الرئيسية | سرديات | همس… | خالد عاشور

همس… | خالد عاشور

خالد عاشور  ( مصر):

 

البيت حجرة، بالضبط حجرة، تحت السلم تستقر، نعم تحت السلم، الصاعد والهابط يمر عليها، والليل يجئ، دائماً يجئ، وإذا جاء لا يجئ بمفرده، أبداً لا يجئ بمفرده، فمعه يجئ الصمت، ذلك الصمت الممل، الصمت القاتل، وحين يسود الصمت تسكن الأنفاس، ولكن بلا توقف، فقط تسكن، ويأتي دورها لتمارس نفس الطقوس اليومية..!!

ككل يوم قبل أن يأتي تستعد لمجيئه، ككل يوم تكون قد خلعت ملابسها إلا من قميصها الشفاف، لأنه حين يجئ تكون الدنيا ظلاماً، وفى الظلام يبحث عنها، ككل يوم يبحث عنها، يعرف مكانها وماذا سيفعل بالضبط دون صوت..!! فالليل سكون، وفي السكون يكون للهمس صدى وهي تخشى أن يسمعها أحد وهي تمارس معه شرع الله..!! حتى تلك الأيام التي تأتيها دورتها الشهرية، حتى تلك الفترة لا تتكلم وتقول أنها أتتها، فقط في همس تفهمه، فقط في همس، وكأن الهمس أصبح عادة، وكأنه تلك اللغة التي لا تعرف غيرها.. همس.. همس.. همس…

مرات قلة راودتها الفكرة، في البدء كانت مجرد نبتة بداخلها ما لبثت بعدها إلا وأن نمت حتى صارت مارداً، والفكرة قد تكون بسيطة بالنسبة لها، غير أن الهمس الدائم يعود فيخبرها بأنها مستحيلة، الفكرة سؤال، والسؤال لماذا لا تتكلم وتصارحه ذات مرة أنها ملت ذلك الصمت وهو يفعل معها شرع الله؟ لماذا هي محرومة من أن تبوح بآهاتها وأناتها؟ أكتب عليها الهمس؟ في الحجرة همس؟ وحين يسافران إلى أهله أو أهلها همس؟! في كل مكان أصبح الهمس هو السائد، ولكنها في كل مرة تعجز أن تتكلم وتلوذ أخيراً للهمس والصمت، وكأن الهمس خلق معها حين خلقت وكتب عليها..!! ومع الأيام تموت الفكرة، غير أنها أحياناً تطل عليها من قبرها لتراودها قليلاً وتعود إليه، غير أن ذات الفكرة عادت للحياة حين جاء..!! هو شاب في الثانية والثلاثين، له شارب كث، وبشرة سمراء، طويل القامة كفنار، يمر عليها مرتين، مرة في الصباح والأخرى وهو عائد في المساء، يسكن بالدور الثالث، كثيراً ما يبعث في طلبها كي تبتاع له حاجياته، كثيراً ما نفذت نظراته إلى داخلها حتى أنها تشعر أنها تتعرى أمامه أو تكاد، سُمعتُه تصلها تفصيلاً من زوجها، الصاعدات والهابطات إليه لا يمتون إليه بصلة، برغم صغرهن جميلات ممتلئات بالأنوثة، برغم صغرهن بعيونهن تبرز آلاف الرجال، من النظرة الأولى لهن كانت تشعر أنهن عاهرات، من النظرة الأولى تحسدهن على ممارسة حقوقهن بصوت يخلو من الهمس الذي تحيا فيه، وهي المحرومة برغم أنها أنجبت طفلين أحدهما في السادسة والآخر في الرابعة، الهمس أصبح بالنسبة لها قاعدة، أما ما عداه فهو شاذ، لا تتخيل حين تخلو إلى نفسها أن هناك نساءاً يمارسن ذلك بلا صوت، وهل هن قادرات على كتم الشهوة؟ هي الوحيدة القادرة على كتم شهوتها بالهمس، ذلك الهمس المزمن الطويل، الهمس الذي لازمها طيلة حياتها، تعود أحيانا بالذاكرة إلى الوراء، وقتئذ كانت طفلة لا تدرك كنه للهمس، هي وأخوتها ووالداها يحيون في حجرة واحدة، هما الأثنان ينامان فوق السرير وهم يفترشون الأرض من حوله، أذنها دائماً كانت تلامس الأرض كوسادة تتحول ساعتها إلى مجسات تتسمع بها اهتزازة السرير، لا يستمر الاهتزاز سوى دقائق ثم يهدأ كل شيء، كل الذي ما زالت تتذكره ذلك الهمس، صوت أبيها وهو يهمس، يتبعه همس آخر يصدر عن أمها، مجرد همس لا غير، بعدها يبدأ السرير في الاهتزاز، صحيح أن الهمس منذ أن ولدت وهي تسمعه وقد تعودت عليه، ولكنها لم تتخيل أنه قد كتب عليها أن تعيشه بعد ذلك، تعرف ميعاده بين أبويها، حين يأتي ذلك اليوم مبكراً حاملاً معه علبة»الهريسة” بالمكسرات وربع»الكبدة الاسكندراني”، يومها فقط يأمرهم أبوهم أن يخلدوا للنوم مبكراً، يومـها أيضاً يبدأ الهمس بينهما، يهتز السرير لدقائق معدودة ليعود الصمت الممـل، مخلفاً وراءه فحيح الهمس الذي كان يتردد منذ قليل بين أبويها..

