الرئيسية | سرديات | هلوسة اعتراف | عبد الجليل ولد حموية
bmd

هلوسة اعتراف | عبد الجليل ولد حموية

عبد الجليل ولد حموية

 

 

شربنا من كأس الخيبة خمارة، جفت الأقداح قبل أن تجف الثمالة في الفؤاد، جرت الكؤوس في مخيلة المتفائل قبل أن يضعها العراب فوق ركبتي القابلة، معلنا قدوم أحد البؤساء. فتحتْ أول قنينة كآبة بمفتاح بؤس تصبب عرقا قبل أن تبلغ الفلينة حلقوم الحظ وتحبسه عن أمثالي، يلينُ القدر أمام رغبة من يمتلك الأموال، يبيعه القنينة والمفتاح والفلينة المرتشية. ارتشفنا من ثدي النحس دهرا حتى جف الإنتظار في قلب المسافر، وآمن العدمي بحياة بعد الموت، جدد البيعة للسماء وطرد فكرة الانتحار من عقله، أضرم النار في تأوهات  نيتشه بعد عذاب لو سالومي و اعترافات شوبنهاور لنفسه بصوت مرتفع وتوصيات كافكا قبل أن يعق والده و رحلة كويليو مع سانتياغو بين الصحاري باحثا عن رواية أخرى تقارع الخيميائي. توهمنا السعادة يوما، فطن القدر لمحاولة الخيانة، فأنزل علينا نبالَ الغبن والبؤس.. هل يعاقب التائه في صحراء الكآبة على سراب سعادة زاره قبل زيارة عزرائيل؟ ايشعر أحد ما مزوشيٌ بالخيانة لو تمثلت  فسحة أمل لِميت حي؟

كم هُجر العشاق عبر التاريخ ولم يلتفت إليهم، توقف قليلا أشعل سيجارة محشوة بهزائم قوم لا زالوا يعتقدون أنهم خير أمة أخرجت من المثانة، ابتسم بسخرية ومر. سيرورة التاريخ قوادة بطبعها، تشبه شعراء البلاط، لا تلتفت إلا إلى الأسماء الرنانة، وتقذف بالمهمشين إلى مزَابله.

لملم خيبتك وعلقها على شاهد بيت تزوره النساء طمعا في عريس يُخرجهن من سجن المجتمع، يأتي على حصان وهمي، يتخيل نفسه فاتحاً مغواراً،  شجاعاً قادماً من كوكب آخر لينقذ الفتاة من سيوف إنتظار تنخر ذاتها المنعدمة. عندما يصل إلى حافة البيت تصادفه بركة ماء تعكس صورته الحقيقية، مجرد حمار يمتطي فرسا من فراغ أفنى حياته في عدِّ قطرات العرق العالقات بين فقاعات الصابون وحبل نشر الغسيل، لعله يفلح في تحويلها إلى رغبات اجتماعية منمطة لا دخل لما يريده “هو” فيها. يسعى خلف قطرات دم جُمدت داخل عذراء جسمٍ منذ وجودها كأنثى، مشروع زواج يتكالب الجميع في تشييده وسط الإنسان”هي”. تغسل ببكارتها وجه ذكور، تحت الِتبان فقط، ينتظرون الدم لِيشرئبوا إلى السماء بفخر ويرسموا بين السحاب بالبريق المنبعث من مُقلهم الدنيئة كلمات شرف يشاهدها الآخر، ربما يرضى على ما قاموا به ويمنح لفمه عطلة الإكتفاء بالتهام الطعام. من أخاطب في ظلمات الليل وانعدام الدليل؟ لا أحد يسمع أنينك الصاخب أيها الأنا. توقف عن تصنع محاورين من خشب منحوت من هلوساتك المرضية، ربما. كيف أتوقف عن اِلتهام نفسي كلما ولجت غُرفتي، كلما وجدتني وحيدا بين شخصيات تعيش داخلي ولا أعيشهَا، لكنني أعرفها بالرغم من أنها لا تعرفيني…كيف أصبحتُ بارادوكساً هكذا؟ ربما اِلتقفتني اللعنة عندما فتحتُ فمي لضفدع عوض أن يَعدّ أسناني المسوسة غمز بعينه ونق بعيداً، أو عندما أوهمتُ والدي بتصديق قصصه الدونكيشوتية ويقين داخلي يراودني أنه أطلق العنان لِكلب سلوقي لصناعة قصص لا وجود لها، كان علي ايقافه والصراخ في وجهه ” أنت كاذبٌ يا والدي” و أتحمل عناء الكرسي المتحرك بقية حياتي، أهون من تحمل هاته الإعاقة الفكرية…

كنت قاسيا ربما على انعكاس صورتي في المرآة هذا المساء، عندما ابتلعت الريق عوض نثره فوقها. منافق حتى النخاع، اتصنع الحشمة من النظر إلى الماضي كي لا أختنق بعمليات نصب على أشخاص وضعهم القدر في طريق إشباع حيوان ورطتني به الطبيعة. استغفرتُ بعدد زغيبات الإمام الملتزم، صليت بجميع الطرق الممكنة، تصدقتُ بجورب قديم احتفظ به كتذكار أمٍ ولدتني قبل أن تولد، قطعتُ وعدا أن أهجر قطع الوعود، لكن الجُرم عالق بين حواشي التاريخ غير المكتوب. كم حلمت باغتيال عذرية إحداهن، لِأفخر بذلك في حلقيات الأصدقاء، اقترفت البحث طيلة غبائي الأنطولوجي عن فريسة أروي بدمائها عطشي الغريزي، وأثثتُ بها حكاياتي المُمللة كمَلل شهر غشت بمدينة الخميسات.

لست شاعرا للأسف، كي أقتل زلاتي بالاستعارات والصور الشعرية، التحف الثواب بين دموع الحروف المنقوشة على ظهر أبيات رديئة كتبت لأتلقى نقدا منافقا بها، أو أتخيل الوجود لا منطقيا لأخفي جرائمي. كما أنني لست روائيا لأبرر ذلك بالإعداد لعمل عظيم، أتصنع الجري وراء أحداث أطعم بها الخيال ليستفيد من تجاربي القراء، والنقاد المطاردين التعويضات بين دفات الإبداع، وأولئك الذين تملكهم الكسل وسيطر عليهم البؤس حد عدم القدرة على التجربة، فاكتفوا بتقمص شخصيات تعيش بين صفحات الكتب. ولست نبيا أيضا أنتظر الوحي من السماء لأقوم بخطوتي القادمة. أنا مجرد “أنا” فارغة تصارع لتبلغ الثمالة بعقد الحياة، خرجت إلى الوجود بعدما أغلقت خمارات الحظ وطرد گرابة التوفيق، أذنى من فكرة زارت عقل مخلوق عظيم لما أغمض عيني، أصغر من ذنب عابر وأكبر من لاشيء بقليل…

لو كان هناك بد من محاكمتي. أنا أعترف بكل ما نسبته لي، فقدتُ بكرتي الفكرية منذ المراهقة الأولى، عندما تغزلت بي الحياة، استدرجتني إلى غياهبها، اغتصبني برغبة مني دفينة.

أطالب بأقصى العقوبات: جهنم وبئس المصير…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.