مجاور، وطلبت زجاجة مثلجة من مشروب»سينالكو” المنقرض، كما كنت أفعل في صباي بالثمانينيات، وأخذت أتأمل التلاميذ المتسكعين بالمنطقة كمن يتأمل ماضيه. وسألتها مجدداً عن دلالة ذلك.  قالت: العودة إلى مكان قديم هي فكرة جوهرية في حياتك وفي كتابتك… ألم تكتب مرة قصيدةً عن مراهقين عادوا وبشكل قدري لمكان ارتكبوا فيه حماقة عنيفة… وتلك القصيدة الأخرى عن شخص يشعر بالتورط في جريمة حدثت قبل أن يولد فيذهب لمسرحها كشريك قديم… بداخلك شعور عميق بالذنب تجاه أمر مجهول… وهو نوع غريب من الشعور بالذنب لا يخامره الندم… كأنك تلوم نفسك وتتواطأ معها في نفس الوقت.. عادت الدكتورة سلوان وجلست على مكتبها، وخطت شيئاً بالقلم في دفترها، وقالت إن الأمور كما تبدو لها ليست سيئة، وإن علي أن أبدأ بالكف عن تعاطي دواء القلق تدريجياً.. وحددت موعد الزيارة التالية في الشهرالقادم. عدت سيراً على الأقدام من الزمالك حيث عيادة الدكتورة سلوان، إلى مقر عملي بمبنى الإذاعة والتلفزيون على كورنيش النيل في ماسبيرو. في هذا المساء، كانت نسائم خريفية لطيفة تهب من جهة الشمال فوق النهر وأنا سائر على»كوبري مايو” أفكر بكلام الدكتورة حول طريقة الذهن في معالجة نفسه عن طريق الأحلام، وخطر ببالي بيت  الشعر الذي يقول:»وإن كواني الهوى وطارا.َ.. كانت رياح الدجى طبيبي” من قصيدة النهر الخالد بصوت عبد الوهاب، ورحت أردده طوال الطريق جهراً بصوتي تارةً، وتارةً بترديد اللحن فقط، أو الصفير به. وبدا لي وأنا أسير فوق الجسر أُدندن بهذه الأغنية، ومن حولي أضواء المدينة بانعكاساتها على»النهر الخالد” أن ثمة معنى يلف حياتي كلها في تلك اللحظة، أو كأن تطابقاً غامضاً يجري بين تصور مجرد من معاني الحياة الكبرى وحركتي الآن كمواطن يقطع الجسر ليلاً ذاهباً إلى عمله. كانت لديَّ سهرة الليلة في حجرة المونتاچ بالدور الرابع لتوليف حلقة من برنامج»سينما المؤلف” الذي أقوم بإعداده. لم أهبط من الجسر باتجاه مبنى التلفزيون مباشرةً، لكني آثرت اختراق حي بولاق أبي العلاء لشراء بعض سندويتشات الفول والطعمية، لي وللمونتير الذي سيسهر معي، ثم دخول مبنى التلفزيون من الباب الخلفي. كانت الحلقة التي سنعمل على مونتاچها الليلة عن المخرج الأمريكي»روبرت زيمكس”. بادرني المونتير، وهو من النوع المثقف قياساً لبني مهنته: هل يعتبر روبرت زيمكس مخرجاً مؤلفاً؟؟ كنا قد استنفدنا في حلقات سابقة اسماء نحو دستة من المخرجين المؤلفين: من الكاهن السويدي، للرسول الروسي، للسحرة الطليان الثلاثة، للسوريالي القطالوني، لأرباب الموجة الجديدة في فرنسا، مروراً بتيار السينما النقدية في أمريكا؛ حتى نفدت سبل الحصول على مادة فيلمية لمخرجين كلما ازدادوا ايغالاً في شعرية السينما كلما صاروا أقل شهرة. قلت له إن زيمكس ليس مخرجاً