غصة راودتها يوم دعاها ساكن الدور الثالث، مصدر الغصة أنه طلب منها تنظيف الشقة، شقته دائماً نظيفة، رأتها أكثر من مرة في صعودها وهبوطها بينما يكون الباب موارباً، إذن لما تكون الدعوة؟ وما هو سببها؟ تخشى نظراته وتحس بأنوثتها أنها نظرات ملوثة، تعلم تمام العلم أنه يريدها، الأغرب أنها بالنظرات أصبحت ترتاح إليه، فقط ترتاح إليه، غير أن الغصة التي زارتها ذلك اليوم لأنه لم يكتف بطلبه تنظيف الشقة فحسب، أبداً لم يكتف، بل عبر عن إعجابه بأنها»وردة ترفل في الطين” وأنها لو كانت زوجته لجعل لها قصراً تسكن فيه ولألبسها أفخر الثياب، ساعتها لم تفرح بأن قيمتها قصراً أو ثياباً فاخرة، مبعث فرحها أنها تخيلت نفسها والهمس بعيداً عنها، غير أنها لم ترد عليه بالإيجاب وانسحبت تهبط درجات السلم في سرعة لتدخل حجرتها التي تستقر تحت السلم وتغلق بابها عليها ليعود الهمس يرفرف بجناحيه في سماء الحجرة.

يوماً وهو عائد أنبها لأنها لم تلب طلبه في تنظيف الشقة، تأنيب آخر في اليوم الذي تلاه، غير أنها في اليوم التالي لذلك اليوم وهو يغادر باب العمارة استوقفته، طلبت منه مفتاح الشقة لتنظيفها في غيبته..

