إن ذهابك إلى نفس المكان مرّات عديدة، لا يعني أبداً اكتشافك له. كانت زيارتي الأخيرة للصين مختلفة بعض الشيء؛ فقد شعرت هذه المرّة أن دوري كمترجمة يجتاز صفحات الكتب ليشمل نقل كل ما ألمس فيه فائدة وإضافة جديدة للقارئ، بداية من زيارة أماكن مختلفة ومروراً بتجارب قرّبتني أكثر من الثّقافة الصينية. قبل سفري مباشرة كنت أبحدث عن شيء ما على شبكة الإنترنت، حينما لاح أمامي عنوان «متحف الأدب الحديث»، دوّنت العنوان ووضعته على رأس الأماكن التي سأزورها عند وصولي إلى هناك.
عند نزولي إلى أقرب محطة مترو للمتحف، مشيت بما يقرب من عشرين دقيقة أو أكثر، وللتأكد من أنني أسير في الاتجاه الصحيح، سألت بعض المارة في الشارع، وكانوا يرشدونني جميعهم على المكان، والذي بدا لي أنه معروف جداً لعامة الناس. على باب المتحف، سألت الحارس عن ثمن التذكرة، ففوجئت به يقول لي إن الدخول مجاني، مما يعني أن أبوابه مفتوحة لاستقبال الجميع.
اُفتُتح متحف الأدب الحديث عام 1985، وجاءت فكرة إنشائه باقتراح من الكاتب باتـجين وعدد من الكتاب الآخرين، ويُعدّ هذا المتحف واحداً من أكبر المتاحف الأدبية في العالم. يضم المتحف 6 قاعات عرض مختلفة، كما أن به قاعة للقراءة ومكتبة تضم عدداً ضخماً من الأعمال الأدبية المختلفة. يقوم المتحف بشكل عام بالتعريف بالأدباء، المترجمين والنقّاد المتخصصين في الأدب، ويضم نماذج حقيقية من أعمالهم وبعض مقتنياتهم الشخصية. يصل عدد المعروضات في المتحف إلى خمسين ألف قطعة مختلفة؛ بين صور، مخطوطات أصلية، رسائل خطية، كتب، صحف وغيرها. كما يُعَرِّف المتحف الزائرين بعدد كبير من كُتّاب هونغ كونغ وتايوان.
تحتوي إحدى قاعات المتحف على الأعمال الأدبية للكاتب الكبير لوشون، والشاعر والكاتب جوه موه روه وغيرهما من الكتاب، بالإضافة إلى الأعمال الأدبية التي ترجع إلى فترة حركة الرابع من مايو وما تلاها من أحداث. بعد ثورة 1911 التي أنهت الحكم الإقطاعي الذي دام قرابة 2000 عام في الصين، بدأت فترة تاريخية جديدة تطرق أبواب الصين. وقبل إعلان جمهورية الصين الشعبية عام 1949، توالت أحداث مختلفة على البلاد، وكان الأدب جزءاً مهماً فيها أثّر فيها وتأثّر بها. في الرابع من مايو/أيار عام 1919 اندلعت حركة في بكين قادها شباب من مختلف الجامعات، ثم انضمّت إلى هذه الحركة طوائف مختلفة من الشعب، وتعرف هذه الحركة بالرابع من مايو، وكانت عبارة عن مظاهرات طلابية حاشدة اجتاحت أنحاء بكين، اعتراضاً على موقف الحكومة من معاهدة فرساي، كما هدفت الحركة أيضاً إلى معارضة الإمبريالية والإقطاع.
أدت حركة الرابع من مايو/أيار 1919، إلى اندلاع حركة «الثّقافة الجديدة» بقيادة مجموعة من شباب المثقفين، تطلعوا إلى إحداث تغيير في المجتمع الصيني، وكانت مجلة «الشباب» التي كان تشين دو شيوه رئيس تحريرها، وتغير اسمها إلى «الشباب الجديد» عام 1916، هي الوقود المحرّك لها. فكل هذه الأحداث رأيتها رؤية العين من خلال الأعمال الأدبية المختلفة المعروضة، فضلاً عن الصور المختلفة.
وفي قاعة آخرى تُعرض الأعمال الأدبية من الفترة بين (1937 – 1949)، وهي فترة حرب اليابان مع الصين وحرب التحرير، إلى إعلان جمهورية الصين الشعبية. كما عرضت بعض الصور، وبعض التسجيلات الصوتية واللقطات الحيّة.
من دواعي سروري في هذا اليوم زيارة قاعة الأدب المعاصر، والتي كانت فكرتها مبتكرة للغاية؛ فحائط القاعة مُصمّم على شكل مكتبة كبيرة، وكل رف به مجموعة أعمال لكاتب بعينه بالإضافة إلى صورته وتعريف به. رأيت صوراً عديدة لكتّاب التقيت بهم وترجمت أعمالهم، وتعرفت إلى عدد أكبر من الكتّاب الذين لم أكن أعرفهم من قبل. يوجد ركن في القاعة نفسها، معروض فيه صور للأدباء الأجانب الحائزين على جائزة نوبل، والذين قاموا بزيارة الصين، من ضمنهم الكاتب التركي أورهان باموق. الذي تُوِّجَ بالجائزة عام 2006.
بين قاعة وأخرى هناك قاعة صغيرة مُخصّصة للندوات الأدبية، والتي يُعلن عنها في مدخل المتحف. عرفت من العاملة في المتحف أن هذه الندوات تُقام بشكل أسبوعي، وتكون الدعوة لعموم الناس.
«إن وجد الحب وجد كل شيء». هذه مقولة للكاتبة بينغ شين نُحتت أسفل تمثالها الموجود بحديقة المتحف؛ أكثر شيء ملفت هو تلك الباقة التي كانت بجانب تمثالها، رحلت بينغ شين منذ أمد بعيد، ولكن مازال الناس يتذكرونها ويهدونها الأزهار. إن حديقة المتحف رائعة جداً، مصممة على الطراز الصيني التقليدي، تتوسّط الحديقة بحيرة جميلة، تحيطها النباتات الصينية المختلفة، بالإضافة إلى تماثيل أدباء آخرين مصنوعة من البرونز والنحاس واليشم، مما يُضفي على المكان أجواء أدبية خالصة.