قصص قصيرة جدا | خالد سامح المجالي

قصص قصيرة جدا | خالد سامح المجالي

خالد سامح المجالي  (الأردن):   أمجاد كرسي   الكرسي الملقى منذ دهر في زاوية مخزن حكومي صرخ فجأةً بباقي الكراسي: -»أنا ربكم الأعلى”. خال صمتها خوفاً، ففرح قبل أن يطلق صرخة أخرى اختنق من ركام الغبار الذي أثارته صرخته الأولى. في اليوم التالي، جرّه العمال الوافدون إلى حيث جاءت أوامر وزارة الثقافة والتراث الوطني، كان في حالة جيدة، لكنهم باعوه إلى مصانع مختصة بإعادة التدوير. الساعة في الانتظار أسندت ظهري إلى الجدار أراقب التحام الصمت الشاسع بالفراغ… وحدها الساعة المعلقة فوقي كسرت رتابة اللحظات، هجرت ثوانيها قليلاً كي تبول على رأسي. وجه! على الرصيف المقابل طفل أنيق ينتظر موتا عابراً، قطعت الشارع واقتربت منه أكثر وأكثر… تملكتني الدهشة… هو ذات الوجه الذي رأيته في مرآتي قبل قليل. نرسيس في الظلمة جفت كل مياه الأرض، فتوسّل وجهه الجميل في عين الشمس، حدق وحدق، وبقي محدقا لم يدرك نرسيس أن الصورة احترقت،  وأن ظلمة الضوء تختطف رسمه البهي. نافذة العزباء تعود العزباء إلى منزلها بعد سفر طويل، تفتح النافذة ويصطدم بصرها  بنوافذ عديدة مسدلة الستائر على عشرين خريفاً أو يزيد، منذ ذلك اليوم الذي رآها فيه طفل في العمارة المقابلة مع أحد العابرين، في اليوم التالي أسدلت كل ستارة أمام غرفة نومها، قال الناس: ” لا يمكن لنا أن ندع الفرصة لأطفالنا كي يشاهدوا ما يفسد أخلاقهم” الآن وقد بات الأطفال آباءً  أشداء، تقف العزباء بالنافذة، تحدق في كل الستائر وتسائل الصمت المحيط: ” هل ما زالوا أنقياء، أو أن عزباءَ أخرى أفسدت أخلاقهم”. مراتب الشرف لم تسرق كل ما هو ثمين في منزله المترف، تلك الليلة تركت له المومس الحرامية كل شهاداته معلقة على ظلمة الجدار، جميعها كانت بمرتبة الشرف.   ليلة ميلاد القطط الوحشية القطط الوحشية التي سقطت في طريقي بعد حفل عيد ميلادي لم تكن سوى شبح الموت بأرقِ هيئاته، خرجت من كل الأزقة وزوايا الشوارع التي مررت بها، ملامحها مسطحة، عيونها الفسفورية تضيء وتنطفئ بصمت بارد امتد لرقبتي كطوق النهاية.  عندما دخلت غرفة نومي كانت إحداها تغفو على سريري، اقتربت مني وبما يشبه المواء الحاد وشوشتني: “أمنح عمرك عاماً إضافيا، وأستطيع تجديده”. لعنة يلاحظ في المرآة بعضاً من حتميات بيولوجية: سالفين وطأهما البياض، بشرة منهكة مستسلمة للظلال، أخاديد رفيعة أسفل العينين وجفنين ذابلين. لا يلعن- أبداً- كل الزمن، وإنما فقط تلك اللحظة التي قرر فيها تلميع مرآته هذا الصباح.   ذاكرة  – أؤكد لك نجاح العملية غداً، إنما مع احتمال كبير بفقدان ذاكرتك على إثرها، صعق عندما أخبره الطبيب بذلك وأمضى ليلته يسجل كل ما أمكن لسيرة حياته أن تتسع له: الأسماء كلها: اسمه، أسماء أبنائه، أمه، أبيه وأصدقائه… هواياته،كل ما يحبه من أماكن وأغانٍ وألوان ومأكولات ومشروبات، أولئك الذين ينتظر عودتهم،أول فتاة أحبها وآخر مومس ضاجعها، حتى كل لحظة حزينة وموقف ظريف مر به. في الصباح جلس يتسلى بتمزيق الأوراق، إذ قرر نسيان الطريق إلى المستشفى. SMS طويلا انتظر اتصالها ذاك المساء. لم يحظ إلا بتلك ال(SMS) المتطفلة: لأعذب كلام الحب وأرق المعاني وأشعار الغزل أرسل رقم (1) مجانا لأسبوع فقط، ثم 20 قرشاً للرسالة.