صعدت هي بعد أن خرج، فتحت باب الشقة، الشقة فخمة، تنعم في الثراء، قطع من ملابس داخلية أنثوية ملقاة في كل ركن من أركان الشقة، أمسكت إحداها، تشممت العطر المنبعث منها، أزكم أنفها لشدته فراحت تسرح في صاحبته، أتكون مثلها تمارس حقها بالهمس؟! أمثلها ولدت مع الهمس وعاشت تمارسه في همس؟ ثم ما لبثت أن ألقته وراحت تتجول بالشقة، غرفته الخاصة أفخم ما بالشقة، السرير يتوسط الحجرة، كبير ومريح من منظره، تستقر فوقه بيجامته الحمراء، تلمستها، نفذت إليها رائحته القوية، له عرق غريب – ليس منفراً – يوحي بفحولة، تاهت في خيالاتها، تمددت فوق السرير، انتابتها حالة من الثورة، خلعت عنها ملابسها وراحت تتمرغ فوق السرير الذي غاصت فيه، أعلنت ثورتها على الهمس وراحت تتأوه معلنة نهاية زمن الهمس، وغابت عن الوعي حتى وهي تشعر بأن هناك يداً تتحسسها، ذلك الإحساس لم يجعلها تستفيق من غفوتها، تشعر باليد التي تقتحمها، تحس بأكثر من ذلك وبأن هناك جسدا يحتويها في غيبوبتها فتتأوه للمرة الأولى بلا همس وبصوت عال..!! تعلو الآهة تلو الآهة، للمرة الأولى تشعر أنها أنثى، يطبق عليها الجسد ويعتليها وهي ثائرة تتأوه في صوت عال، الهمس مات، الآن فقط مات، أخيراً راح بلا عودة، ملعون هو، منذ ولدت يلازمها، مرة واحدة يتركها اليوم، آه تلو آه حتى اهتز الجسد المعتليها في نشوة وسكن بعدها لتعود من غيبوبتها إلى الواقع.

حين أفاقت ورأته، صرخت، كأنه موت أتاها بلا ميعاد، أخذت تعدو نحو الباب لتخرج، تبعها وأستوقفها بعد أن نبهها إلى أنها ما زالت عارية، كل الذي فعلته أنها ارتدت ملابسها في صمت، وفي صمت غادرت الشقة…

حين عادت إلى حجرتها شعرت بأن هناك نشوة ما بداخلها، فرح ما يشع من جنباتها، مات الهمس وها هي للمرة الأولى تجرب بلا همس…

في الأيام التالية للقاء الذي تم كانت تتحاشى رؤيته وهو هابط أو صاعد…

لم تتحمل العودة إلى الهمس فصعدت بإرادتها لتعلن بداخلها نهاية الهمس بلا رجعة، أكثر ما كان يريحها ليست قوته ولا فحولته، كل الذي كان يريحها أنها تمارس معه ذات الشيء بلا همس.. تصرخ.. تتآوه.. يعلو صوتها أكثر فأكثر في كل مرة متحدية ذلك الهمس القديم…

بالليل حين جاء زوجها بحث عنها في ظلام الحجرة، هنا كان يعود الهمس الكئيب، في همس يطلب مضاجعتها، وفي همس يتمدد فوقها، في همس كذلك يطوقها، هذه المرة لم يطوق جسدها كعادته، هذه المرة طوق رقبتها.. همس تلو همس حتى يفرغ من شهوته وهو ما زال مطبق على رقبتها بأصابعه، تشتد قبضته أكثر فأكثر، تتحشرج أنفاسها، وفي همس أيضاً أخذت تدور بها الدنيا، الهمس يعلو حولها ويأتيها بهمسات الماضي، أمها وأبيها وهما يهمسان، في همس تسمع صوت ساكن الدور الثالث يصل أذنيها، تتذكره وتتذكر كسرها للهمس بين يديه..!!

للمرة الأولى بينها وبين زوجها تخرج عن الهمس حين أطبق على رقبتها، للمرة الأولى تأخذ في الصراخ، يخرج صراخها مبحوحاً ضعيفاً تتبعه آهات غير آهات اللذة التي عهدتها مع ساكن الدور الثالث، آهات وصرخات مستغيثة هذه المرة، غير أن صرخاتها وآهاتها تضعف حتى تتحول إلى همس كلما اشتد بقبضته أكثر، وفي همس أيضاً تسكن أنفاسها وتتوقف، فقط في همس.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.