احتراق جسدين | عماد الورداني

احتراق جسدين | عماد الورداني

عماد الورداني  (المغرب):   يحترقان شوقا.. يتبخران، يصيران غيمتين، يتجاذبان، يصطدمان، تنير السماء قناديلها، يتحدان، ينصهران، يتوحدان، فيبكيان رذاذا شفيفا. الرذاذ الشفيف يعزف سيمفونيته، يداعب التراب، يراقص الريح، يستفز المدينة وهي تغط في نوم عميق.. الرذاذ الشفيف يوقظ الذكريات، ينظف المرايا، والأيادي الآثمة تمسحه لترى وجهها بوضوح. تئد القطرات الواهنة، تمنع التحامها. الأيادي الخشنة تشاهد من وراء النوافذ انتحار الرذاذ، تباركه، تسخر منه، تتأفف من ضجيجه، تلعنه، تسدل شراشفها لتختلي إلى أحلامها، وحده أوف يتابع مشهد الموت، يؤجله، يعذب القطرات الخفيفة، يشوه موسيقاها، يلعن رقصتها، يقمع رغبتها، حتى تستعيد المدينة نومها الهادئ. أوف يؤجل الموت بشرف.. أوف يؤمن مساحة صمت ملغومة.. أوف يكتمل بين الشفاه ليجيز الولادات الهادئة.. لم يكن رذاذا، وهي لم تكن زخة مطر صيفية، وأوف ظل معلقا في أبواب المدينة يراقبهما كإله لا يؤمن بالغفران، يرسم لهما مسافة ضوئية توزعهما إلى جسدين عاريين، يكتويان برغبات محمومة متخيلة، لا يستطيعان البوح بها، فعيون أوف لا تطرف.. هو بوذي صغير، يحمل مزماره كل مساء، وينأى بنفسه خارج المدينة، ليشهد فجيعة الرذاذ، يراقب اختلاطه مع التراب، ينصت لسيمفونيته، يشاركه العزف، ويترك جسده يراقص صوت الريح، وهو يرمي بالقطرات صوب أشجار السرو.. يقيم مأتما ليرثي الرذاذ، ويشيع شمس الخسارات إلى بحرها الوثير، ثم يدلف إلى المدينة متجنبا العيون المتلصصة، والشفاه المرددة»الأصلع الجاحد”. البوذي الصغير لم يكن يسمع سوى سيمفونية الرذاذ، بينما أوف يتابع مشيته العجلى، ويحصي أنفاسه. هي هندوسية تشوهت يوم ولدت قبل الأوان، ولأن الأم داهمها المخاض وهي تغتسل بماء الرذاذ، حرصت أن تؤجل صرختها حتى تكتمل استدارة بطنها، لكن العيون المتلصصة التي ترتاب من الحذر، ظلت تفتش عن اللحظة المكتومة، ظلت تلوك سيرة البطن المشوهة، فحاكت حكايتها بعد أن عمدها أوف. هي الناقصة المشوهة، المحرومة من مصل النوم، ترعرعت قلقة، مرتابة كسمك السلمون، ولأن نظرات المدينة تنفيها باستمرار، تشكك في أصلها وفصلها، تعجن سيرتها بالتراب، نأت بنفسها خارج المدينة لتستحم بماء الرذاذ، ولتكنس بقايا الوحل العالق في ذاكرتها، تصرخ بحرقة وهي تتمرغ في البرك الطازجة، تغتسل من الأصفاد الصدئة، وتحيي زهرتها البرية، تتغزل بالرذاذ وهو يداعب خذها الأسيل، يطفئ حرائقها السرية، يشجر مساحات مقفرة، بينما أوف يتوعدها. البوذي الصغير يتمادى في عزف مقطوعته، والهندوسية تتوسد ضفيرتها وتنصت لنشيدها.. الأصلع الجاحد يعزف، ينزف، يجري، يعوي، يسابق الرذاذ ليكتمل. المشوهة تنتعش، تبتهج، تتلذذ، تتعذب، وبغنج تراقص الرذاذ لتحس بأنوثتها.. يعزف، تشهق، يجري، تبكي.. مساحة ما بينهما تولد من جديد، تورق، تخضر، تشع.. مساحة ما بينهما تطوى. العزف يرتفع، والنشيد يرتجف، عيونهما المندهشة تترقب أي الأيادي الجريئة ستمتد لتصافح يدا أخرى.. كلاهما يبحثان عن علامة سؤال ضائعة، وأوف يراقبهما. من أنت؟ من أنت؟ الأسئلة تتناسل من الفراغ، وشهقات الحزن ترتفع، تربو، تنتفخ، تتدحرج، وأوف يمدح الخراب.. شهقات الحزن تنفجر، تسيل شلالات جارفة، وأوف يعقد حاجبيه بحنق. تطوى المسافة أكثر، يتبادلان الأنظار، الأسماع، الأنفاس، ولا يتعبان، يتوحدان، بينما الرذاذ يعزف سيمفونيته. أحس بالشمس تبارك هجنته، أحست بالوادي العميق يطهرها من حكايتها، وفي الحلم تقابلا، تواجها، تعانقا، دون أن يتكلما. أنا البوذي الصغير، طريد المدينة، أصلعها الجاحد. أنا الهندوسية المشوهة، منذ أن ولدت أجبرت أن أكون ابنة الماء. محنتنا واحدة، تنفينا المدينة إلى هوامشها لتنام بعمق، لهذا اخترت الصمت والفرار. محنتنا واحدة، ولدنا من رذاذ شفيف، لهذا تطردنا المدينة باستمرار. آن لنا أن نفرح.. سنفرح، سنفرح، سنفرح.. يضحكان، يقهقهان، المزمار يضحك، العزف يضحك، الضفيرة تضحك، التراب يضحك.. وأوف يراقب بغضب متزايد. يرقصان، يسبحان، يحلقان.. يلجان باب المدينة، يتأملان أوف الغاضب، الحانق، المحترق بنيران الانتقام.. يغيظانه بقبل هوائية، لا يأبهان، يسيران، الرذاذ يبارك خطوهما، والعيون المتلصصة تستنفر حواسها لتفهم، بينما الحكاية تتفشى في دروب المدينة، وأوف يلعب بشظايا النيران يطوح بها في أرجاء المدينة لتلتهم المسافات الآمنة.. العيون المتلصصة لم تعد متلصصة، شفاه الأقنعة تلوك حروفا دون غيرها، وأوف وحده القادر على الغفران لكنه لا يغفر، وهما يفران  من الأفأفات التي تحاصرهما، يصلان إلى قلب المدينة، أوف يعدو ليصل إليهما.. وفي وسط المدينة تحلقت الأفأفات حول أذنيهما، موسيقى الرذاذ تعزف وهما يرقصان، أوف يصرخ، يصرخ، وهما تعانقا، التحما، فاحترقا. الدخان يحلق في السموات، الجسدان يتآكلان، يتلاشيان، اكفهرت السماء، أمطرت رذاذا وسخا، سرعان ما غرقت المدينة في مائه، وأوف يتشبث بآخر قطرة.

سمراء تجلس في الشرفة | نهى محمود

سمراء تجلس في الشرفة | نهى محمود

نهى محمود  (مصر):   السيدة السمراء ذات الثدي الواحد، والكثير من حيل الحب، تركت زوجها الأخير وغادرت لبيت ابنتها في البلدة البعيدة المطلة على البحر، حيث يعمل نصف السكان في صيد السمك. تجدها الآن هناك، كلما مررت جوار البيت المتهالك، تجلس فى الشرفة معظم النهار، قبل أن تنزل لتمشية قدميها على البحر وقت غروب الشمس. تمشى كأن الزمن لم يفعل فعلته معها، ربما امتلأ جسدها قليلا، عدة أرطال نحتت نحافتها، وزادت سمرتها لمعانًا وغواية. هي أرملة» أبو حسن”، ومن لا يعرف الرجل فاتته نصف حكايات الشهامة على الأرض، لم تكن له مهنة محددة، كان لديه حانوت مكتوب على واجهته»أعمال وتجارة أبو حسن” لكنه منذ افتتحه- قبل زمن بعيد- لم ير أحد شيئًا يباع أو يشترى، صحيح أنه يمتلئ بالناس، وأصحاب المصالح، وتتم به معاملات واتفاقات، هنا كان يتقاضى أموالا كثيرة، من يده ليد تلك السمراء التي تقول الحكايات إنه تزوجها غصب، اعترض طريقها وهى عائدة من المدرسة التجارية، وقال لها أن تبلغ أباها انه سيجيء فى المساء ومعه المأذون والشهود، قالها هكذا، ثم ختم جملته بـ”مبروك يا عروسة”. كانت تعيش مع أبيها عامل النظافة وأمها التي تبيع الأقمشة للنساء وسبعة إخوة غيرها في حجرة واحدة، نقلها أبو حسن لبيت كبير حتى إنه اشترى لها صالونا مذهبًا، وهو دليل على الفخامة في ذلك الزمن. لم تكرهه، لكنها أيضا لم تحبه، كانت مشاعرها نحوه محايدة، ظلت هكذا زمنا، أنجبت له سومة، وحين أنجبت حسن، انتقلت من خانة الحياد، للكراهية، لا تعرف سببًا لذلك لكنها كانت تشمئز منه بعدما أنجبت الولد، طلبت منه أن ينتقل فى حجرة نوم أخرى بالبيت، حتى يشد الولد عوده، لكن الحكايات تقول إنها لم تمنحه نفسها مرة أخرى أبدًا، ورفضت أن يجمعهما فراش. هو لم يكن يشعر بأي ضغينة، ولم يتحدث في الأمر مع أحد أبدًا، وظل يحبها، ويمنحها كل ما يكسب من أعماله. كانت مولعة بالمشغولات الذهبية، كان يشترى لها الكثير، وهى كانت تقول له»إن الذهب للزمن، وحتى لا أحتاج أنا والولاد من بعدك”. كان أبو حسن يخرج في الصباح، ويذهب لمحله، يتجمع هناك صبيانه، يحدد وجهتهم، ويخرج مع بعضهم في المكان الذي يراه أكثر خطورة ويحتاج لجرأة أكثر، وكان دائما يُطمئن من يعملون معه»أن الله سيسترها معهم، لأنهم يعيدون الحقوق لأصحابها”، كان يتفاخر كثيرًا بحكاياته وبطولاته، يحكى في ساعات الصفا لصبيانه ولحسن وسومة، أبنائه، عن الرجل الذي دفع شقا عمره وسنين غربته ثمنا لبيت، وعندما عاد من السفر وجد المالك قد باعه لأكثر من مشترٍ، يحكى لهما،  اشتريت باب حديد ووضعته على الباب الخشبي، ووقفت أمامه وأشهرت ساطورًا كبيرًا كان بيدي، وأدخلت صاحب الحق بيته، ويحكى عن الأموال التي أجبر ناس على سدادها لمستحقيها. أبو حسن الذي عاد ذات يوم لبيته ونادى سومة ابنته التي تشبه أمها في سمارها وحلاوتها، لكن لها قلب أبو حسن، جدعة وطيبة ولا تحب الظلم، ناداها وكانت ابنة خمسة عشر عاما وسألها كيف تراه؟ وهل بالفعل وجهه يخيف الأطفال كما قالت له سيدة اليوم في مشادة واختلاف على حساب بينهما؟ استغربت البنت وقالت له إنه جميل ويشبه»البدر في السما”، ابتسم وقبلها، وصدق أنه يشبه البدر فى السماء، وكان دائمًا ما يحكى ذلك قائلا إن ابنته تقول إنه جميل ويشبه البدر في السما،  لكن تبقى حكاياته الأثيرة التي يحكيها ثم يتحسر على الرجولة وأيامها، يوم جاءه رجل يبكى»يحكى الحكاية هكذا.. يقول لك يبكى مثل النساء، ويقول لي إنه وقع في عرضي ويتوسل لأنقذه، يتوسل لمروءتي، ويقول إن شرفه أهين، ويقدم لي خمسة آلاف جنيه ويخبرني أنه سيمنحني مثلها عندما أعيد له زوجته”.  أنا ظننت أنها تعرضت للخطف، لكن الرجل يقول إنها هجرته وعاشت مع رجل آخر، وإنه لا يعرف مكانهما بالضبط، لكنه يعرف المنطقة. وبعد أيام قليلة، توصلت لكل شيء، أخذت معي نصف رجالي، وقلت لهم إننا نتحرك لأجل شرف الرجل، وأخذته معنا لأنه أحق بأن يغسل كرامته بيده. دخلنا الشقة، ولففتها بعباءة سوداء، وأوسعنا الرجل الآخر ضربا، وعندما خرجت بها ناولتها لزوجها.. ناولته الفاجرة وقلت له اغسل عارك. من ناحيته هو عندما رآها قادمة، قبل يدها وحضنها وقال لها إنه اشتاقها جدًا، وعاتبها بخنوع أنها هجرته، وأخرج من جيبه خلخال ذهب، وخر عند قدميها يبكى. عندما فاق من حالته تلك، نهض ونفض التراب عن بذلته، ونظر نحوها بتوسل وهو يفتح باب سيارته الفارهة ويرجوها أن تدخل، من ناحيتها توجهت نحو السيارة وقالت له إنها ستحاسبه عندما تعود للبيت على هذه الفضائح التي تسبب بها. عندما دخلت السيارة لف واتجه نحوى وناولني مظروفًا بباقي المبلغ. يصمت لحظة ويقول، يا حسرة على الرجال، تناولت منه المبلغ ورميته فى وجهها داخل السيارة، وسببته، ثم أخذت رجالي ومضيت.  تزوج من السمراء وأحبها، لكن الزمن غدار، وقع الرجل ذات يوم، وسكن جسده المرض، واحتاج علاجا طويلا وباع المحل، ورفضت السمراء بيع أي قطعة من ذهبها، الذي ستبيعه تباعا طوال السنوات المقبلة للإنفاق على الرجال الأصغر سنا، التي تتزوجهم بعقود عرفية ودون إعلان. حتى عندما جاءها»المرض الوِحِش” كما نسميه تفاديا للشؤم، استأصلت ثديها الأيمن، وخضعت للعلاج الكيماوي. كقوادة قديرة، لم ينل من عزمها ورغبتها في الحياة شيء، ومرت أزمة مرضها، وتزوجت بعدها بشهور قليلة، رجلها الأخير ذلك الذي قالت وهى تحكى عنه، كأنني لم أتزوج من قبل، كأني لم أعرف رجالا في حياتي، كلفتها هذه الزيجة الكثير، وعندما هجرها ليتزوج بفتاة صغيرة في مثل سنه، لم تحتمل الهجر، ولملمت ملابسها وغادرت لبيت ابنتها، ربما تنسى تلك الطعنة. السمراء ذات الثدي الواحد تراها هناك، تجلس في الشرفة معظم النهار، قبل أن تخرج للتمشية على البحر وقت الغروب.

الموعد | ابراهيم الحجري

الموعد | ابراهيم الحجري

ابراهيم الحجري (المغرب):   أنهى الأستاذ الجامعي الشاب محاضرته حول المناهج الأدبية في النقد الغربي، وقبل أن ينسحب، جمع لوازمه وكراساته ووضعها في حقيبته الجلدية الأنيقة، فهبت عليه عاصفة عطر قوي نفاذ، استثارت لبَّه، قبل أن يرفع عينيه إلى وجه أنثوي ملائكي يحمل روعة الصباح. في البداية أحس نبضا خفيفا متحرجا يهز كيانه، سرعان ما أخذ يتبدد؛ رويدا رويدا لما تيقن من استئناسها به وارتياحها لحديثه. تطلع إليها مبهوتا؛ وقد توقفت حركات يديه المنشغلتين بجمع اللوازم في الحقيبة. كانت عيناه الحائرتان تستفسرانه عن سبب هذا العصف الصباحي. وكان وجهها يشع ثباتا وقوة: – أستاذ، من فضلك، لقد أثارتني محاضرتكم الشيقة حول المناهج، واستمتعت بسعة درايتكم بالموضوع. وقد اخترت موضوع البحث هذه السنة حول المنهج السيميوطيقي بين النظرية والتطبيق من خلال الرؤية الكريماسية. فقلت أستشيركم وأستفيد من تجربتكم وباعكم الثري في هذا المجال؛ خصوصا أنتم تعلمون أن المراجع والمصادر نادرة في هذا الباب وأغلبها باللغة الأجنبية، فهلا ساعدتموني جازاكم الله كل الخير؟ ظل واجما ينظر إلى سرائرها العميقة ويحدق في عينيها الجسورتين، كان يحس أنها تسبر أغواره ولا يفطن إلى أغوارها، تَسْتكنه خباياه ولا يصل إلى نبضها، تظاهر، لحظة،  بالتفكير، ثم عاد إلى جمع حقيبته وترتيب نظاراته الدقيقة ومعطفه السماوي. وحاول أن يتماسك ويعيد هيبته. ثم أطلق بصره، بعيدا، يترصد إن كان أحد  يلاحظه. وقال باقتضاب: أجل، يمكنك الاعتماد علي… عندي مصادر ومراجع وبحوث… يمكنني أيضا أن أوجهك، لو أردت، تجدينني في مقهى” الجوهرة”… ثم ابتسم لها نصف ابتسامة وانصرف مسرعا ينزلق طيفه النحيف بين حشود الطلبة والطالبات. مرت أسابيع لم يلتقيا خلالها، لكنها ظلت تترصده؛ وظل كلما رفع بصره نحو مقاعد الطلبة المحتشدة، إلا وطالعه وجهها بالسحر نفسه وبالتأثير الذي لم يستشعره يوما في حياته، هو الذي كان يظن أنه عرك  بحر النساء، على شساعته، وجرب  حربهن، على شدة صهدها… “لكن لماذا كلما نظرتُ إلى هذا الوجه؛ أحس بهزيمة نكراء تجتاح الدواخل وتكسر الأعماق؟ لماذا أشعر أنني مطالب بفعل شيء ما تجاه هذا الكائن، شيء ما تنطقه الأعماق اللعينة؟”. كان يهتف بحرقه عنيدة  لذاته، ويكابد همه في صمت. غير أنه، وفي مساء مطري بارد، حينما كان يستعد لإغلاق باب سيارته ومغادرة الكلية، داهمه الوجه نفسه، مُحمَّلا بكل تفاصيل الإثارة، ولم يستطع أن يتذكر ما الذي أحياه فيه ذاك الهبوب المسائي المفاجئ، كما لم يستطع أن يتذكر ما إن كانت ترتدي فستانا أم بذلة رومية أم سروال دجينز، كما أنه ظن، بنفس الطريقة، أن سيارته مرتفعة الحرارة فوق المعتاد رغم أن الجو شتائي وبرد” الليالي” قد كشر عن أنيابه، وقفتْ ولم تنطق ببنت شفة، وظلت، بالباب، واجمة يانعة كشجرة لوتس. قال لها، دون أن يستطيع دفع ارتعاشة عن شفتيه الممتلئتين: – هيا، اطلعي، تذهبين إلى سيدي الضاوي أو حي الصفاء أو البركاوي؟ – لا، أنا أقطن بحي القلعة. – على كل حال، فتلك طريقي، أنا طالع لديور الأمان  بحي السعادة الثالثة… – تُشْكرْ يا أستاذ! – لا داعي لذلك… أستاذ في المدرج، نحن، الآن وهنا، خارج الجامعة مجرد أصدقاء. تلك المفاهيم لا تروقني، وعليها أن لا تطاردني حتى في الشوارع وباحات المدينة! – هذا تواضع منك! – العفو!          صعدتْ فشربهما الطريق. وأثناء المسير؛ كان منتشيا مسرورا، ملفوفا بفرح غامض. مرت اللحظة كالبرق، وجد نفسه مرغما على المسير وحده، بعد نزولها، المدينة مشمولة بالظلام والوحشة، ورغم سقوط المطر، كانت الشوارع تحتفي بالناس والأضواء، وكانت المظلات ترقص فوق الرؤوس مثل صحون مقلوبة… وجد نفسه مداهما برجفة برد فأسرع قليلا وأشعل الأضواء… استدفأ بلفافة تبغ. وقبل أن يصل إلى شقته؛ تنبه إلى أن الفتاة تركت له بطاقة قبل أن تنزل، التقطها. وضعها في جيب سترته. وقبل أن يقرأها، كان لا بد أن يهيئ الطقوس الملائمة للحظة مثل هاته: أشعل الفوانيس الخضراء الخافتة وأحضر كأس قهوة معطر بالقرفاء ثم استلقى على الأريكة؛ بعد أن شغل التلفاز واختار قناة ميوزيك بلوس، فتح البطاقة وقرأ:          ” انتظرْنِي يوم السبت على الساعة السابعة مساء، لن أزعجك في جلسة المقهى مع الأصدقاء. أود، لو تسمح لي، أن أجتاح خلوتك بشقتك. أعرف أنك وحيدا، مثلما أعرف أنك تسكن في شقة بالطابق الثالث من إقامة الفردوس، عمارة القرنفل، انتظرْني بشقتك، سأكون في الموعد. وتأكد أنك لن تندم”.   وفاء تزلزلتْ أعماقه؛ فأعلن قلبُه حالة الطوارئ: خرجت البطاقة من جمجمته لكن وفاء (لم يكن يعرف اسمها من قبل) دخلت قلبه، واتخذته مسكنا. أحس بعاصفة تحدث خارج البيت في الظلام الدامس؛ فأحكم إغلاق النوافذ وحاول أن ينام.. لكن هناك شيء ما يحول دون ذلك. شيء ما يتشكل في الدواخل، يحسه ولا يعرف كنهه، عاصفة خارج الجسد وعاصفة داخله.          طيلة اليومين المتبقيين، ظل ساهيا واجما يدمن المقهى والسجائر ويعد الدقائق التي كان ينبض بها القلب، لكنه، في كل مرة، كان يتصور شكلها، قوامها، سمرتها، لثغتها البربرية، شعرها الكوريسيكي، عينيها الشهلاوين وتضاريس أخرى آسرة… ظلت مشاعره متوترة في أغلب الأوقات. تعطلت جميع الرغبات لديه، ولم تتبقّ سوى تلك الهمسة الجميلة، في ذلك المساء البارد الموحش.»إلى اللقاء”، نطقت القاف كافا مرققة مصحوبة بغنة رائعة تفيِّض الخلايا النائمة وتحيي القصائد البائدة. وظل، برباطة جأش، يحاول تمالك نفسه النافرة وإعادة التوازن إليها. فرأى أن يعود لقراءة بعض الروايات الآسرة، أو يطالع بعض الجرائد أو يتابع الأخبار والتحاليل على شاشة القنوات العالمية أو يستمتع ببعض أفلام الأكسيون… دخن كثيرا، مثلما يليق بعاشق قديم، وملأ المطفأة عشرات المرات، وامتلأت سلة مهملاته الموضوعة بعناية قرب الباب بعلب السجائر. وفي الليل؛ كان يحلم بفرح، وفي الصباح يجد بللا بأثوابه الداخلية. يستيقظ نادما. يقصد المقهى الشاطئي، يحرق الكثير من الوقت والكثير من السجائر، ويعب الكثير من القهوة السوداء، ويعود في القيلولة مهروس الدماغ.          ها هو المساء الموعود، المزحوم بالرغبات والهواجس، يطل من فجوات هذا الصباح، وها إن عطر كل النساء هب مع أول شعاع انفلت من قبضة الغياب ليغمره وحده في شقته الباردة بالطابق الثاني، وجد نفسه يمتشق كل حماس الدنيا مغلفا بفرح غامض، ولكم أن تتصوروا كيف يمكن لعازب مثله يمتلك سريرا من سبيريا وجسدا إفريقيا أن يستعد لاستقبال ذلك الدفء البري. وكيف يمكنه أن يجتهد لإرضاء هذا الدفق العاطفي العارم… لقد استفاق مبكرا على غير عادته، وتزين بما يليق بعاشق ينتظر أنثاه، وحشد نفسه بأنواع الهمم والفحولات والفروسيات بما يليق ببطل روماني، ورفع من معنوياته حد الامتلاء وتأبط ضحكته الدبلوماسية وقصد سوق أسيما… اقتنى شرائح اللحم والفواكه والعصير والتبغ وكمية من الخضر وملأ القفة عن آخرها ثم أضاف كيسا بلاستيكيا وضع فيه بعض أنواع البيرة والويسكي فرحا كمضياف عربي عريق.          اليوم لا نوم ولا قيلولة، والجسد جذلان يغني أغنيات غريبة والنفس متيقظة والأشواق نهر فائض.

غُبَارُ الرّوح | محمد عطية محمود

غُبَارُ الرّوح | محمد عطية محمود

محمد عطية محمود (مصر):   تشعلين مصباحك الخافت في (كوَّته)، فيما بين سقف حجرتك وجدارها، فوق صورتك القديمة بشعرك المنسدل طليقا خلف كتفيكِ وعلى جانبي جبينك، ومحياكِ الباسم في خفوتٍ صبياني يحمل ثقلاً خفياً، ونظرة عينين وجلتين إلى مجهول.. بين الأبيض والأسود ترضخ الصورة في ظل مصفر باهت، يمتص ما سمح به الضوء الشحيح؛ فيزداد شحوبه وغمقته، وأنتِ تُشرفين على رؤوس أشباهٍ لكِ، بالدم، يصغرونك.. يتراوحون بين الطول والقصر، وملامح شغب عتي، ومسالمٍ، تتشكَّل في وجوههم الدَهِشَة.. ربما تميزتِ/ اختلفتِ عنهم ببشرتك السمراء النحاسية المطفأة، والمستسلمة في آن.. صِغاراً كنتم، أغراراً، لم تجمعكم إلا تلك الصورة الباهتة، القادمة من أغوار السنين.          تمتدُ يدكِ في فضائِك.. تتحسسُ منفضةَ سجائرك، العاجيَّة، ببقع حروقها المتناثرة على حوافِّها، بعضُها غائرٌ موغلٌ في لُحمتها، وبعضها سطحيٌ باهتٌ فيما بين الأصفر والبني، وقاعُها مسوّدٌ معتم من أثر الطفي.. تُراكِ تنفضين فيها رماد لفافاتك المتوترة؟!!.. أم تهيلين فيها غباراً متطايراً من أفكارٍ مشوشةٍ أو ندوبٍ تجتاح الروح؟!!.. أم تغمدين فيها ذاك الجسد المتألم في فضاء معتم يمتص رحيقه، أو ربما يمتص حياة الروح فيه؟!!          تزوغ عيناكِ في الصورة.. تُرى هل هُما عيناكِ مازالتا؟.. أم هما آثار لعيون منسية تركتيها ـ هناك ـ في منفاكِ الأول البعيد.؟!!.. تجتاحك الآن رغبةٌ في التماوج، الانسلاخ، والارتداد إلى عصا مكنستك القديمة، وأنتِ تكنسين غبار أيامك المنسيَّة هناك.. تُرى هل تصلُح مكنستك الكهربائية الحديثة، المعتصمة أمامك بركن الحجرة، لكنس ما تكدس من تراكمات غبار سنينك الجديدة، أم أنها صارت جزءً محبطاً من منفى بعيد اختزلك هنا؟!!          يفاجئك صوته، ترنيماته في أذنيك، التي اخترقت غربة جسدك وروحك، في مساحة انفلتت من زمنك، باغتت روحك، زلزلتها، أيقظتها من وهدة وحشة سجنتها في جسد قديم، هو جسدك المترع بشقاء الأيام وعناد الرياح من حولك. هل تُوحِشك الآن صورته، ملامحه، أم أنها صارت طيَّاً، وطيفاً معانداً يناوش رياحك، فتحيلها بنزقك نثار روحٍ تنسحق لتصير غباراً يتراكم على أرضك، من السهل أنْ تمتصه مكنستك الجديدة، فيهدأ الصوت ولا تسمعين أنينه الخافت، وسط ضجيج طقوس أيامك ـ بعيداً عنه ـ في أذنيك.          يعود ليهزك صليل قلبه المعدني، تميمته التي أودعها بين يديكِ، وأنتِ تطئين بأقدام روحك قبل جسدك، أرض منفاكِ القديم ـ الذي صار منفاه الجديد ـ فتهرعين إلى خزانة أشيائك؛ ينزلق شاله الحريري المضمخ برائحة عرقه ـ الذي طوّق به رقبتك ـ تحت قدميك ويلتف حولهما.. يتمسح ـ الآن ـ في ساقيك، بينما تغيبُ بين طيَّات ملابسك وشوشاتُ ضلوعه إليكِ ورسائلُ بوحه وحنينه، وخاتمه الذهبي المختبيء بخزانة أسرارك، ممهورا باسمه. تُرى هل صار قلبه حديداً بالفعل؟ أم أن قسوة أيامك قد مسّته وجففت أنهار حنينه إليكِ؟!!.. وهل مازلتِ تتوقين إلى ملامسة شاله، ضمُّه إلى صدرك، لفّه حول كتفيك وصفحة عنقك، والاستغراق في رائحة عرقه وبقايا عطره، والتلذذ بمخارج حروف اسمه التي تنطلق من جوف حنينك إلى شفتيك، اللتين كانتا مبللتين بندى عشقه، وتوحدك بك وانصهارك.          تقسو عليكِ نظرة شقيقتك، المطلة من الصورة، بملامحها التي مازالت تميل نحو الصفرة، تعكس اندهاشاً من نوعٍ مختلف، تمارس عليكِ دور الأم ـ الذي كنتِ تمارسينه عليهم بامتياز ـ تجعل من نفسها رقيبا عليكِ.. تشير أصابعها الطويلة المُشرَعة في اتجاه وجهك، بعدم الاقتراب، الابتعاد الواجب، عدم الوقوع مرة أخرى في شراك عنكبوت جديد!!.. أهكذا هي ترى علاقتك بآخر؟!.. وهي الآن في كنف دفئها؟!          يستدير صوته ليناوش روحك.. يتسلل، يوقظ بنعومة متوحشة مكامن صدرك، تهرع يدك نحو علبة سجائرك.. تمتص أناملك المحترقة واحدة، بينما تشتبك عيناكِ بنظرة أخيكِ الأكبر، بحنو نظرته وميلان رأسه نحو اليمين، تجاهك في الصورة ـ كما في الواقع ـ وكفك تربت على كتفه في اتكاء مرجو، وحنو تفيض به روحك.. يغشاك فيض مشاعره المرهقة، وهو يغتصب أسباب حياته اغتصاباً، وترتبط بكِ مشيئة أيامه بحبل سري يمتد برغم البعاد، يجعلكما الأقرب والأنقى والأصفى والأحن في حيز لا يعترف بالدفء.. تقفز في صدرك ووعي ذاكرتك الملتصقة بروحك، أشواق لقائه بك ـ طفلاً صغيراً كما بالصورة ـ عندما عُدتِ من أول منافيك، إلى منفاكم الأصيل، وتعلقه برقبتك، قبل أن يلتهمك أول عنكبوت ـ على حد تعبير شقيقتك ـ ويبتلعك طوفان آسر، يلفظك فيما بعد لطوفان أشد في غربة ممتدة بلا قرار.          ترتعش السيجارة بين شفتيكِ، تنتج أطيافا تتزاحم.. تتراقص على ضوءٍ شحيحٍ مضبب، تغتالكِ فيه أقدام متسارعة، صاعدة هابطة، على درجات سلم تتباعد وتتقارب بك.. تومض فيها نقاط مرتعشة لا تفتح طريقا لبصيص نور قد ينبسط، ربما أزاح بعضاً من عتمة.          تتلاعب في رأسك بقايا كلماته، ترنيمات عشقه، نداؤه الذي يشغل حواف القلب ويشعله، يطلق إسار الروح.. يسري خدراً محفوفاً بحذرٍ شديدٍ متردد في ثنايا الجسد المستسلم.. تؤلمك حدة نظرات أخيك الأصغر، وهو يقلِّب سيجارته على جانبي شفتيه، يجرع من كأس نزقه.. تشي ملامحه اللامبالية ـ في صورتكم ـ باستهتار وتهور مبكرين، فقد نمت به الأيام ورعرعت فيه نزعته للتوثب والانقضاض، برغم انضوائه تحت جناحي اغترابك!!..  حينما كانت تأتيكِ الإشارات الوامضة، حاملة نشواكِ وخدرك، على هاتف المسافات الشاسعة، تخترق جبالك وبحارك التي تفصلك عن فارس المشاعر النبيل، كانت تأتيكِ انقضاضة أخيك كسهمٍ نافذ، سكينٍ ناجزٍ يقطع حبال الوصال، فتنزوي كلماتك ويخذلكِ ضعفُك، ليشتعل الوهن في قلبك، والغضب في قلب ينتهبه عشقك، بليل كان لكما وحدكما، ونهارات ممتدة من الشوق والترقب والتقلب على جمر الانتظار. هل ترين أن فارسك كان ـ حقا ـ نبيلا؟!!.. وأنكِ ـ حقا ـ وُلدتِ، ثانية، من رحم روحه ونزقه، وافتتان روحه بكِ، وتطلعه لاقتسام بهجة ما تبقى من الأيام معك؟!.. أم أنه كان مجرد طوق نجاة، تشبثتِ به وتشبث بكِ.. داواكِ من سقم جرح غائر، خلَّفته فيكِ علاقة آسرة حميمة، بعنكبوت (آخر) نسج خيوطه حولك، واستسلمت له؛ فالتقمك.. أحكم قبضته عليكِ.. لم يفلتك، وأسرك في سجن البدن، ثم… لم يحتمل أحوالك، فلفظك.. تركك نهب تحرشك بعالم مازال يكشر عن أنيابه، لتنبت لكِ مخالب جديدة. فهل توحشت مخالبك، لتطول فارسك النبيل، وتُحدِث به ذات الجرح الذي مازال ينزف بداخلك؟!!.. ترى هل يغفر لكِ خطيئة أن حملتيه بعنادك على البعاد، بعدما نشبت فيه مخالبك العنيدة التي تشهرينها لأول مرة في وجه أحد؟!! هل مازالت تؤلمك بقايا نظراته الشاكية التي ظلت تحبو خلفك وأنتِ تولينه ظهرك، والمسافات بينكما تتباعد، في أعقاب أخر لقاء؟!!          ترتعش يدك على الهاتف.. هل تريدين ـ الآن ـ سماع صوته؟!.. أم أن صمتك مازال يخذلك.. يوخز مكامن روحك المحتبسة في جسدك.. يبطيء سير أيامك السكرى.. تنخذل روحك.. أم تتألق؟.. تشتعل جذوة عشقك.. أم تخبو؟.. فالصوت الساري في صمتك القادم من أغوار هجرانك وانكسارك، لا يشبع فيك نهم الخروج من شرنقة صمت يجثم عليكِ وعلى كل الأشياء من

الطائر الملعون | شيرين يونس

الطائر الملعون | شيرين يونس

شيرين يونس (مصر):   وقفنا جميعاً، حشوداً مجتمعة بالآلاف، في هذا اللقاء الأسبوعي، الرؤوس تتعلق بالسماء، وبهذا الواقف فوق تلته يخطب فينا. في حديثه سكينة، وعلى وجهه أمارات القداسة. أجواء إيمانية خالصة. نرتفع بأيادينا لأعلى، وكأننا نطرق للسماء باباً. دعوات وصلوات تُتْلى وسط تأمين جماعي. مضت الدقائق تطهر ما علق بأبداننا ونفوسنا طوال الأسبوع من خطايا. نشعر بكلماته تتناثر فوق رؤوسنا كالتبر، فيزداد المشهد بريقاً. لا حاجة لبكاء أونحيب؛ فكلها مظاهر دنيوية تسقط في هذا الطقس الإيماني بامتياز. لم تعد الأقدام تتحمل صلابة الأرض، وكأن مراسم التوبة خففت من أثقال النفوس والأبدان، فصارت الأرض تحتنا كبساط مخملي يمحو حدود الأرض بالسماء. وهو في ردائه الأبيض كرسول من السماء جاء ليمنحنا بركته. بعد انتهاء الخطبة، يسأله المؤمنون، بحماسة، أمارة لقبول التوبة. يجيبهم بابتسامة صافية، فتُحمَل إليه حمامة بيضاء. يهمس لها مانحاً بركته، ويطلق سراحها. تتعلق النفوس بجناحيها، فيختلط بياضها الثلجي ببياض السماء، فتزيد الجموع حماسة. يقطع المشهد، يظهر فجأة كنقطة سوداء، ثم تقترب، وكلما اقتربت تزداد ضخامة. يتجه حيثما الحمامة، وكأنه أراد بسواده حرماننا من اكتمال طقس توبتنا. نتابع المشهد مشدوهين. تتعلق قلوبنا بالحمامة، أمارة قبول توبتنا، فتطلب قلوبنا العون لها. يزيد الاضطراب بين الصفوف، ويبدأ المؤمنون صلاة أخرى لمساعدة ذات البياض الثلجي. تُغلَق العيون رافضة ألا تُقبَل توبتها، فيما تقل المسافة بين الجسدين الطائرين، حتى يحط عليها بمنقاره الضخم، فيختلط الأبيض بالأسود، ويرتفعان معاً، وتبتلعهما السحب. لحظات ثقيلة مرت، حاولنا البحث عن تفسير وسط غمزات المتشككين. وحينما فشلنا، انفض الجمع منكسي الرؤوس، وركب الجميعَ صمتٌ يشوبه الفزع والإنكار. وحينما حاول الأطفال إعادة رواية ما حدث، نهرهم آباؤهم، وأمروهم بالصمت؛ رغبةً في محوه من ذاكرتهم. حول أجهزة التلفاز، كان هناك اجتماع آخر لمن غاب عن الحدث لقلة إيمانه، أو لانشغاله. حان وقت إعادة بث الحدث الإيماني. يتابع الجميع المشهد: الأيادي المرتفعة للسماء، والوجه الساكن بقداسته؛ الحمامة المحمولة، والهمس، وإطلاق السراح. ولكن الحمامة طارت في هذه المرة عالياً، تودِّعها الجموع بكلمات مقدسة، واختفت حيث أراد الجميع لها، واختلط بياضها بالسحب دونما تعكير لصفو قبول التوبة. اختفي الطائر الأسود في إشارات البث وسط تساؤلات المؤمنين: هل كان حقيقياً أم اختلقته أرواحهم الشريرة؟ وفي الأعوام التالية استُخدِم طائر إلكتروني؛ لضمان ألا يتكرر ظهور هذا الطائر اللعين.